مقصلة الخيانات/ عروة المقداد
ترتطم الكتّلة السوداء في جبهتي. ترتجُّ التلافيف الهشّة، ينفجر السائل الأبيض سابحاً بين الجمجمة وجلدة الرأس. الأقدام السوداء تركض. أشمّها. ما زلت قادراً على تمييزها مُغمض العينين. ثقل الشرايين المتخثرة، الزفت المحروق في أكعابها، العرق المتكدّس في المسامات كجرارٍ من الخل، الأنفاس الثقيلة كروثٍ حار.
أصحو، جافَّ الأنفاس، مُعتلَّ المزاج، مخلّخلاً كقاربٍ مثقوب. الجثث تسبح بين الرموش المتلاصقة. أفركها من ملح البحار المتماوج بالقتلى. أنهض من سرير البارود، أفتح نافذة القذائف والنابالم. إنهم في كل مكان، يدفعوننا نحو كل هذا الموت، ينتشرون بيننا كقناصة. أصمت في داخلي لئلا يسمعني أحدهم. تقول صديقتي: إنني مجنون، أُعاني من الرهاب.
كانت لديه ابتسامةً كفرسٍ يرمح. إنهم بارعون في الابتسام، يبتكرونها كما يبتكرون طرق القتل البارد. عرفته رغم تنكره بهيئة طبيب. علّقني بابتسامته على مسمارٍ كما يفعل السحرة في التنويم المغناطيسي، “بماذا تحلم”؟
“أحلم بالشوارع تُغني، أجساد خفيفة كخفة العلم، بأفقٍ معلقٍ بالغيم والسنونو والأقحوان. أحلم بالملح يغسل الأجواف الممتلئة بالقيء”. يقاطعني: “إنه كابوس”! يشرد في سماء الإسمنت. يطويني في حقيبة معلقة على كتف صديقتي. يصف لي دواءً لمعالجة الاكتئاب الشديد، يقول لها: “حاله ميؤوسٌ منها، ربما يُقدم على الانتحار. يحلم برجالٍ تطارده؟ هل من أحدٍ ما يطارده”؟ تهزُّ رأسها نافيةً. “أنصحُكِ بغسله وتعلقيه على طرف الأريكة للفرجة”!
أعود إلى المنزل راكضاً. أفتح السكايب. أتحدث مع أخي، أقول له هامساً: “إنهم يحاصرونني”. “ألا يوجد طريق”؟ يهمس!
أهمس: “لم يعد لدي ثقة بأحد”!
*
ما زلتُ أذكر ملامح وجههِ الباردة عندما اخترقت الطلقة رأس الشهيد (م.ن.). قالوا لي: قتلته المخابرات! تعجّبت: المخابرات السورية؟ صمت الجميع، وأمال أحدهم رأسه نحوي: صحفي بجنسية غربية، وضع كاتماً للصوت في رأسه أثناء المعركة واختفى. أذكر أنني لمحته؛ وجهٌ فاترٌ قدَّ من جليد. عينان مجوفتان كغراب نافق. عبر بخفة ثعلب، معلقاً على شفتيه ابتسامةً رقيقة كانسياب نافورة، ومضى كخيال.
إنهم حولنا كالأشباح، أقول لصديقي الشاعر المتكئ على شاطئ البحر. يضحك ويقول لي: لا أرى سوى ساحل من الأفخاذ البيضاء. أركض على الساحل الطويل. أركض وتغرقني الرمال، تجذب كعبي. أصرخ، فتغرغر في فمي الوجوه المتدحرجة المقطعة.
*
قرب حيٍ فقيرٍ تحول إلى خط اشتباك قابلت الأخ (ع.ش.) أثناء تحرير مدينة حلب. كانت القذائف تربض على صدر المدينة ككدمات هائلة. جثوت على صدري احتماءً من قناصٍ أخاط الأجساد بالأرض وأعاد لها سكونها. كان الأخ (ع.ش.) يراقب بقناصته البلجيكية جاثماً على الأرض كجبل من جليد. سألت الشاب المستلقي بالقرب مني: من هذا الرجل؟ اقترب هامساً: جاء من جورجيا. عمل مع المافيا لكن الله تاب عليه، وعند اندلاع الثورة قرر المجيء إلى سورية للجهاد.
أشرح لصديقي بعود مكسور تحت سماء مثقوبة بفوهات المدافع، خطورة الأخوة على مسيرة الثورة، وأكثّف من أفكاري كما لو أنني أجلس وراء مكتب وأتجهز لكتابة قصة، أخلق أنا شخصياتها. لكن صديقي يقول، إن من يقاتلني على الطرف الآخر صديق الدراسة وابن عمي في الدراسة، وأغراب لا أعرف من أين أتوا، لم يعد هنالك فرق.
أمشي نحو المقهى مرتاباً. أُراجع الوصايا العشر منذ بداية الثورة:
لا تتكلم بصوتٍ عالٍ في أيّ مكان.
لا تثق بأحد إن لم تكن تعرفه أو اختبرته مدة لا تقل عن السنة.
لا تثرثر، فالثرثرة شرك!
استخدم أسماء وهمية متكررة.
لا تستخدم موبايلًا ذكيًا ولا تحفظ فيه الأسماء والصور.
ابتسم ما استطعت، ومرّن شفاهك على الابتسام.
إنهم في كل مكان يرونك، أنظر جيداً لتراهم.
لا تأمن الإعلام والشاشات، كن مثلهم خفيًا غير معرّف، فالشاشة قاتلة كالقناصة.
لا تثق بالصحافيين، والأجانب تحديداً، ولا بالأخوة والصالحين والأتقياء.
لا تثق بالناشطين فمن يميز نفسه كناشط يسهل تحديده واختراقه.
يرنُّ الهاتف، تخرج أشباح السنوات الماضية مع الصوت المبحوح يرتجف الصوت متعباً: كيف حالك؟ أهتف فرحاً: الحرية يا صديق! يصمت الصديق بعد اعتقال دام سنتين في الأمن العسكري، يتلعثم الصوت ويرتبك. لا أستطيع تمييز العرس الصادح منه في الماضي. ينسلُّ الصوت مكتوماً مبحوحاً: لم يستطيعوا النيل مني طيلة سنة كاملة. مزقوا جلدي بأظافرهم. هرسوا عظامي. وتجرعت دمي لأشهر. هشّموا أسناني وتشوّهت ذراعي، وبقيت صامداً. ذات يوم دخلوا عليَّ مع (ب.خ.)، هل تذكره؟ أهتف مرة أخرى فرحاً: مازال على قيد الحياة. يقاطعني بخذلان: لقد كان عميلاً للمخابرات! أصرخ: أنت مجنون! تدوّي الرصاصة في أذني وينقطع الإتصال.
*
عندما وصل أبو عبد الله كانت رقبته متطاولة كنسر نحو السماء، مجهداً حزيناً مؤمناً جلس بيننا. كان أبو عبد الله وأمثاله غرباء يعبرون الحدود بحثاً عن هويةٍ تجمع شتاتهم في وطن، أو هكذا بدا لي في درامية مشيته وحزن عينيه الدفين. جلسنا نحن وأبو عبد الله، والتهمنا الحديث عن الجهاد وعن الأعداء وعن المصير مع لقمات صغيرة في فناء بيت بسيط. يتنهد أبو عبد الله ويحدثنا عن سنوات خدمته الثمانية في أحد أفرع مخابرات الدول العربية. أبو عبد الله يستغفر الله، ويطوي البسطاء في جناحه المرقع بالسواد، فيهرعون إليه هرباً من البراميل والخذلان. لم يمضِ وقت كثير بعد وصول أبو عبد الله، حتى صُفيّت قائمة كبيرة من المدنيين والقادة العسكريين: (م.ص.)، (خ.ع.)، (أ.ر.)… إلخ.
يقولون إن أبا عبد الله كان يضع يده في فمّ الثوار ويخرج أجوافهم بيديه. أبو عبد الله، هو ذاته الشاب الطويل الحليق الذقن الذي قابلني في سيارة مركونة على الطريق قبل ثلاث سنوات، عندما كنا نبحث عن ممرات آمنة بين الحدود. ابتسم لي حينها. كان يبتسم فقط عندما قال: ستكون الأمور على ما يرام، ثق بي.
*
المدن ضيقة كحبة “بانادول”. أمشي قرب الحدود، أتلمسها بيدي. ألمحهم يدخلون ويخرجون كالظلال. لا أسلاك شائكة تمنعهم ولا رصاص قناصة ولا “جندرمة” أو درك أو شرطة أو كتائب. يرطنون بلغات مختلفة، بعضهم بوظائف حكومية وبعضهم متخفٍ من دون هوية. يتقاسمون جفاف المدن الحدودية وأرقها، بتذوق الدم في نهاية السهرات. يقول لي صديقي: هناك بالقرب من البناء الكبير يجتمعون. هيا لنتقاسم شيئاً من الوليمة. أهمس له: لكننا نحن الوليمة. يقول: هل تذوقت لحمك؟ إنه ألذ لحم في العالم.
*
في المقهى أشرب القهوة وحيداً. مضى على مكوثي هنا أعواماً طويلة. قبلها أين كنت؟ كنت ابن شوارع، ولم يكن ثمة حدود. كانت الأرصفة والممرات والزواريب ومداخل الأبنية منزلي، أحفظها كما أحفظ تجاعيد وجه أمي. عبرتُ التسميات والمدن والساحات والحدود كما أعبر في سهل هادرٍ من الأصوات. والآن؟ تكاثروا بأحذيتهم.
في البداية كنت أستطيع تمييزهم، لكنهم تسربلوا الوجوه القريبة والعزيزة، أكثر الأشكال حميمية. كيف استطعت تمييزهم؟
كنت أنظر في العيون، في البؤبؤ، في تلك الدائرة التي لا تخطئ. إنهم قادرون على إرسالك للموت بدمٍ بارد.
*
ما زلت في المقهى أجلس مرتاباً. أرتشف قليلاً من البن لأعالج الحنين إلى الشوارع. وفي البن يسقط الموتى مجرّدين من الذكريات. يحملونها من دون دليل. يهبطون كسماء تدلف على مخيلة طفلٍ صغير. يسقط الموتى المعلّقون بالعيون التي تراقب، في الأقلام التي تسجل، في الثرثرة التي تعبر الأسلاك. أسلاكٌ تلتف حول عنقي. يخنقني الرجل المبتسم بذقنه المرتخية، يحزُّ رقبتي بتصالب المسامير، يفقأ الشريان فينفر الدم شلالاً. يبتسم صديقي في نهاية الزقاق منتشياً بنكهة دمي. أصحو. أركض نحو الأوراق وأحرقها، ثم أقفز إلى الفيسبوك. ألمحهم من وراء الستار. أحذف كل المحادثات. أحرق الرسائل المشفرة. أرمي “الهاردات” في منور الحمام. أسمع قفزاتهم السريعة. أخبئ الصور، فالصور تشي بكلّ الأسرار. أجفل كقطٍّ في مدينة غريبة لا أعرف لغتها ولا عاداتها ولا قوانينها. يرنُّ الموبايل، أرقامٌ متسلسلة، أعُدّها كما أعدُّ النجوم في السماء، فينتفخ في قلبي ثؤلولٌ. أنفاسهم وراء الباب، هم ذاتهم. رائحة العرق والأنفاس، العصي السوداء التي يخفونها تحت ابتساماتهم وياقاتهم وثيابهم المعاصرة، وقصصهم اللطيفة ونظرة التعاطف الودودة ووظائفهم الداعمة ومنظماتهم. أجفلُ كقط.. يخترقون قلبي فينفجر الثؤلول المحشور بنجومٍ سقطت عندما سقطت سماء الشوارع على مقصلة الخيانات.
العربي الجديد