مراجعات كتب

مقدمة كتاب “الثقافة كسياسة” لياسين الحاج صالح

تعمل‭ ‬نصوص‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬على‭ ‬إظهار‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬سياسي‭ ‬في‭ ‬الثقافة،‭ ‬وكشف‭ ‬ممارسات‭ ‬سياسية‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬مثقفين،‭ ‬سوريين‭ ‬أساساً،‭ ‬تعطي‭ ‬انطباعاً‭ ‬بالتجرد‭ ‬عن‭ ‬السياسة‭ ‬والابتعاد‭ ‬عن‭ ‬الصراع‭ ‬السياسي‭. ‬تَوجُّه‭ ‬الكتاب‭ ‬بذلك‭ ‬معاكس‭ ‬لتوجه‭ ‬كتابين‭ ‬سابقين‭ ‬للمؤلف‭ ‬هما‮ ‬‮«‬أساطير‭ ‬الآخِرين”‮ ‬‭(‬2011‭)‬،‭ ‬و”بالخلاص،‭ ‬يا‭ ‬شباب‭!‬”‭ ‬‭(‬2012‭)‬،‭ ‬وقد‭ ‬عملت‭ ‬فيهما‭ ‬على‭ ‬تحويل‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬الدين‭ ‬والسجن‭ ‬إلى‭ ‬موضوعين‭ ‬ثقافيين،‭ ‬وإدراجهما‭ ‬في‭ ‬جدول‭ ‬النقاش‭ ‬الثقافي‭ ‬العام‭.‬
ما يشرِط‭ ‬إمكان‭ ‬هاتين‭ ‬الوجهتين‭ ‬المتقابلتين‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الثقافة‭ ‬والسياسة‭ ‬ميدانان‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬المشترك،‭ ‬يحوز‭ ‬المنخرطون‭ ‬فيهما‭ ‬على‭ ‬سلطات‭ ‬ورساميل‭ ‬رمزية‭ ‬متفاوتة،‭ ‬ويتعين‭ ‬أن‭ ‬يتحملوا‭ ‬بالمقابل‭ ‬مسؤوليات‭ ‬اجتماعية‭ ‬لا‭ ‬وجه‭ ‬عادلاً‭ ‬للتنصِّل‭ ‬منها‭. ‬المثقف‭ ‬والسياسي‭ ‬فاعلان‭ ‬عامان،‭ ‬تترتب‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يقومان‭ ‬به‭ ‬آثارٌ‭ ‬عامة،‭ ‬مُستوجِبة‭ ‬للمساءلة،‭ ‬وإن‭ ‬تكن‭ ‬أدوات‭ ‬الثقافة‭ ‬مغايرة‭ ‬لأدوات‭ ‬السياسة‭. ‬تشتغل‭ ‬الثقافة‭ ‬بالكلمات‭ ‬وتراكيبها‭ ‬‭(‬تقتصر‭ ‬مواد‭ ‬الكتاب‭ ‬على‭ ‬‮«‬ثقافة‭ ‬الكلمة”‭)‬،‭ ‬فيما‭ ‬تشتغل‭ ‬السياسة‭ ‬بالقوة‭ ‬وموازينها‭. ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬الثقافة‭ ‬مُبرّأة‭ ‬من‭ ‬علاقات‭ ‬قوة‭ ‬وصراعات‭ ‬حول‭ ‬السلطة‭ ‬والاعتراف‭ ‬والمكانة،‭ ‬ولا‭ ‬السياسة‭ ‬منفصلة‭ ‬عن‭ ‬إنتاج‭ ‬معارف‭ ‬وخطابات،‭ ‬يتعهده‭ ‬السياسيون‭ ‬وأعوانهم‭. ‬السياسي‭ ‬المحض‭ ‬الذي‭ ‬يعمل‭ ‬حصراً‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬القوة‭ ‬غير‭ ‬موجود،‭ ‬ومثله‭ ‬المثقف‭ ‬المحض‭ ‬الذي‭ ‬يلهو‭ ‬في‭ ‬ملعب‭ ‬الكلمات‭ ‬البريئة‭. ‬الكلمات‭ ‬البريئة‭ ‬غير‭ ‬موجودة‭ ‬على‭ ‬أيّ‭ ‬حال‭. ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬الكلمات‭ ‬لا‭ ‬تقتل،‭ ‬لكنها‭ ‬قد‭ ‬تستخدم‭ ‬لتبرير‭ ‬القتل‭ ‬أو‭ ‬التحريض‭ ‬عليه‭ ‬أو‭ ‬السكوت‭ ‬عنه‭ ‬أو‭ ‬حجبه‭ ‬أو‭ ‬تبديل‭ ‬اسمه‭.‬

يعمل‭ ‬المثقفون‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬اجتماعي‭ ‬سياسي‭ ‬مستقطَب،‭ ‬ويعرفون‭ ‬أن‭ ‬كلماتهم‭ ‬ونصوصهم‭ ‬تُوظَّف‭ ‬ضمن‭ ‬هذا‭ ‬الحقل‭ ‬لتسويغ‭ ‬خيارات‭ ‬وانحيازات‭ ‬ومواقف‭ ‬سياسية‭ ‬أو‭ ‬لها‭ ‬أثر‭ ‬سياسي‭ ‬مباشر‭. ‬وفي‭ ‬سوريا،‭ ‬وموادُّ‭ ‬الكتاب‭ ‬لا‭ ‬تكاد‭ ‬تتكلم‭ ‬على‭ ‬غيرها،‭ ‬للمثقفين‭ ‬أيديولوجية‭ ‬فئوية‭ ‬ضمنية‭ ‬تقول‭ ‬إنهم،‭ ‬بالتعريف،‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬اعتراض‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬القائم،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬كونهم‭ ‬مثقفين‭ ‬فحسب‭. ‬هذا‭ ‬غير‭ ‬صحيح،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬لأن‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬موظفون‭ ‬في‭ ‬أجهزة‭ ‬السلطان،‭ ‬ولا‭ ‬تنعزل‭ ‬مواقعهم‭ ‬وآراؤهم‭ ‬عن‭ ‬علاقات‭ ‬القوة‭ ‬المشكلة‭ ‬للنظام‭ ‬السياسي،‭ ‬ولا‭ ‬كذلك‭ ‬لأن‭ ‬تفضيلات‭ ‬مثقفين‭ ‬اتجهت‭ ‬طوال‭ ‬عقود‭ ‬وعلى‭ ‬نحو‭ ‬نسقي‭ ‬إلى‭ ‬النيل‭ ‬من‭ ‬خصومه‭ ‬السياسيين‭ ‬والثقافيين،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تجاهر‭ ‬بتبريره‭ ‬صراحة،‭ ‬ولكن‭ ‬كذلك‭ ‬لأن‭ ‬التفضيلات‭ ‬السياسية‭ ‬والمواقع‭ ‬الاجتماعية‭ ‬لمثقفين‭ ‬كثيرين،‭ ‬بخاصة‭ ‬من‭ ‬يجمعون‭ ‬بين‭ ‬كونهم‭ ‬‮«‬مثقفين‭ ‬فحسب”‭ ‬وبين‭ ‬إرادة‭ ‬نسبة‭ ‬صفة‭ ‬اعتراض‭ ‬سياسي‭ ‬وأخلاقي‭ ‬لأنفسهم،‭ ‬تضعهم‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬النخبة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬تحظى‭ ‬بقدر‭ ‬من‭ ‬الحصانة‭ ‬والامتياز‭ ‬مقابل‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬الولاء‭ ‬للنظام،‭ ‬أو‭ ‬التبرير‭ ‬المُداوِر،‭ ‬أو‭ ‬التجنّب‭ ‬والصمت‭.‬

كان‭ ‬نمط‭ ‬الكتابة‭ ‬الفكرية‭ ‬المواكبة‭ ‬للزمن‭ ‬البعثي‭-‬الأسدي‭ ‬هو‭ ‬الكتابة‭ ‬غير‭ ‬المسكونة،‭ ‬الخالية‭ ‬من‭ ‬البشر،‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬أُخليت‭ ‬سياسته‭ ‬كلياً‭ ‬من‭ ‬سكانه‭. ‬فمثلما‭ ‬قام‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬على‭ ‬تغييب‭ ‬العموم‭ ‬واغتيابهم،‭ ‬وعلى‭ ‬منعهم‭ ‬من‭ ‬إنتاج‭ ‬التمثيل،‭ ‬والتقرير‭ ‬في‭ ‬الشأن‭ ‬العام‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬رؤوسهم،‭ ‬طرد‭ ‬النمط‭ ‬الكتابي‭ ‬المهيمن‭ ‬البشر‭ ‬من‭ ‬النص،‭ ‬وشارك‭ ‬منتجوه‭ ‬في‭ ‬اغتيابهم،‭ ‬وفي‭ ‬الكلام‭ ‬عليهم‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬رؤوسهم‭. ‬وكلما‭ ‬أمعن‭ ‬السلطان‭ ‬في‭ ‬تغييب‭ ‬الجمهور‭ ‬من‭ ‬السياسة،‭ ‬اشتد‭ ‬اغتياب‭ ‬أهل‭ ‬الفكر‭ ‬للجمهور‭ ‬المُغيِّب‭ ‬وإنكار‭ ‬جدارته‭ ‬الثقافية،‭ ‬والسياسية‭ ‬والأخلاقية،‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬تحاول‭ ‬مواد‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬أن‭ ‬تظهر‭.‬

العقيدة‭ ‬التي‭ ‬انبنت‭ ‬على‭ ‬التغييب‭ ‬السياسي‭ ‬للجمهور،‭ ‬وتطوعت‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬الاغتياب‭ ‬العام،‭ ‬هي‭ ‬الثقافوية‭ ‬التي‭ ‬هيمنت‭ ‬في‭ ‬مراتب‭ ‬المثقفين‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬في‭ ‬ربع‭ ‬القرن‭ ‬السابق‭ ‬للثورة‭. ‬وأعني‭ ‬بالثقافوية‭ ‬شرح‭ ‬المجتمع‭ ‬والسياسة‭ ‬بالثقافة‭ ‬مفهومة‭ ‬كـ”عقلية”‭ ‬أو‭ ‬‮«‬ذهنيات”،‭ ‬والتكتم‭ ‬بخاصة‭ ‬على‭ ‬الأوضاع‭ ‬السياسية‭ ‬العيانية،‭ ‬وعلى‭ ‬شروط‭ ‬حياة‭ ‬أكثرية‭ ‬السكان‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬والميل،‭ ‬بالعكس،‭ ‬إلى‭ ‬اعتبار‭ ‬هذه‭ ‬الشروط‭ ‬ذاتها‭ ‬نتاجاً‭ ‬لذهنية‭ ‬السكان‭ ‬أو‭ ‬عقلهم‭. ‬ولذلك‭ ‬فإن‭ ‬نقد‭ ‬الثقافوية،‭ ‬وهو‭ ‬عنوان‭ ‬أساسي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب،‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬اعتراض‭ ‬على‭ ‬منهج‭ ‬حتموي‭ ‬ضيق‭ ‬للتفسير،‭ ‬ولا‭ ‬هو‭ ‬محاولة‭ ‬لكشف‭ ‬انحيازات‭ ‬اجتماعية‭ ‬وسياسية‭ ‬للثقافويين،‭ ‬تُموِّه‭ ‬منابع‭ ‬المشكلات‭ ‬والصراعات‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وليس‭ ‬مدخلاً‭ ‬بالغ‭ ‬الأهمية‭ ‬إلى‭ ‬إضاءة‭ ‬العالم‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والسياسي‭ ‬الذي‭ ‬تُشكِّل‭ ‬الثقافوية‭ ‬حجابه‭ ‬الأيديولوجي،‭ ‬ما‭ ‬أسمّيه‭ ‬العالم‭ ‬الأول‭ ‬الداخلي؛‭ ‬وإنما‭ ‬هو،‭ ‬فوق‭ ‬ذلك‭ ‬كله،‭ ‬فعل‭ ‬اعتراضٍ‭ ‬سياسي‭ ‬مباشر‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الأول،‭ ‬وعلى‭ ‬نخبة‭ ‬السلطة‭ ‬التي‭ ‬تتماهى‭ ‬في‭ ‬سياسة‭ ‬‮«‬عالمها‭ ‬الثالث‭ ‬الداخلي”‭ ‬بـ”العالم‭ ‬الأول”،‭ ‬الرأسمالي‭ ‬والمسيطر‭ ‬و”المتحضر”،‭ ‬في‭ ‬سياسة‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭ ‬العالمي‭ ‬في‭ ‬الأزمنة‭ ‬الاستعمارية‭. ‬حداثية‭ ‬الأشياء‭ ‬والعناوين‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬والواجهات‭ ‬التي‭ ‬يُحامي‭ ‬عنها‭ ‬الثقافويون‭ ‬العلمانيون‭ ‬تتوافق‭ ‬مع‭ ‬ظهور‭ ‬ثنائية‭ ‬اجتماعية،‭ ‬ثنائية‭ ‬أمّتين‭ ‬أو‭ ‬عالمين،‭ ‬العالم‭ ‬الأول‭ ‬والعالم‭ ‬الثالث،‭ ‬أمّة‭ ‬الصاعدين‭ ‬الممتازين‭ ‬الجديرة‭ ‬بالحماية‭ ‬والتي‭ ‬يتمتع‭ ‬أفرادها‭ ‬العاقلون‭ ‬الذكور‭ ‬‭(‬مع‭ ‬حاشية‭ ‬نسويّة‭ ‬‮«‬حديثة”‭ ‬المظهر‭)‬،‭ ‬وجموعها‭ ‬المنضبطة‭ ‬والمنقادة،‭ ‬بحقوق،‭ ‬ويشكل‭ ‬الثقافويون‭ ‬مثقفيها‭ ‬العضويين؛‭ ‬ثم‭ ‬أمّة‭ ‬المعزولين‭ ‬المحرومين‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تستحق‭ ‬الحماية‭ ‬ولا‭ ‬حقوق‭ ‬لأفرادها،‭ ‬وجموعها‭ ‬الهائجة‭ ‬الجاهلة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬عقل‭ ‬لها‭. ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬لا‭ ‬يتوحد‭ ‬السوريون‭ ‬ولا‭ ‬تتشكل‭ ‬منهم‭ ‬أمة‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬مفهوم‭ ‬الحداثة‭ ‬الذي‭ ‬يروج‭ ‬له‭ ‬الثقافويون،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬يتوافق،‭ ‬بالأحرى،‭ ‬مع‭ ‬خوض‭ ‬أمّة‭ ‬العاقلين‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬الحقوق‭ ‬حرباً‭ ‬مطلقة‭ ‬ضد‭ ‬أمّة‭ ‬الجاهلين‭ ‬المحرومين‭ ‬من‭ ‬الحقوق،‭ ‬بنسائها‭ ‬‮«‬المتخلفات”‭ ‬المحتقرات‭ ‬اللاتي‭ ‬يُغتصَبن‭ ‬في‭ ‬المقرات‭ ‬الأمنية،‭ ‬ورجالها‭ ‬المتخلّفين‭ ‬الذين‭ ‬يُعذّبون‭ ‬ويقتلون‭ ‬في‭ ‬مصانع‭ ‬الرعب‭ ‬تلك‭. ‬ليس‭ ‬جذر‭ ‬ما‭ ‬نشهده‭ ‬منذ‭ ‬خمس‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬حرب‭ ‬استخدم‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬سلاح،‭ ‬من‭ ‬الطيران‭ ‬الحربي‭ ‬إلى‭ ‬السلاح‭ ‬الكيماوي‭ ‬إلى‭ ‬براميل‭ ‬المتفجرات‭ ‬إلى‭ ‬القتل‭ ‬تحت‭ ‬التعذيب‭ ‬إلى‭ ‬الحصار‭ ‬والقتل‭ ‬جوعاً‭ ‬ومرضاً،‭ ‬غير‭ ‬حرب‭ ‬العالم‭ ‬الأول،‭ ‬الأسدي،‭ ‬ضد‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭ ‬السوري‭.‬

‬طرد‭ ‬النمط‭ ‬الكتابي‭ ‬المهيمن‭ ‬البشر‭ ‬من‭ ‬النص،‭ ‬وشارك‭ ‬منتجوه‭ ‬في‭ ‬اغتيابهم،‭ ‬وفي‭ ‬الكلام‭ ‬عليهم‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬رؤوسهم‭. ‬وكلما‭ ‬أمعن‭ ‬السلطان‭ ‬في‭ ‬تغييب‭ ‬الجمهور‭ ‬من‭ ‬السياسة،‭ ‬اشتد‭ ‬اغتياب‭ ‬أهل‭ ‬الفكر‭ ‬للجمهور‭ ‬المُغيِّب‭ ‬وإنكار‭ ‬جدارته‭ ‬الثقافية،‭ ‬والسياسية‭ ‬والأخلاقية
في‭ ‬‮«‬سوريا‭ ‬الأسد”،‭ ‬عاش‭ ‬معظم‭ ‬المثقفين‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الأول‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬حواشيه،‭ ‬بينما‭ ‬دُحر‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭ ‬بعيداً‭ ‬إلى‭ ‬الهوامش‭ ‬غير‭ ‬المرئية،‭ ‬فلا‭ ‬يُسمَع‭ ‬له‭ ‬صوت‭. ‬هذا‭ ‬وفّر‭ ‬بيئة‭ ‬مناسبة‭ ‬لصعود‭ ‬السلفية‭ ‬الجهادية‭ ‬بعد‭ ‬تفجّر‭ ‬الثورة‭ ‬وصراعاتها‭ ‬العنيفة‭ ‬منذ‭ ‬ربيع‭ ‬2011‭. ‬هنا،‭ ‬وبخصوص‭ ‬الإسلاميين‭ ‬عموماً،‭ ‬نحن‭ ‬حيال‭ ‬ثقافوية‭ ‬إسلامية،‭ ‬تُعرِّف‭ ‬الجمهور‭ ‬أيضاً‭ ‬بالمعتقد‭ ‬الديني،‭ ‬وتُفسِّر‭ ‬سوء‭ ‬الحال‭ ‬بابتعاد‭ ‬مزعوم‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الإسلام”،‭ ‬وتستنتج‭ ‬وجوب‭ ‬أيلولة‭ ‬الحكم‭ ‬للإسلاميين‭ ‬استناداً‭ ‬إلى‭ ‬الماهية‭ ‬الإسلامية‭ ‬لـ”الأمّة”‭. ‬ولا‭ ‬يعدو‭ ‬هذا‭ ‬المشروع‭ ‬كونه‭ ‬مشروع‭ ‬سيطرة‭ ‬نخبوية،‭ ‬مرشحٍ‭ ‬لطحن‭ ‬البشر‭ ‬بصورة‭ ‬لا‭ ‬تحسد‭ ‬المطحنة‭ ‬البعثية‭-‬الأسدية‭ ‬في‭ ‬شيء‭.‬

بعد‭ ‬الثورة‭ ‬السورية‭ ‬التي‭ ‬أكتب‭ ‬هذه‭ ‬المقدمة‭ ‬في‭ ‬أجواء‭ ‬ذكرى‭ ‬تفجرها‭ ‬الخامسة،‭ ‬تطور‭ ‬لديّ‭ ‬تشكك‭ ‬عميق‭ ‬بمفهوم‭ ‬المثقف‭ ‬ذاته،‭ ‬إذ‭ ‬يبدو‭ ‬أنه‭ ‬يحمل‭ ‬في‭ ‬سِجلِّه‭ ‬الوراثي‭ ‬غريزة‭ ‬الصعود‭ ‬الطبقي‭ ‬والانفصال‭ ‬عن‭ ‬العامة،‭ ‬وعن‭ ‬أيّ‭ ‬بيئات‭ ‬اجتماعية‭ ‬حيّة،‭ ‬والعيش‭ ‬بالمقابل‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬خاصة‭ ‬معقّمة،‭ ‬تشكل‭ ‬جيباً‭ ‬ضمن‭ ‬‮«‬أمّة‭ ‬العاقلين”‭ ‬أو‭ ‬‮«‬أمّة‭ ‬الدولة”‭. ‬السجل‭ ‬الوراثي‭ ‬لمفهوم‭ ‬المثقف‭ ‬تشكل‭ ‬عبر‭ ‬الطفرة‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬أفضت‭ ‬إلى‭ ‬ظهور‭ ‬هذا‭ ‬الكائن‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬ملتبس‭: ‬الحداثة‭/‬الاستعمار‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭. ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يوجب‭ ‬حتماً‭ ‬التخلي‭ ‬عن‭ ‬المفهوم‭ ‬والدور‭ ‬المنسوبين‭ ‬للمثقف،‭ ‬لكنّه‭ ‬يستوجب‭ ‬تشككاً‭ ‬قوياً‭ ‬فيهما‭ ‬معاً،‭ ‬وكذلك‭ ‬في‭ ‬‮«‬الرسالة”‭ ‬المُضمّنة‭ ‬فيهما‭: ‬التنوير‭ ‬والقيادة‭ ‬الفكرية‭ ‬والتاريخية‭. ‬تلزم‭ ‬جهود‭ ‬قوية‭ ‬لإحداث‭ ‬طفرة‭ ‬في‭ ‬السجل‭ ‬الوراثي‭ ‬لمفهوم‭ ‬المثقف،‭ ‬كي‭ ‬يتجه‭ ‬بكيانه‭ ‬ووجدانه‭ ‬نحو‭ ‬أمة‭ ‬الجاهلين،‭ ‬المقموعين‭ ‬من‭ ‬الدولة‭ ‬والمحرومين‭ ‬من‭ ‬السياسة‭ ‬والحقوق‭. ‬في‭ ‬شروطنا‭ ‬الحالية،‭ ‬جملة‭ ‬مفهوم‭ ‬المثقف‭ ‬والدور‭ ‬والرسالة‭ ‬تتوافق‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬المثقف‭ ‬عنصراً‭ ‬من‭ ‬‮«‬الغرب‭ ‬الداخلي”‭ ‬أو‭ ‬العالم‭ ‬الأول‭ ‬الداخلي،‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬‮«‬الشرق”‭ ‬أو‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭.‬

وهذه‭ ‬البنية‭ ‬تبيح‭ ‬لنا‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬النتاج‭ ‬الفكري‭ ‬لمثقفي‭ ‬العالم‭ ‬الأول‭ ‬الداخلي‭ ‬هو‭ ‬بمثابة‭ ‬استشراق‭ ‬داخلي،‭ ‬موضوعه‭ ‬مثل‭ ‬نموذجه‭ ‬الأصلي‭ ‬هو‭ ‬‮«‬الشرق”‭ ‬مردوداً‭ ‬إلى‭ ‬الدين‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يُدرِج‭ ‬نقد‭ ‬هذا‭ ‬الضرب‭ ‬من‭ ‬الاستشراق‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬التحرر‭ ‬السياسي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬والثقافي،‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬التحرر‭ ‬من‭ ‬الاستعمار‭ ‬جولة‭ ‬فحسب‭ ‬من‭ ‬جولاتها،‭ ‬وما‭ ‬يشكل‭ ‬استئنافاً‭ ‬لعمل‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬وتلاميذه‭.‬

***

تشكل‭ ‬الثقافوية‭ ‬ضرباً‭ ‬من‭ ‬استمرار‭ ‬منهجي‭ ‬للاقتصادوية‭ ‬ذات‭ ‬الأصول‭ ‬الماركسية‭ ‬التي‭ ‬هيمنت‭ ‬في‭ ‬تفكير‭ ‬جيل‭ ‬سابق‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬السوريين،‭ ‬ومر‭ ‬بها‭ ‬معظم‭ ‬ثقافويي‭ ‬اليوم‭. ‬ومن‭ ‬أبرز‭ ‬أوجه‭ ‬التماثل‭ ‬النزعة‭ ‬الحتمية،‭ ‬والتفسير‭ ‬الاختزالي‭ ‬بعامل‭ ‬واحد؛‭ ‬ومنها‭ ‬أن‭ ‬الاثنتين‭ ‬منشغلتان‭ ‬بصورة‭ ‬ما‭ ‬بمفهوم‭ ‬‮«‬التخلف”،‭ ‬لكن‭ ‬مع‭ ‬فارق‭ ‬مهمّ‭ ‬بينهما‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن‭. ‬فالاقتصادوية‭ ‬تشرح‭ ‬التخلف‭ ‬بمفردات‭ ‬الاقتصاد‭ ‬السياسي‭ ‬‭(‬الفقر،‭ ‬البطالة،‭ ‬مستوى‭ ‬التأهيل،‭ ‬سياسات‭ ‬الدولة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬نمط‭ ‬التراكم‭ ‬الرأسمالي‭ ‬القائم،‭ ‬ترابط‭ ‬أنماط‭ ‬الإنتاج‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬العالمي‮…‬‭)‬،‭ ‬وتطور‭ ‬موقفاً‭ ‬سياسياً‭ ‬نفسياً‭ ‬متعاطفاً‭ ‬مع‭ ‬‮«‬المُتخلّفين”،‭ ‬داعماً‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬الكفاح‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تغيير‭ ‬أحوالهم،‭ ‬فيما‭ ‬تطور‭ ‬الثقافوية‭ ‬موقفاً‭ ‬سياسياً‭ ‬نفسياً‭ ‬كارهاً‭ ‬لـ”المتخلفين”‭ ‬المفترضين،‭ ‬متعالياً‭ ‬عليهم‭ ‬ومغتاباً‭ ‬لهم‭ ‬وعدائياً‭ ‬تجاههم‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يَسْهُل‭ ‬أن‭ ‬يتمفصل‭ ‬مع‭ ‬النزعات‭ ‬الطائفية‭ ‬في‭ ‬سياقنا‭ ‬السوري‭ ‬المعلوم،‭ ‬وما‭ ‬يقلل‭ ‬الحساسية‭ ‬العامة‭ ‬حيال‭ ‬ما‭ ‬يصيب‭ ‬أولئك‭ ‬‮«‬المتخلفين”‭ ‬التعساء‭. ‬ليست‭ ‬الثقافوية،‭ ‬تالياً،‭ ‬خطأً‭ ‬في‭ ‬التحليل‭ ‬أو‭ ‬قصوراً‭ ‬في‭ ‬المعرفة،‭ ‬وليست‭ ‬بحال‭ ‬من‭ ‬أخطاء‭ ‬الفكر،‭ ‬إنها‭ ‬من‭ ‬خطايا‭ ‬السياسة‭ ‬والضمير‭ ‬العام‭ ‬بالأحرى‭. ‬ولا‭ ‬يعدو‭ ‬المرء‭ ‬الإنصاف‭ ‬إن‭ ‬قال‭ ‬إن‭ ‬بعض‭ ‬رموز‭ ‬الثقافوية‭ ‬الذين‭ ‬جرى‭ ‬تناول‭ ‬أعمال‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬يُكنّون‭ ‬أشد‭ ‬الضغينة‭ ‬للناس‭ ‬الذين‭ ‬يفترض‭ ‬أنهم‭ ‬يحاولون‭ ‬تنويرهم‭. ‬الثقافوية‭ ‬بهذا‭ ‬المعنى‭ ‬أيديولوجيا‭ ‬خطرة،‭ ‬رجعية‭ ‬ويمكنها‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬فاشية،‭ ‬تُسهِّل‭ ‬إلحاق‭ ‬الأذى‭ ‬بعموم‭ ‬الناس،‭ ‬وترتبط‭ ‬دون‭ ‬اعتراض‭ ‬بأوضاع‭ ‬يَسهُل‭ ‬إيذاؤهم‭ ‬فيها‭.‬

وبعد‭ ‬هذا‭ ‬كله،‭ ‬ليست‭ ‬المشكلة‭ ‬في‭ ‬الثقافوية‭ ‬أنها‭ ‬نقد‭ ‬أحادي‭ ‬الجانب‭ ‬للثقافة،‭ ‬يتكتم‭ ‬على‭ ‬الشؤون‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والاقتصادية،‭ ‬وكذلك‭ ‬الأوضاع‭ ‬الدولية،‭ ‬مما‭ ‬لا‭ ‬يستقيم‭ ‬فهم‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬اليوم‭ ‬دون‭ ‬أخذه‭ ‬في‭ ‬الاعتبار‭ ‬‭(‬ومما‭ ‬ألحّت‭ ‬عليه‭ ‬فصول‭ ‬الكتاب‭)‬؛‭ ‬مشكلة‭ ‬الثقافوية،‭ ‬بالأحرى،‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تنتقد‭ ‬الثقافة‭ ‬ذاتها‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬تقليصها‭ ‬إلى‭ ‬بُعدِها‭ ‬الموروث،‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يفترض‭ ‬أنه‭ ‬الأصل‭ ‬الثابت‭ ‬المستمر‭. ‬لن‭ ‬نجد‭ ‬عند‭ ‬أعلام‭ ‬الثقافوية‭ ‬السوريين‭ ‬نقداً‭ ‬لنمط‭ ‬إنتاج‭ ‬الأفكار‭ ‬والعلاقة‭ ‬بين‭ ‬المعارف‭ ‬والتجارب،‭ ‬وتكوين‭ ‬الحقل‭ ‬الثقافي‭ ‬المحلي،‭ ‬ومدى‭ ‬استقلالية‭ ‬المنتجين‭ ‬الثقافيين‭ ‬بأدواتهم‭ ‬وشروط‭ ‬عملهم،‭ ‬ولن‭ ‬نجد،‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬آخر،‭ ‬إشارات‭ ‬ناقدة‭ ‬لإدخال‭ ‬نخبة‭ ‬الدولة‭ ‬الأسدية‭ ‬مفاهيم‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬البيْعة”‭ ‬و”تجديد‭ ‬البيعة”،‭ ‬ومثل‭ ‬‮«‬الإجماع‮»‬،‭ ‬ومثل‭ ‬‮«‬المَكْرُمة”‭ ‬و”العطاء”،‭ ‬ومثل‭ ‬‮«‬الأب‭ ‬القائد”،‭ ‬كمدركات‭ ‬أساسية‭ ‬تُسمّي‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬عموم‭ ‬السكان‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬والحاكم،‭ ‬وتُسمي‭ ‬أيضاً‭ ‬النكوص‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والثقافي‭ ‬والسياسي‭ ‬الذي‭ ‬تمادى‭ ‬جيلين‭ ‬قبل‭ ‬تفجر‭ ‬ثورة‭ ‬2011،‭ ‬وكانت‭ ‬السلطنة‭ ‬الأسدية‭ ‬مضخّته‭ ‬الكبرى‭.‬

وخلافاً‭ ‬لعقيدة‭ ‬ثقافوية‭ ‬غير‭ ‬مبرهن‭ ‬عليها،‭ ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬أساس‭ ‬لافتراض‭ ‬استمرارية‭ ‬تاريخية‭ ‬تلقائية،‭ ‬لا‭ ‬تنقطع‭ ‬بغير‭ ‬جهد‭ ‬قطيعة‭ ‬خاص،‭ ‬قد‭ ‬يقتضي‭ ‬حرباً‭ ‬طويلة‭ ‬أو‭ ‬دولة‭ ‬مركزية‭ ‬عنيفة،‭ ‬يحصل‭ ‬أن‭ ‬توصف‭ ‬بأنها‭ ‬‮«‬تنظيماتية”‭ ‬أو‭ ‬‮«‬يعقوبية”‭ ‬‭(‬عزيز‭ ‬العظمة‭)‬،‭ ‬وتعمل‭ ‬بكل‭ ‬تَجرُّد‭ ‬على‭ ‬المجانسة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والتوحيد‭ ‬السياسي‭ ‬والتحديث‭ ‬الثقافي‭. ‬الأصح‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬نرى‭ ‬أن‭ ‬الحاضر‭ ‬هو‭ ‬زمن‭ ‬الحياة‭ ‬والأحياء‭ ‬والإحياء،‭ ‬وأن‭ ‬الماضي‭ ‬لا‭ ‬يتمادى‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬إلا‭ ‬بجهد‭ ‬خاص،‭ ‬جهد‭ ‬وصل‭ ‬وإحياء،‭ ‬أو‭ ‬بعثٍ‭ ‬واستحضار‭. ‬ما‭ ‬يلزم‭ ‬تالياً‭ ‬هو‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬الحاضر،‭ ‬في‭ ‬القوى‭ ‬العاملة‭ ‬والمُعتمِلة‭ ‬فيه،‭ ‬وفي‭ ‬وكلاء‭ ‬الماضي‭ ‬من‭ ‬النخب‭ ‬السياسة‭ ‬والاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬تحيي‭ ‬القديم‭ ‬وتبعثه‭ ‬في‭ ‬الحاضر‭. ‬ولا‭ ‬وجه‭ ‬للتهرب‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الواجب‭ ‬بافتراض‭ ‬آخر،‭ ‬أسوأ‭ ‬من‭ ‬الاستمرارية‭ ‬التلقائية،‭ ‬افتراض‭ ‬أن‭ ‬لتاريخنا‭ ‬خصوصية‭ ‬تجعل‭ ‬الماضي‭ ‬قوياً‭ ‬ومجتاحاً‭ ‬للحاضر‭ ‬الضعيف‭.‬‭ ‬لا‭ ‬خصوصية‭ ‬لتاريخنا،‭ ‬وماضينا‭ ‬مثل‭ ‬أيّ‭ ‬ماضٍ‭ ‬غيره‭ ‬لا‭ ‬يفعل‭ ‬شيئاً؛‭ ‬الحاضر‭ ‬هو‭ ‬الفاعل،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يستدعي‭ ‬ما‭ ‬مضى‭ ‬وانقضى‭. ‬فلننظر‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬الحاضر‭.‬
لوحة: سعاد مردم بيك

بيد‭ ‬أن‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬تخفق‭ ‬الثقافوية‭ ‬فيه‭ ‬هو‭ ‬قضيتها‭ ‬الأساسية‭: ‬شرح‭ ‬التعثر‭ ‬السياسي‭ ‬وتعذر‭ ‬الديمقراطية‭ ‬بعامل‭ ‬كبير‭ ‬أساسي‭ ‬هو‭ ‬‮«‬الثقافة”‭. ‬فبقدر‭ ‬ما‭ ‬أن‭ ‬الثقافوية‭ ‬تردّ‭ ‬الواقع‭ ‬الكثروي‭ ‬المركب‭ ‬والمتغير‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬العامل‭ ‬الواحد‭ ‬الكبير،‭ ‬وبقدر‭ ‬ما‭ ‬أنها‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬قطيعة‭ ‬و”خلق”‭ ‬‭(‬أدونيس‭)‬،‭ ‬و”حرب‭ ‬مئة‭ ‬عام‭ ‬ضد‭ ‬الأصولية”‭ ‬‭(‬جورج‭ ‬طرابيشي‭)‬،‭ ‬فإنها‭ ‬تزكّي‭ ‬عملياً‭ ‬طلب‭ ‬السلطة‭ ‬المطلقة‭ ‬التي‭ ‬تقلب‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬الفاسد‭ ‬رأساً‭ ‬على‭ ‬عقب‭. ‬ليس‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬هذه‭ ‬النزعة‭ ‬الاختزالية،‭ ‬أي‭ ‬‮«‬ذهنيتها”،‭ ‬التي‭ ‬تردّ‭ ‬الكثير‭ ‬إلى‭ ‬واحدٍ،‭ ‬ما‭ ‬يحول‭ ‬دون‭ ‬انتصاب‭ ‬الواحد‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬الكثرة،‭ ‬واستعبادها،‭ ‬إن‭ ‬باسم‭ ‬الحداثة‭ ‬أو‭ ‬الوطن‭ ‬أو‭ ‬الإسلام‭. ‬الثقافوية،‭ ‬تالياً،‭ ‬لا‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬غير‭ ‬تعذر‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬وليست‭ ‬بحال‭ ‬شرحاً‭ ‬صادقاً‭ ‬لغيابهما‭. ‬والواقع‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬سيراه‭ ‬القارئ‭ ‬من‭ ‬تشكك‭ ‬الثقافويين‭ ‬في‭ ‬الديمقراطية‭ ‬وعدائهم‭ ‬للمجموعات‭ ‬المكافحة‭ ‬من‭ ‬أجلها،‭ ‬ووقوفهم‭ ‬في‭ ‬مواقع‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬نظم‭ ‬الطغيان‭ ‬القائمة،‭ ‬مؤشر‭ ‬كاف‭ ‬على‭ ‬ذلك‭.‬

***

يتألف‭ ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬13‭ ‬نصاً،‭ ‬موزعة‭ ‬على‭ ‬ثلاثة‭ ‬أقسام،‭ ‬كُتبت‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬2006‭ ‬و2015‭.‬

يعتني‭ ‬القسم‭ ‬الأول‭ ‬بتعريف‭ ‬الثقافوية‭ ‬ونقدها‭. ‬خصص‭ ‬النص‭ ‬الأول،‮ ‬الثقافوية‭ ‬العربية‭ ‬المعاصرة،‭ ‬خصائص‭ ‬منهجية‭ ‬ومحددات‭ ‬أساسية،‮ ‬للتعريف‭ ‬بها‭ ‬وإبراز‭ ‬طابعها‭ ‬الاختزالي،‭ ‬ويميز‭ ‬بين‭ ‬ثقافوية‭ ‬علمانية‭ ‬وثقافوية‭ ‬إسلامية‭. ‬ويُعرّف‭ ‬النص‭ ‬الثاني،‮ ‬نظرية‭ ‬الحتمية‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬السورية،‭ ‬بملابسات‭ ‬ولادة‭ ‬الثقافوية،‭ ‬ويعمل‭ ‬على‭ ‬إظهار‭ ‬طابعها‭ ‬التضليلي‭ ‬الأصيل،‭ ‬عبر‭ ‬اثنين‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬أعلامها‭ ‬السوريين،‭ ‬جورج‭ ‬طرابيشي‭ ‬وأدونيس،‭ ‬ويُظهِر‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬السياسة‭ ‬في‭ ‬تغافل‭ ‬المثقفَيْن‭ ‬عن‭ ‬السياسة‭. ‬النص‭ ‬الثالث،‭ ‬من الإسلام‭ ‬إلى‭ ‬المجتمع‭: ‬مقاربة‭ ‬جمهورية‭ ‬علمانية،‭ ‬يستأنف‭ ‬نقد‭ ‬المثقفَيْن‭ ‬السوريين‭ ‬المذكورَين،‭ ‬وبخاصة‭ ‬تمركز‭ ‬تفكيرهما‭ ‬حول‭ ‬الدين‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬مماثل‭ ‬لتفكير‭ ‬الإسلاميين،‭ ‬ويظهر‭ ‬الكوامن‭ ‬الفاشية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التفكير‭ ‬العلماني‭-‬الإسلامي‭ ‬المشترك،‭ ‬ويقترح‭ ‬التحول‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التمركز‭ ‬إلى‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬وأحواله‭. ‬ويقول‭ ‬النص‭ ‬الرابع،‮ ‬من‭ ‬نقد‭ ‬الثقافوية‭ ‬إلى‭ ‬نقد‭ ‬الثقافة‭ ‬والدين،‭ ‬إنّ‭ ‬لدينا‭ ‬فعلاً‭ ‬مشكلات‭ ‬ثقافية‭ ‬ودينية‭ ‬تسيء‭ ‬الثقافوية‭ ‬طرحها،‭ ‬لكنها‭ ‬مشكلات‭ ‬حقيقية‭ ‬يتعين‭ ‬التصدي‭ ‬لها‭ ‬بالتفكير‭ ‬والمعالجة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فليس‭ ‬لنقد‭ ‬الثقافوية‭ ‬أن‭ ‬يُعفي‭ ‬الثقافة‭ ‬والدين‭ ‬من‭ ‬النقد،‭ ‬أو‭ ‬يكون‭ ‬تبريراً‭ ‬لبنى‭ ‬وموارد‭ ‬ثقافية‭ ‬محلية‭ ‬تسوّغ‭ ‬الاستبداد‭ ‬والتمييز‭ ‬والعنصرية‭. ‬ويختص‭ ‬النص‭ ‬الخامس،‮ ‬خطاب‭ ‬العقل‭ ‬وظهور‭ ‬تيار‭ ‬العقليين،‭ ‬بتقصي‭ ‬الجذور‭ ‬السياسية‭ ‬والفكرية‭ ‬لخطاب‭ ‬العقل‭ ‬الذي‭ ‬استعمر‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬العالمة‭ ‬في‭ ‬ثمانينات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬وتسعيناته‭.‬

وفي‭ ‬القسم‭ ‬الثاني‭ ‬أربعة‭ ‬نصوص‭ ‬تتناول‭ ‬جوانب‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬مثقفين‭ ‬سوريين‭ ‬وعرب‭: ‬عبدالله‭ ‬العروي،‭ ‬وبرهان‭ ‬غليون،‭ ‬وجورج‭ ‬طرابيشي،‭ ‬وعزيز‭ ‬العظمة،‭ ‬ومحمد‭ ‬كامل‭ ‬الخطيب،‭ ‬وسليم‭ ‬بركات‭.‬

ينكبُّ‭ ‬النص‭ ‬السادس،‮ ‬في‭ ‬نقد‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬العروي‭ ‬‮«‬المثقف‭ ‬العربي”‭ ‬برنامجاً‭ ‬لتحقيق‭ ‬الحداثة،‭ ‬على‭ ‬نقد‭ ‬تاريخانية‭ ‬المفكر‭ ‬المغربي،‭ ‬أستاذ‭ ‬جيل‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬والمشرق،‭ ‬منهم‭ ‬كاتب‭ ‬هذه‭ ‬السطور،‭ ‬وعلى‭ ‬رهانها‭ ‬على‭ ‬المثقف‭ ‬كبرنامج‭ ‬للتحديث،‭ ‬ويظهر‭ ‬تناقضاتها،‭ ‬ويدعو‭ ‬إلى‭ ‬تصور‭ ‬مغاير‭ ‬للعمل‭ ‬الثقافي‭ ‬والسياسي‭. ‬وينصب‭ ‬النص‭ ‬السابع،‮ ‬نظريات‭ ‬المثقفين‭ ‬السوريين‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬العربية،‭ ‬على‭ ‬تفحص‭ ‬نقدي‭ ‬لأفكار‭ ‬برهان‭ ‬غليون‭ ‬وجورج‭ ‬طرابيشي‭ ‬وعزيز‭ ‬العظمة‭ ‬حول‭ ‬الدولة‭ ‬والمشكلة‭ ‬السياسية‭ ‬العربية‭. ‬غليون‭ ‬يراها‭ ‬نتاج‭ ‬عدوانية‭ ‬الدولة،‭ ‬بينما‭ ‬يرى‭ ‬طرابيشي‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬المجتمع،‭ ‬فيما‭ ‬يرى‭ ‬العظمة‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬متقدمة‭ ‬على‭ ‬المجتمع،‭ ‬ويُحامي‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬حال‭. ‬أما‭ ‬النص‭ ‬الثامن،‮ ‬الخرائط‭ ‬الجغرافية‭ ‬أم‭ ‬الخرائط‭ ‬العقلية‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬إعادة‭ ‬رسمها؟ فهو‭ ‬مراجعة‭ ‬نقدية‭ ‬لكتاب‮ ‬‮«‬وردة‭ ‬أم‭ ‬قنبلة؟‭! ‬إعادة‭ ‬تكوين‭ ‬سورية”‮ ‬لمحمد‭ ‬كامل‭ ‬الخطيب،‭ ‬صدر‭ ‬عام‭ ‬2006‭. ‬يتكتّم‭ ‬الكتاب،‭ ‬وفق‭ ‬تقاليد‭ ‬التفكير‭ ‬الثقافوي‭ ‬عموماً،‭ ‬على‭ ‬الجذور‭ ‬السياسية‭ ‬لمشكلات‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬المعاصرة،‭ ‬فيحرم‭ ‬نفسه‭ ‬وقرّاءه‭ ‬من‭ ‬الإحاطة‭ ‬بجانب‭ ‬مهم،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الأهم،‭ ‬من‭ ‬جذورها،‭ ‬ومن‭ ‬اقتراح‭ ‬شيء‭ ‬مفيد‭ ‬لمعالجتها‭. ‬النص‭ ‬التاسع،‮ ‬الماهية‭ ‬والكراهية‭: ‬الأديب‭ ‬الفصيح‭ ‬ضد‭ ‬الرعاعة‭ ‬الأمة،‭ ‬هو‭ ‬رد‭ ‬على‭ ‬مقالة‭ ‬عنصرية‭ ‬غثّة‭ ‬لسليم‭ ‬بركات،‭ ‬الروائي‭ ‬والشاعر‭ ‬السوري‭ ‬المغترب،‭ ‬نشرت‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬2010،‭ ‬غداة‭ ‬موسم‭ ‬الثورات‭ ‬العربية،‭ ‬يستعيد‭ ‬فيها‭ ‬معظم‭ ‬غثاء‭ ‬التفكير‭ ‬الثقافوي‭ ‬اليميني‭ ‬وأحكامه‭ ‬على‭ ‬‮«‬العربي”‭ ‬و”المسلم”،‭ ‬وبصورة‭ ‬كاريكاتيرية‭ ‬مُصفّحة‭ ‬بفصحى‭ ‬عربية‭ ‬ثقيلة‭.‬

وفي‭ ‬القسم‭ ‬الثالث‭ ‬أربعة‭ ‬نصوص‭ ‬أيضاً‭ ‬تهتم‭ ‬بجوانب‭ ‬من‭ ‬جذور‭ ‬المشكلة‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬سورية‭ ‬والعالم‭ ‬العربي‭.‬

يرصد‭ ‬النص‭ ‬الحادي‭ ‬عشر،‮ ‬الغيلان‭ ‬الثلاثة‭: ‬مقالة‭ ‬غير‭ ‬عقلانية،‭ ‬تًغوُّل‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الدولة‭ ‬والدين‭ ‬والغرب‭ ‬في‭ ‬مجالنا،‭ ‬والمسعى‭ ‬المجنون‭ ‬وغير‭ ‬الإنساني‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬القوى‭ ‬الثلاث‭ ‬لجمع‭ ‬تناقضات‭ ‬لا‭ ‬تجتمع‭ ‬بغير‭ ‬الإمعان‭ ‬في‭ ‬القوة‭. ‬ويعرض‭ ‬النص‭ ‬الثاني‭ ‬عشر،‮ ‬انفصال‭ ‬عن‭ ‬الجدار‭:‬‮ ‬مقالة‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬والثورة‭ ‬الثقافية،‮ ‬تحكّم‭ ‬منطق‭ ‬توزيعي‭ ‬في‭ ‬تفكيرنا‭ ‬خلال‭ ‬ثلاثة‭ ‬أجيال‭ ‬ثقافية،‭ ‬جيل‭ ‬اشتراكي‭ ‬فكّر‭ ‬في‭ ‬توزيع‭ ‬الثروة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬إنتاجها،‭ ‬وجيل‭ ‬ديمقراطي‭ ‬فكر‭ ‬في‭ ‬توزيع‭ ‬السلطة‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬كيفية‭ ‬إنتاجها،‭ ‬وجيل‭ ‬علماني‭ ‬يفكر‭ ‬بدوره‭ ‬في‭ ‬توزيع‭ ‬المعنى‭ ‬ولا‭ ‬ينتجه،‭ ‬وينفتح‭ ‬هذا‭ ‬الطرح‭ ‬على‭ ‬التفكير‭ ‬بثورة‭ ‬في‭ ‬الثقافة،‭ ‬متوجهة‭ ‬نحو‭ ‬عالم‭ ‬إنتاج‭.‬‮ ‬من‭ ‬الأبوات‭ ‬إلى‭ ‬الأنوات،‭ ‬جيلان‭ ‬من‭ ‬الثقافة‭ ‬والسياسة،‮ ‬هو‭ ‬عنوان‭ ‬النص‭ ‬الثالث‭ ‬عشر،‭ ‬وهو‭ ‬يُظهِر‭ ‬التحول‭ ‬من‭ ‬جيل‭ ‬‮«‬الأبوات”‭ ‬القوميين‭ ‬واليساريين‭ ‬المنتمين‭ ‬إلى‭ ‬منظمات‭ ‬سياسية‭ ‬أو‭ ‬سياسية‭-‬عسكرية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التغيير‭ ‬والتحرير‭ ‬بين‭ ‬ستينات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬ومطلع‭ ‬ثمانيناته،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يَحِلَّ‭ ‬محلهم‭ ‬جيل‭ ‬الأنوات،‭ ‬وهم‭ ‬مثقفون‭ ‬وناشطون‭ ‬أفراد‭ ‬لا‭ ‬ينتسبون‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬المنظمات،‭ ‬ولا‭ ‬يكفّون‭ ‬عن‭ ‬الانخراط‭ ‬في‭ ‬حروب‭ ‬المكانة‭. ‬ويتساءل‭ ‬النص‭ ‬الرابع‭ ‬عشر‭ ‬والأخير،‮ ‬الأزمة‭ ‬الوطنية‭ ‬ونهاية‭ ‬المثقف‭ ‬النبي،‭ ‬عن‭ ‬جذور‭ ‬امتناع‭ ‬المثقفين‭ ‬السوريين‭ ‬عن‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬بلدهم،‭ ‬ويجد‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬حكم‭ ‬طغموي‭ ‬مخيف،‭ ‬وفي‭ ‬كونهم‭ ‬مثقفي‭ ‬مآلات‭ ‬نهائية‭ ‬‭(‬التقدم‭ ‬والحداثة‭ ‬بخاصة‭)‬،‭ ‬و‭/‬أو‭ ‬في‭ ‬كونهم‭ ‬مثقفي‭ ‬ماهيات‭ ‬قومية‭ ‬أو‭ ‬دينية،‭ ‬منعزلين‭ ‬عن‭ ‬صراعات‭ ‬اليوم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية‭.‬

لقد‭ ‬قمت‭ ‬بتنقيح‭ ‬النصوص‭ ‬كلها‭ ‬تنقيحاً‭ ‬محدوداً‭ ‬على‭ ‬العموم‭. ‬لم‭ ‬أقل‭ ‬في‭ ‬الصيغ‭ ‬المنقحة‭ ‬هنا‭ ‬شيئاً‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬لي‭ ‬قوله‭ ‬في‭ ‬الصيغ‭ ‬الأصلية،‭ ‬لكن‭ ‬أوضحت‭ ‬صيغاً‭ ‬ملتبسة،‭ ‬وأضفت‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬قليلة‭ ‬شروحاً‭ ‬لازمة،‭ ‬وحذفت‭ ‬ما‭ ‬بدا‭ ‬لي‭ ‬استطراداً‭ ‬نافلاً‭. ‬ولقد‭ ‬ثبتُّ‭ ‬تاريخ‭ ‬نشر‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬النصوص‭ ‬في‭ ‬ذيله‭ ‬لإعطاء‭ ‬فكرة‭ ‬عن‭ ‬تاريخيتها‭. ‬وباستثناء‭ ‬نص‭ ‬واحد،‮ ‬الأزمة‭ ‬الوطنية‭ ‬ونهاية‭ ‬المثقف‭ ‬النبي،‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬إسطنبول،‭ ‬فقد‭ ‬كتبت‭ ‬النصوص‭ ‬الأخرى‭ ‬كلها‭ ‬في‭ ‬دمشق،‭ ‬وإن‭ ‬أكن‭ ‬استأنفت‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬اثنين‭ ‬منها‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬تركيا‭:‬‮ ‬خطاب‭ ‬العقل‭ ‬وظهور‭ ‬تيار‭ ‬العقليين،‭ ‬وفي‭ ‬نقد‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬العروي‭.‬

***

الكتاب‭ ‬ككل‭ ‬مساهمة‭ ‬بأدوات‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬الصراع‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والسياسي‭ ‬السوري‭. ‬وهو‭ ‬اعتراض‭ ‬على‭ ‬نصب‭ ‬سور‭ ‬فاصل‭ ‬بين‭ ‬الثقافة‭ ‬والسياسة،‭ ‬أو‭ ‬التذرع‭ ‬بتمايز‭ ‬الحقلين‭ ‬لتسويغ‭ ‬تخلي‭ ‬المشتغلين‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الثقافة‭ ‬عن‭ ‬مسؤولياتهم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية‭.‬

في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬تنحاز‭ ‬هذه‭ ‬النصوص‭ ‬إلى‭ ‬استقلال‭ ‬الثقافة،‭ ‬ضد‭ ‬استتباعها‭ ‬للسياسة‭ ‬المباشرة‭ ‬والظرفية،‭ ‬وكذلك‭ ‬ضد‭ ‬ميل‭ ‬مثقفين‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يشتغلوا‭ ‬سياسيين‭. ‬الثقافة‭ ‬قوة‭ ‬سياسية‭ ‬بما‭ ‬هي‭ ‬ثقافة،‭ ‬بما‭ ‬هي‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬العمل‭ ‬العام‭ ‬له‭ ‬شخصيته‭ ‬الخاصة‭ ‬وكرامته‭ ‬الذاتية‭. ‬من‭ ‬واجب‭ ‬المثقفين‭ ‬أن‭ ‬يتدخلوا‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬وقت،‭ ‬في‭ ‬أوقاتنا‭ ‬الدموية‭ ‬اليوم‭ ‬بخاصة،‭ ‬وأن‭ ‬يقولوا‭ ‬كلاماً‭ ‬واضحاً‭ ‬عن‭ ‬السلطة‭ ‬وعن‭ ‬السجن‭ ‬والتعذيب‭ ‬والعنف‭ ‬والتمييز‭ ‬والقتل‭ ‬والمنفى‭ ‬والكراهية‭ ‬والتحقير‭ ‬والتعصب‭ ‬والعنصرية‭. ‬لكن‭ ‬هناك‭ ‬شيء‭ ‬واحد‭ ‬أسوأ‭ ‬في‭ ‬رأيي‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يعمل‭ ‬المثقفون‭ ‬كسياسيين‭ ‬عمليين،‭ ‬هو‭ ‬زعم‭ ‬المثقف‭ ‬بأن‭ ‬مجاله‭ ‬هو‭ ‬الفكر‭ ‬أو‭ ‬الفن،‭ ‬وأنه‭ ‬لن‭ ‬‮«‬يُلوّث”‭ ‬نفسه‭ ‬بالسياسة‭ ‬وشؤونها‭. ‬في‭ ‬مثل‭ ‬شروطنا‭ ‬الراهنة،‭ ‬قبل‭ ‬الثورة‭ ‬السورية‭ ‬المقتولة،‭ ‬وليس‭ ‬أثناءها‭ ‬فقط،‭ ‬هذا‭ ‬المسلك‭ ‬استراتيجية‭ ‬تبرر‭ ‬الراهن‭ ‬دوماً،‭ ‬ولا‭ ‬تبرر‭ ‬غيره‭. ‬حين‭ ‬يُقتل‭ ‬الناس‭ ‬بكل‭ ‬طريقة،‭ ‬حين‭ ‬يُذلّون‭ ‬ويهانون،‭ ‬حين‭ ‬يحاصرون‭ ‬ويُجوَّعون‭ ‬ويموتون‭ ‬جوعاً،‭ ‬وحين‭ ‬يكون‭ ‬ذلك‭ ‬سياسة‭ ‬عامة‭ ‬شعارها‭ ‬هو‭ ‬‮«‬الجوع‭ ‬أو‭ ‬الركوع‭!‬”،‭ ‬حين‭ ‬تُغتَصب‭ ‬النساء‭ ‬والأطفال‭ ‬في‭ ‬مقرات‭ ‬أجهزة‭ ‬الأمن،‭ ‬حين‭ ‬يُقتل‭ ‬المئات‭ ‬منهم‭ ‬بالغازات‭ ‬السامة‭ ‬خلال‭ ‬ساعة،‭ ‬حين‭ ‬يدفنون‭ ‬تحت‭ ‬أنقاض‭ ‬بيوتهم‭ ‬المقصوفة‭ ‬بالبراميل‭ ‬المتفجرة؛‭ ‬من‭ ‬يتعالى‭ ‬حينها‭ ‬على‭ ‬السياسة‭ ‬فاقد‭ ‬للإحساس‭ ‬وللإنسانية‭ ‬ذاتها،‭ ‬ويغلب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬التعالي‭ ‬قناعاً‭ ‬للانحياز‭ ‬إلى‭ ‬الأوضاع‭ ‬القائمة‭. ‬وهو‭ ‬يجرد‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬إدانة‭ ‬قتلة‭ ‬آخرين‭ ‬إدانتهم‭ ‬واجبة،‭ ‬داعش‭ ‬وأخواته‭. ‬وبالمناسبة،‭ ‬هذا‭ ‬أصل‭ ‬بعض‭ ‬صمت‭ ‬الصامتين؛‭ ‬تصمتُ‭ ‬لزمن‭ ‬طويل‭ ‬على‭ ‬قاتل‭ ‬تواليه،‭ ‬فلا‭ ‬يبقى‭ ‬لك‭ ‬وجه‭ ‬للكلام‭ ‬على‭ ‬قاتل‭ ‬صاعد‭ ‬تعاديه‭.‬

وليس‭ ‬السبب‭ ‬الوحيد‭ ‬للتحفظ‭ ‬عن‭ ‬اشتغال‭ ‬المثقفين‭ ‬كسياسيين‭ ‬كرامة‭ ‬الثقافة‭ ‬واستقلالها،‭ ‬بل‭ ‬أولاً‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬ثورة‭ ‬في‭ ‬مجالنا،‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬والثقافة‭ ‬والحساسية‭. ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الشيء‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يُكرِّم‭ ‬من‭ ‬قُتلوا‭ ‬ومن‭ ‬عُذِّبوا‭ ‬ومن‭ ‬خُطفوا،‭ ‬يكرم‭ ‬ثورة‭ ‬الكرامة‭ ‬المقتولة‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬هو‭ ‬اليوم‭ ‬استعارة‭ ‬عالمية‭. ‬مساهمة‭ ‬المثقفين‭ ‬في‭ ‬الثورة‭ ‬هي‭ ‬الثورة‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭.‬

*النص‭ ‬مقدمة‭ ‬كتاب‭ ‬بالعنوان‭ ‬نفسه‭ ‬يصدر‭ ‬عن‭ ‬‮‬المؤسسة‭ ‬العربية‭ ‬للدراسات‭ ‬والنشر‭ ‬هذا‭ ‬الشهر.
ياسين الحاج صالح
كاتب من سوريا مقيم في اسطنبول

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى