صفحات الثقافة

ملائكة البعث


جهاد بزي

السقوط المدوّي لقادة «البعث» الأمنيين لم يعد مسموعاً بعد أيام على وقوعه. ليس في الأصل مهماً، كما لن يكون مهماً الإعلان المؤجل لنهاية الحزب نفسه. التاريخ مشغولٌ بحدث آخر. هناك شعب كنا نجهله، خرج إلى النور. شعب سوري اكتشفناه، بعدما عُلّب في الصور المُخترعة عنه لعقود مديدة. عُلّب وركن إلى رفٍ عالٍ. جُعل ذا لغة واحدة نحتت عباراتها في فولاذ كي لا تزول او تتغير مهما مر عليها الزمن. جُعل بالقوة مؤمناً بشعار موحّد وقضية موحدة. وُحّد بقمع الغنى في اللغة التي في داخله، كي يسهل توضيبه إلى الأبد.

ليس سهلاً إخفاء شعب برمته، كل هذه السنوات. لكن «البعث» كان بارعاً. برع في الإيهام بأنه قدر. سوّق، خلف شعاراته المتخشبة، مهاراته الاصلية كتاجر وداهية سياسية يمكنه أن يساوم الجميع من أجل بقائه. سوّق أنه في الأصل ليس إلا محتالاً يجيد أحابيل الدول واستراتيجياتها. يجيد التخلص من مآزقه بعقد الصفقات مع الغرب، مبقياً في المقابل، على اللغة نفسها في التحدث مع محكوميه. يبقي لهم على الصحيفة والإذاعة والتلفزيون ومجلس الشعب المصفق بلا أي تغيير. يبقي لهم خطاباً ممنوعاً ان يتبدل فيه حرف. يبقي لهم اليأس من وقاحته ومن جبروته ومن قدرته على طمسهم. يبقي لهم إلغاءه لهم.

حين قام السوريون، كانوا يبدأون الصعود من هوة عميقة عميقة. كانوا يزيلون عن جلودهم اختفاءها، ومن صدورهم تماثيل البرونز المزروعة فيها، ومن عقولهم خوفها من المفردات. كانوا قبل كل هذا يزيلون عنهم ثوب الورد الذي ألبسهم إياه الحاكم. جعلهم شعباً مقدساً مثل شعب كوريا الشمالية: كلهم لاطائفي، وكلهم عروبي، وكلهم مضحّ عن العرب، كل العرب، المتخاذلين المهادنين لأميركا وإسرائيل. شعب حزبي بلا عيوب ولا هنات. شعب عظيم.

لم يكونوا كأي شعب آخر له ميزاته كما له صراعاته وخلافاته وتنوعاته وأمراضه. كانوا مجرد ملائكة البلاد التي بات لها اسم شهرة هو نفسه اسم شهرة حاكمها. وكل خارج عن السياق كان شاذاً يرجم بالقاموس المحفوظ من الشتائم.

كسر السوريون، أول ما كسروا صورتهم الوردية، فصعدوا إلى الضوء شعباً عادياً وليس أسطورياً. نتاج هذه البلاد بأوبئتها وأمجادها وتسامحها وتطرفها ومظالمها وقمعها وحرياتها. شعب آخر فيه الطائفي والاسلامي والعروبي واليساري والسلفي والليبيرالي والكردي وغير المهتم إلا بيومه والحالم في كل لحظة بالهجرة. متنوعون كما يجب أن تتنوع الناس، وملونون كما يفترض أن تتلون. انتصروا بأن صاروا عاديين. لا أكثر ممن يحيط بهم، ولا أقل منهم.

وهم يحاربون عدم وجودهم ويحاربون قدسيتهم معاً. يخوضون بالدم تجربتهم، لأن الحاكم ينتقم من إصرارهم على الخطوة الأولى. كان بنى كل مجده على منع السوريين من الحلم بأن تلك الخطوة يمكن أن تقع. لكنهم خطوا فخسر البعث ملائكته أخيراً، وخسرت سوريا اسم شهرتها، فاستعادت بفرح اسم العلم.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى