مقطع من رواية (أولاد سكيبة)
منذر حلوم
-1-
صفحة 111
ما كان يدور في رأس الرائد وما اتفق عليه مع ضباطه قبلاً، هو أن ينزل العسكر إلى الشوارع، ويطلقوا النار بغزارة في الهواء وفوق الأسطحة، ويفجّروا القنابل الصوتية، ويصرخوا ويرعدوا ويهدروا، كلٌّ كما يستطيع، ومع التأكيد القاطع بمنعهم من دخول أي دار، مهما كان السبب. فإذا ما اعتدى أحد عليهم يقرر القائد كيفية الرد والعقاب، في حينه. فالمطلوب أن يتذكر الجميع هذا اليوم إلى الأبد. يجب أن تسكن أصوات الرصاص والانفجارات جدران بيوت هؤلاء إلى مئة سنة، يجب أن يعرفوا قيمة الجيش وكيف يحترمون العسكر…في البداية فكّر الرائد بإنزال العسكر في أرتال منتظمة، مع صيحات راعدة (أممممممه…عربيييييه….واااااحده….ذاااات…رساااااله….خالدة) على أن يفرغوا أمشاط الرشاشات مع كل صيحة، مصحوبة بانفجارات القنابل الصوتية، لكنّه سرعان ما عدل عن فكرته، فمن شأن هذا الانتظام والترتيب أن يجعل السكان يظنون أن العسكر جاءوا ليحتفلوا معهم، وقد يخرج الناس إلى الأسطحة فيصفقوا ويهتفوا معهم. لذلك اختار فوضى النزول وإطلاق النار بغير انتظام والصراخ العشوائي..هذه الأشياء التي من شأنها أن تبث الرعب في النفوس، وتجعل الأهلين يحسبون ألف حساب قبل المساس بأي شيء له علاقة بالجيش والقصر.
– لم يسألني أحد منكم عن ساعة الصفر! أنا أقول لكم متى نبدأ. نبدأ في التاسعة والربع ونستمر لمدة ثلاثة أرباع الساعة. ثلاثة أرباع الساعة تكفي لمسح هذه الضيعة الصغيرة مرتين. ندخل الضيعة وعندما نصل إلى أطرافها، نلتف ونعود مرة ثانية إلى هنا، تعود كل مجموعة من الطريق الذي انحدرت منه، وفي النهاية نجتمع هنا في المقبرة. في طريق العودة تتولى أنت القيادة – أشار الرائد إلى الملازم الأوّل البدوي- وتعود مع العساكر إلى المعسكر عبر طريق الوادي الذي جئنا منه. مفهوم. أي سؤال؟
– نعم سيدي!- بدأ الملازم المجند كلامه مضطربا محاولا إخفاء قلقه تحت قناع من البرود واللامبالاة- ولكن إذا خرج أحد إلى الشارع، أو ظهر أحد على الأسطحة فماذا نفعل؟ وقبل أن يجيب الرائد عن سؤاله، وكانت العتمة قد أسدلت ستائرها الرمادية وبدأت أولى ومضات الفوانيس تلوح من نافذة هنا ونافذة هناك، فرّ طائر من طرف المقبرة البعيد، حيث شجرة سرو كبيرة تحدد تخم الموتى مع الأحياء، وما إن علا الطائر حتى تبيّن أنّه بومة خفقت بجناحيها وهمّت بالانحدار صوب الضيعة لتغافل الفئران التي خرجت من أوجارها مبكرا. في طريقها من الجنوب الشرقي إلى الشمال الغربي نعبت البومة، على غير عادتها مصدرة أصواتاً غير منتظمة، كأنما هي تسأل الجنود عن سبب وجودهم هنا، فنظر الرائد إلى الملازم المجند وأشار إليه بأن يناوله الكلاشينكوف. ولعلعت أولى صليات الرصاص في هذا المساء. لم تصب أيّ من الطلقات الثلاثين التي أطلقها الرائد البومة. انقضت البومة باتجاه السفح الشمالي لوادي الجراد القريب واختفت في ظلمة الأدغال هناك، لتعود بعد قليل إلى نعيبها الرتيب. صدرت ضحكة مكتومة من جهة العسكر. كان واضحاً أن أحدهم راح يسخر من مهارة قائده في التصويب. صاح الرائد
– اخرس يا حيوان!- ثم توجّه إلى الملازم- الآن نجيبك يا سيادة الملازم العظيم، إذا خرج أحد إلى الشارع يكون حماراً وابن حمار. ما من جحش في هذه الضيعة يفكر بهذه الطريقة ويطلع إلى الشارع أو السطح. عموما اطلقوا النار بالهواء، واقتلوا كل الكلاب والقطط في طريقكم..مفهوم!
