«مقدمات» لمرحلة سورية جديدة؟!
محمد مشموشي *
لعل الخطأ الكبير الذي وقعت فيه الجامعة العربية، وبعدها مجلس الأمن الدولي، في مقاربة الأزمة المديدة (أربعة عشر شهراً حتى الآن) بين النظام السوري والثورة الشعبية المتصاعدة ضده، تمثل في التعاطي «البريء» (هل هو بريء فعلاً؟!) مع المقولة التي رددها النظام منذ اليوم الأول للثورة عن وجود «عصابات مسلحة» وبالتالي «عنف متبادل» في سورية أكثر من أي شيء آخر.
كانت مقولة النظام هذه مدخله للهروب من موجبات الثورة ضده، وحتى من «الإصلاحات» السياسية التي تحدث عنها، إضافة طبعاً إلى إفشال مبادرة الجامعة العربية سابقاً تحت عناوين لم تخرج أبداً عن الذريعة ذاتها. وبنظرة سريعة إلى ما يفعله النظام إزاء خطة المبعوث الدولي – العربي كوفي أنان، فهو لا يخرج بتاتاً عن الهدف إياه، على رغم ادعاء التزام الخطة والإيهام بأنه يرغب في تنفيذ بنودها.
ولا يعني غير ذلك، عملياً، سعي النظام لتطويق خطة المبعوث الدولي – العربي منذ إعلان موافقته عليها بعدد من المناورات التي تصب في الإطار ذاته على الشكل الآتي: أولاً، ربط الناطق باسم الخارجية جهاد المقدسي قبول الخطة بضمانات مكتوبة من كل من السعودية وتركيا وقطر بعدم تسليح أو تمويل أو تشجيع «المجموعات المسلحة» وحديث وزير خارجيته وليد المعلم عن «حق القوات المسلحة السورية، على رغم ذلك، بالدفاع عن النفس». ثانياً، تأجيل بدء تنفيذ الخطة إلى يوم 12 نيسان (أبريل)، وليس 10 منه كما هو النص، بهدف تصوير الأمر وكأنه «وقف إطلاق نار» بين فريقين متحاربين، مع أن الخطة حددت يوم 10 نيسان لسحب الدبابات والمدرعات والمدافع من الشوارع ليتبعه التزام الثوار يوم 12 منه. ثالثاً، المسارعة إلى اتهام المعارضة، منذ الساعات الأولى لبدء التنفيذ يوم 12 نيسان، بخرق ما وصفته تصريحات أركان النظام بأنه «وقف إطلاق النار». رابعاً، اشتراط الوزير المعلم أن يكون المراقبون الذين أطلق عليهم وصف أنهم «قوات حفظ سلام» (وللتعبير مغزاه من وجهة النظر السابقة إياها) من دول «محايدة»… أي عملياً، مؤيدة للنظام.
ومن دون إغفال المصالح الخاصة وعلاقات القوى في العالم، فلا شك في أن الذريعة ذاتها كانت ولا تزال في أساس الموقفين الروسي والصيني اللذين شكلا شبكة أمان كاملة لهذا النظام حتى الآن سواء في مجلس الأمن أو أمام اللجنة الدولية لحقوق الإنسان أو في وجه الدعوات لإحالة جرائم النظام إلى محكمة الجنايات الدولية. وإذا كانت الصيغة الأخيرة لقرار مجلس الأمن، كما أقرت في نهاية المطاف، قد وفرت لنظام بشار الأسد فرصة جديدة لمواصلة عملياته الحربية ضد شعبه وسفك المزيد من دمائه، وصولاً إلى إفشال الخطة كلها كما كانت الحال مع المبادرة العربية، فاستخدام هاتين الدولتين سيف الفيتو (حق النقض) مرتين قبل ذلك لمنع المجلس من إصدار قرار حاسم يضع حداً للأزمة ويحقق طموحات الشعب السوري في الديموقراطية والحرية والعدالة، إنما وجد مبرراً له (أمام شعبي الدولتين على الأقل) في مقولات النظام عن «المجموعات المسلحة» و «العنف المتبادل» من ناحية أولى و «المؤامرة الخارجية» من ناحية ثانية.
ولعله لهذا السبب تحديداً، بدا وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف (أكثر من زميله الوزير المعلم، ومن دون مناسبة في بعض الأحيان)، أكثر حرصاً على رفع لافتة «العنف المتبادل» كلما جرى الحديث عن إنهاء حملة القمع التي يقوم بها نظام الأسد بدعوى محاربة المسلحين وإحباط «المؤامرة الخارجية» التي يقول إنها تستهدفه.
لكن، هل يقف هدف النظام عند حدود محاولة كسب الوقت، على الطريق إلى إنهاء الثورة بالقوة المسلحة، وتالياً إفشال خطة أنان فقط، أو أقله اعتبارها كأنها لم تكن؟
غني عن البيان، أن التكتيكات التي يقوم بها النظام – سياسياً وديبلوماسياً وعملياً على الأرض – منذ إعلان موافقته على خطة أنان ذات البنود الستة واستقباله طليعة المراقبين الدوليين، تشي بما قد يكون أبعد من ذلك وأكثر خطراً منه بكثير.
فالإصرار على مقولات «العصابات المسلحة» و «العنف المتبادل» و «المؤامرة الخارجية»، مضافاً إليها اعتبار أن الخطة الدولية – العربية هي مجرد «وقف إطلاق نار» بين قوات النظام وهذه المجموعات، يعني بالنسبة للنظام، الذي طالما حذر من «حرب أهلية» سورية ومن «زلزال» يعم المنطقة كلها في حال تهديد النظام في بقائه، أنه لن يدع باباً إلا ويطرقه ولا نافذة إلا ويستعملها، للهروب من المصير الحتمي الذي بات ينتظره: السقوط.
بعد «وقف إطلاق النار»، الذي تبناه النظام وادعى أنه وافق عليه ويسعى إلى التزامه، لن يكون مستغرباً أن يسمع السوريون والعرب ومعهم العالم في الأسابيع القليلة المقبلة كلامه على «خطوط تماس» بين المناطق وربما داخل المدن والبلدات والقرى السورية. وقد لمح النظام علناً إلى ذلك عندما تحدث في مرحلة سابقة عن انسحاب قواته من الزبداني أو جسر الشغور أو غيرهما.
وبعد تعبير «قوات حفظ السلام»، الذي استخدمه النظام من دون غيره من دول العالم في وصف المراقبين، لن يكون مفاجئاً أن يبدأ مسؤولوه باتهام المراقبين بعدم الحيادية من جهة، وبالمشاركة في تنفيذ «المؤامرة الخارجية» من جهة ثانية، وبانتهاك سيادة الدولة السورية من جهة ثالثة. ولا يعني كلام جهاد المقدسي عن ضمانات مكتوبة من السعودية وقطر وتركيا بعدم تسليح المعارضة أو تمويلها أو تشجيعها، وإن لم يكرره مرة أخرى، إلا إشارة ذلك.
وبعد إعادة رفع لافتة المعلم، في سياق إعلانه الموافقة على الخطة، القائل بـ «حق قوات النظام بالدفاع عن النفس»، وكلامه على مسؤولية هذه القوات عن حفظ الأمن وملاحقة وتوقيف المسلحين غير الشرعيين، من يضمن عدم لجوء النظام إلى تحويل فريق المراقبين إلى ما يشبه «شهود زور» تقتصر مهمتهم على تسجيل الخروقات… على الطريقة السورية ذاتها في لبنان على مدى سنوات الحرب الأهلية فيه؟
ليس جديداً القول إن نظام بشار الأسد استعد منذ بداية الثورة، والبعض يقول منذ أيام الرئيس السابق حافظ الأسد، لاقتطاع مساحة محددة له من الأرض السورية ومواصلة القتال منها دفاعاً عن نفسه لشهور وربما لسنوات… حتى لو أدى ذلك إلى زج البلاد في حرب أهلية وتقسيمها في نهاية المطاف.
هل تعطي المقدمات الآنفة الذكر مؤشرات إلى مرحلة سورية جديدة: بدء وضع هذا السيناريو قيد التطبيق الفعلي؟
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة