مقتطفات عن ماهيّة عشيرة آل بري
نائل حريري
لا أعرف منذ متى بدأت سطوة هذه العائلة. لكنني منذ ولدت وأنا أسمع بها وبمصائبها. وبالأخص أسمع بسلسلة الثأر الشهيرة بين آل بري وآل حميدة. لا أعرف من بدأ بهذه القضية ولا كيف بدأت وربما نسيت العائلتان بداية القصة. لكنني وأنا صغير تعرفت إليها للمرة الأولى واكتشفت أنّه في كل بضعة أشهر يثأر آل بري من آل حم
يدة، ومن ثمّ يث
أر آل حميدة من آل بري، فيثأر آل حميدة، فيرد آل بري، فيرد آل حميدة… وهكذا
سمعت بأوّل حادثةٍ من هذه السلسلة وأنا صغير، حيث كان والدي يتحدّث عن أنّ أحداً من عشيرة بري قد لمح ابن حميدة في أحد الميكروباصات، فأخرج رشاشه “يبدو أنهم مسلحون دائماً وأبداً” وأطلق زئير رصاصه على الميكروباص بأكمله. وحين سألت أبي؟ وهل قبضت عليه الشرطة حين قتل هؤلاء؟ أجابني: هدول بيت بري، بكرا بتعرف
استغرق الأمر مني بضع سنوات كي أكبر وأعرف كيف أصبح هؤلاء أكبر عشيرة في حلب، كانوا يمتلكون وكالةً حصريّة في تهريب المخدرات إلى داخل سوريا، وكانوا معروفين بتوزيع حبوب المخدرات على بسطات الدخان التي يشرفون عليها وتركوا بصماتٍ سوداء في حياة عشرات آلاف الأسر التي خسرت شبابها بسببهم. وكان ذلك يتم بمباركةٍ من السلطة التي تعهّدت لهم بكرسي دائم في مجلس الشعب. وبالفعل لم تكذّب السلطات وعدها فكانت كل دورةٍ تأتينا بنائب جديد من عشيرة البري محصناً بحقيبته الديبلوماسية
ولم تكن هذه قضيةً بالنسبة للسلطات، فحين كانت تحصل مصيبة من عيارٍ ثقيل يروح ضحيّتها عشرات الأشخاص كانت العشيرة تنتقي فرداً من أفرادها لتلبسه التهمة، وتتكفل بمصاريف عائلته وإكراميته طيلة فترة غيابه. فيحكم عليه بالإعدام، ويحبس شهراً أو أقلّ أو أكثر ثمّ يخرج حرّاً طليقاً كأنه لم يحدث شيء. ويبدو أنّ القضايا الثقيلة التي لا يمكن غضّ الطرف عنها (كما قلنا فإنّ قضايا بسيطة كمثل حادثة الميكروباص كانت تمرّ مرور الكرام) كانت أكثر عدداً من شباب العشيرة “الشييلة -أكباش الفداء” لذلك صادف أنّ كثيراً من شباب العائلة يحمل عدّة أحكامٍ بالإعدام من ثلاثةٍ إلى سبعة (علي زين العابدين آل بري الشهير بزينو والذي شاع مقطع تصوير إعدامه كان من بين المحكومين بثلاثة أحكام إعدام أصلاً) والبعض يقول بوجود من لديهم عشرة أحكام إعدام مجتمعة
في بداية الأحداث صدمتني رؤيتهم لأوّل مرّة في منطقة السليمانية أثناء اعتصام نقابة الأطباء الشهير بحلب والذي شارك فيه أصدقاء لي وكان من أوّل حركات الاحتجاج في المدينة. يبدو أنّ سلطتهم كانت أقوى وأكبر من سلطة الأمن نفسه
في لقاءٍ جمعني برئيس فرع المخابرات الجوية في حلب (أديب سلامة) أيام موضة الوفود من المحافظات، صادف أن فتح البعض موضوع عشيرة بري فقال وقتها ساخراً بالحرف: “بيت بري؟! نحنا منقدر عليهن؟ هدول الله ما بيقدر عليهن؟!” وكانت هذه خاتمةً كافيةً لعدم الخوض في باقي تفاصيل الموضوع
بعدها وفي حادثةٍ فريدةٍ من نوعها خرج وفد من عشائر حلب يضمّ أربعين وجيهاً من وجهاء العشائر إلى القصر الجمهوري لمقابلة الرئيس الأسد، وأعلن في اليوم التالي عن خبرٍ مرعبٍ للغاية (36 من أصل 40 من أعضاء هذا الوفد محكومون بالإعدام، وبدل أن يتوجهوا إلى حبل المشنقة توجهوا معززين مكرمين إلى القصر الرئاسي). وتنقل حادثة عن هذا الوفد أنّ أحد الوجهاء حين سأل الرئيس الأسد عن طلباتهم قال: “نريد سلاحاً” فقال الرئيس الأسد: “انتو ناقصكن سلاح؟!” ويبدو أنّ في ذلك إشارة إلى معرفة الرئيس الأسد بنشاط تجارة السلاح الذي يديرونه
اليوم يعرف عن آل بري أنهم يمثلون ما تمثله الفرقة الرابعة في دمشق إنما بسلطةٍ فوق قانونية. حيث أنّ الأمن والشرطة تعتمد عليهم في إرهاب وقتل المتظاهرين كي يدعم ذلك ادعاءها بأنّ قوات الأمن والشرطة لا تهاجم أحداً. لا يوجد لديهم خط أحمر، ولا يمكن توقع أيّ رحمة أو شفقة منهم. وكنت قد حضرت بأمّ عيني تهديد أحد هؤلاء لرجل أمن عند ساحة الجامعة وشاهدت كيف أنّ رجل الأمن حاول استرضاءه: “ازرعها بدقني خلص الله يخليك” وكان جواب الشبيح: “كرمالك هالمرة بس”. هكذا أجاب رجل العشيرة رجل الأمن
جدير بالذكر أنّ كثيرين من آل بري مثقفون ومهندسون وأطباء ومحامون، وهم لا يرضون عن نشاط هذه العشيرة ومعظمهم اضطر للسفر خارج حلب وبعضهم خارج سوريا. وأعرف منهم كثيرين ممن يرفضون ربطهم بما تقوم به العشيرة الشهيرة
يبدو أنّ أرشيف عشائر اللجان الشعبية أرشيف طويل يمكن لدى فتحه يوماً ما أن يضيف الكثير إلى القصص التي يمكن أن نرويها، وإلى مادة الفن التراجيدي الأسود الذي يمكن أن يخرج إلى النور لاحقاً
عن صفحات في الفيس بوك.