– وإذا طلع حمار!؟ جاء صوت خافت من جهة العسكر. كان العسكري كأنّما يسأل نفسه، بعد أن بلغه صوت الرائد المنفعل في ردّه على الملازم. كان العسكر يحبّون الملازم المجنّد، على خلاف الرائد المتعجرف.
– إذا طلع حمار، يطلع على أمّك، مفهوم يا بغل!!!
بدا بيّنا أن كبير العسكر غاضب وسيمعن في تخويف الأهلين وإهانتهم، وليس فقط لأن الاجتماع أدى إلى احتدامه.. بل ولسبب آخر، فطالما أن الأسياد بمجرد تناهي خبر وصول العسكر راحوا يقدّمون أنفسهم وبناتهم بهذه الطريقة، فمن المغري النظر إليهم حين يرون كيف يكون الرعب الحقيقي. معظمهم لم يخض معركة، وربما جميعهم، وأما اليوم فالمعركة ستأتي إليهم بنفسها، ببارودها ودوي انفجاراتها ولعلعة رصاصها، وسنرى كيف سيكونون بعدها. لم يخطر بباله أنّ أحداً آخر ليس من أسياد القوم، على افتراض أن يكون أولئك المجتمعون في بيت بوعلي مروان أسيادا بالفعل، أن أحدا آخر يعدّ عدته لمقاومة العسكر الذين احتلوا المنبسط الممتد من قاعدة الجبال إلى البحر وسدّوا منافذ البحر ومنعوا الأهلين من إتيان الماء والملح والزبد.. لم يخطر بباله أنّ إقامته هنا لن تكون طيّبة أبداً، وأنّ يوماً سيأتي سيحسب فيه وعسكره ألف حساب قبل دخول هذه الضيعة التي هم على وشك تمزيق هوائها بالبارود والرصاص. لم يخطر ببال الضابط ذلك، فهو لم يقرأ ولم يسمع بأن خنوع الآباء لا يؤدي بالضرورة إلى خنوع الأبناء، وأنْ تحكم الناس بالعنف يعني أن تضع نفسك تحت رحمة عنفهم المضاد. وأن أحاديث الأهلين المقهورين في البيوت، الأهلين الذين حِيل بينهم وبين الوصول إلى بساتينهم ووديانهم ومائهم وزرّودهم وبطمهم وقطلبهم وخرنوبهم وريحانهم وبلانهم وطيونهم..أنّ القهر الذي يعبّرون عنه بين الجدران سينمو في قلوب الصغار ويتحوّل إلى رغبة في الانتقام، وأن عقول الصغار المحاصرين بالممنوع لن تقيم فرقا بين جيش وجيش. فحين تصبح الضيعة وطناً محاصراً بالرصاص، يصبح للرصاص معنى آخر وتطبق الحدود التي هنا الخناق كمثل الحدود التي هناك. لم يخطر ببال قائد العسكر أنّ الاستهتار بقدرة الصغار حماقة كبرى، وأنّ العقول الفتية قادرة على رسم خطط يعجز عنها الجنرالات الذين علّموه أنّ الأعداء دائما أغبياء وجبناء. وأمّا هؤلاء العسكر الأوباش الذين يسخرون منه الآن فسيعرف كيف ينتقم منهم ويجعلهم عبرة للآخرين فور عودته إلى المعسكر. لن يمضي ليل اليوم حتى يخبره النشطاء بأسماء الذين سمحوا لأنفسهم بالهزء من مقامه. وفيما راح يفكّر بذلك ومض في ذهنه سؤال الملازم، فكّر بما يمكن أن يحصل، فعلاً، إذا ما قُتل أحد ما عن طريق الصدفة أو الخطأ في الضيعة، لكنّه لم يتوقف كثيراً عند هذا الاحتمال، فالهدف من العملية ترويع سكان عين الغار المطلّة على القصر حتى لا يجرؤ أحد منهم منذ اللحظة على النظر في عيني عسكري من عساكر الحرس فكيف بالضباط أو بمن يحرسون. كان المطلوب أن يفهم الجميع أن أية ذبابة تطير من الضيعة إلى ذلك المكان الذي يعسكرون حوله ويحرسونه سوف تطلق عليها ألف رصاصة، وأن الذباب والقطط والكلاب والعصافير والحمير والخنازير والبشر هنا سواء بسواء. فعلى الجميع أن يعرفوا كيف يصونون حيواتهم. يجب أن يعلم الناس لماذا تبدأ العملية بالمقبرة ولماذا تنتهي بها، وإذا كان لأحد أن يتباهى بقبور أجداده وبإطلالة هؤلاء الأجداد من مملكة الموتى على بيوت أبنائهم وحيواتهم وأثداء نسائهم وضروع مواشيهم، فيجب أن يعلم أن الطريق إلى قبور الأجداد مفتوح باتجاه واحد، وأن وصاية القامات والمقامات والهامات والقبب لا محل لها هنا. على الجميع أن يدركوا منذ اللحظة الأولى أن ثمة شيئاً واحداً مهم، وأن ثمّة آمراً واحداً تكون الحياة بكلمة منه ويكون الموت.
-2-
صفحة 175
-..ولكنني لم أسألك عن حاجتك إلى الديناميت، فإذا كنت تريد صيد السمك آخذك معي..
– لا أعرف! لا لشيء..
– ولكن، إياك أن تستخدمه في غير محلّه يا علي! آه يا بنّي، لا أحد إلاّ ويشعر في لحظة معيّنة برغبة في الحرق والتدمير والقتل.. والفرق بين العاقل والمجنون أنّ العاقل ينتظر انقضاء هذه اللحظة، يعرف أنّها عابرة ويضبط نفسه حتى تعبر، وأمّا المجنون فيستسلم لهذه اللحظة الجهنمية وإذا كان طيّباً يندم على فعلته بقية عمره، وأمّا إذا كان شريراً فيشعر باللذة من الخراب والموت وينشدّ إلى المزيد منه
– أين نحن وأين الشر يا عمّي! الصغار مثلنا حتى لو تمنّوا يعجزون عن تحقيق حتى أمنياتهم الشريرة..
– أين سمعت هذا الكلام؟! لا يمكن أن تكون أنت قائله، صحيح، بالله صحيح، الكبار شرهم كبير مثلهم والصغار شرّهم صغير مثلهم..صحيح! – ضحك علي في سرّه فهو لم يكن يعني ما رآه بوعلي في قوله- شر الكبير يكبر بين يديه..تخيّل، تخيّل أمام عينيه بذرة شر، فهو بدلاً من أن يقضي عليها وهي بذرة أو ينزع فتيل الشر منها، يتولاها بالرعاية بالسقاية والغذاء حتى تكبر وتثمر المزيد من الشر..هو مثلاً يقضي على مدينة كاملة من أجل القضاء على مئة شخص كان بإمكانه إلقاء القبض عليهم حين كانوا خمسة. يتفرج عليهم كما يتفرّج مربّي حيوانات خبير على خراف يسمّنها للذبح..يترك أضاحيه تتكاثر وتنتشر بين الناس ويسيل لعابه متخيلاً لعبة الموت القادمة، يراها تكبر وتكبر معها لذّته، تكبر ويكبر معها استعداده لحفلة الشر الكبرى.. أمّا الطيب- بدا بوعلي كأنّما هو يقول ما يقوله لنفسه، وكأنه نسي وجود علي ونسي الديناميت الدافع إلى الحديث- إذا كان لا بد من مخاطرة، يعمل الطيّب على إبعاد الناس عنها، على تجنيبهم نتائجها وليس حشرهم فيها وإقفال الأبواب عليهم. الشرير يضلل الناس، يوهمهم بأن كل شيء على ما يرام، يتظاهر بمحبته لهم وحرصه عليهم، يغريهم بالدخول إلى حظيرتهم وما إن يدخلوا حتى يغلق عليهم الأبواب والنوافذ، ويتفرّج عليهم من وراء القضبان.. أتخيله هارباً كلما ابتعد عن النار خطوتين توقّف ليمتع عينيه برؤية الناس يحترقون في الأقفاص التي حشرهم فيها.. ينقّل عينيه بين يده القابضة على مفاتيح أقفاصهم، وبين اللهب يمتد إلى نسائهم وأطفالهم..
– آه يا علي..فكّر ألف مرّة قبلما تستخدم الديناميت..القتل سهل والحياة عزيزة يا بني، والنار إذا ما أشعلناها خرجت عن سيطرتنا..بمقدورنا إطفاءها على الأرض بطريقة أو بأخرى وبوقت قصير، لكن النار التي بالقلوب تحتاج إلى أجيال حتى تنطفئ وتحتاج إلى شغل كثير وصدق كبير..النذل والشرير والمستهتر هو الذي لا يفكّر بالنار قبلما يستخدمها، لا يفكّر بمصير البشر، يفكّر فقط بحاله وبحياته وبماله وبعزّته وبسلطته!!
– الدار العربية للعلوم –بيروت،2009