صفحات العالم

“مكافحة الإرهاب” و”تغيير الأنظمة”/ حازم صاغية

بات واضحاً أنّ الدبلوماسيّة الروسيّة تروّج اليوم لنظريّة تقول: إنّ ما يهمّ العالم ويفيده هو مكافحة الإرهاب، لا تغيير الأنظمة القائمة.

والحال أنّ النظريّة هذه، التي جرت الإحالة إليها غير مرّة، تقوم على ثلاثة عناصر إغراء للولايات المتّحدة الأمريكيّة وسائر العالم الغربيّ: فمن جهة، لا يمكن الغرب أن يتجاهل مكافحة الإرهاب الذي ضربه في غير عاصمة من عواصمه ومدنه (واشنطن، نيويورك، لندن، مدريد…)، فضلاً عن خوض الولايات المتّحدة، في عهد جورج دبليو بوش، ما أسمته “الحرب على الإرهاب” والتي قادتها إلى أفغانستان والعراق. ومن جهة أخرى، بات من الصعب تجاهل الحقيقة القائلة إنّ “تغيير الأنظمة” الذي ابتدأه “الربيع العربيّ” أخفق في التوصّل إلى نتائج سريعة وقاطعة في ما خصّ إرساء نصاب مستقرّ جديد. هكذا، وفي الفجوة الفاصلة بين إطاحة الوضع القائم القديم والعجز عن توليد وضع قائم جديد، اتّسعت مساحة الفوضى والإرهاب المقلقين للعالم بأسره. وما رأيناه قبل أيّام في سيناء وفي بيروت، إضافة إلى ما تشهده بغداد، برهان على توسّع النشاط الإرهابيّ القاتل.

وأخيراً، إذا كان “تغيير الأنظمة” يؤدّي إلى صراع مكلف في ما بين القوى الدوليّة النافذة، وصولاً إلى تجديد الحرب الباردة بعدما انتهت قبل قرابة ربع قرن، فإنّ “مكافحة الإرهاب” إنّما يتأدّى عنها تضافر الجهود الدوليّة وتناسقها، ومن ثمّ توفير مناخ أشدّ ملاءمة للسلام العالميّ. وهذا إذا ما خاطب ميول باراك أوباما السلميّة، فإنّه يخاطب أيضاً مخاوف الأوروبيّين الخائفين من عبور الإرهاب إليهم من ضفّة المتوسّط الجنوبيّة. لا بل يمكن لـ”مكافحة الإرهاب” أن توفّر أيضاً مناخات إقليميّة أهدأ وأشدّ توافقاً، بدليل قدرتها على الجمع بين متخاصمين كالإيرانيّين، في مواجهة مجاهدي خلق والجبهة العربيّة لتحرير الأحواز، والأتراك في مواجهة حزب العمّال الكردستانيّ.

لكنّ الصحيح في هذا الكلام، وفيه الكثير من الصحّة، يشبه ما يسمّيه العرب حقّاً يراد منه باطل. ولسنا بحاجة إلى سَوق الأدلّة على استخدام الحجج الروسيّة وسواها بالمعنى الذي تُستخدم فيه الطائرات والخبرات العسكريّة الروسيّة، أي لتمتين موقع النظام السوريّ وتحصينه من السقوط. وهذا فضلاً عن فتح الأبواب الدوليّة على مصراعيها أمام الوافد الإيرانيّ الجديد، بحجّة أنّه هو أيضاً مكافح للإرهاب في العراق وأفغانستان وسواهما.

أبعد من هذا أنّ المحاذير التي تخبّئها النوايا الخبيثة تجيز الشكّ بالمنطق الروسيّ كلّه، كائنةً ما كانت أوجه الصحّة الشكليّة التي قد ينطوي عليها.

فالفلسفة الروسيّة في مكافحة الإرهاب، انطلاقاً من تجربة موسكو العسكريّة في الشيشان، تقوم على مبدأ الأرض المحروقة من دون الاستماع إلى أيّ من مطالب السكّان المحليّين الذين زعم الإرهابيّون تمثيلهم وتمثيل مصالحهم. وهذا ما لا يسمح بتوقّع نهاية قريبة لمشكلة عميقة ومديدة، دع جانباً أن تحمل لنا هذه النهاية أيّ حلّ عادل ومستدام.

فوق هذا فإنّ الأنظمة العسكريّة والاستبداديّة التي ستناط بها المشاركة في مكافحة الإرهاب، والتي ستحظى للسبب هذا بدعم القوى العظمى، لا تفعل باستبدادها إلاّ مفاقمة الإرهاب الذي يتغذّى على استئصال الحياة السياسيّة. وهذا معطوفاً على أنّ تلك الأنظمة لا تتورّع هي نفسها عن استخدام الإرهاب ضدّ خصومها، وهو ما يصحّ خصوصاً في النظام السوريّ والنهج الذي اتّبعه طويلاً في لبنان والعراق.

لا يُقصد بالكلام هذا تسخيف مكافحة الإرهاب، أو اعتبارها مجرّد غطاء كاذب لسياسات عدوانيّة وإمبرياليّة. وهذا ما يفعله الكثيرون منّا الذين يضعون الارهاب بين مزدوجين أو يسبّقون كلّ ذكر له بتعبير “ما يُسمّى”. والحال أنّ بعض قوى الثورة السوريّة ارتكبت هذا الخطأ حين أرادت من العالم أن يهبّ لنجدتها من دون أن تُعنى بنجدته في ما يراه حربه المشروعة.

واقع الأمر أنّ الإرهاب قائم، والإرهاب جدّيّ ويستدعي المكافحة، بيد أنّ مكافحته لا تتمّ بهذه الأنظمة التي، فضلاً عن استخدامها إيّاه، لا تفعل غير زرع أسبابه في مجتمعاتها. وهذا ما يسمح بالقول إنّ الفصل الروسيّ بين مكافحة الإرهاب وتغيير الأنظمة، لمصلحة المكافحة، إنّما يشبه الفصل الذي يقيمه بعضهم لمصلحة تغيير الأنظمة مع غضّ النظر عن الإرهاب. الفارق بين الفصلين أنّ الروسيّ منه يفوق الثاني خبثاً.

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى