صفحات سوريةميشيل كيلو

ملاحظات على مشروع برنامج: إسقاط النظام أم إعفاء المؤسسة العسكرية؟


ميشيل كيلو

أصدر المجلس الوطني السوري مشروع برنامج سياسي لملاقاة المرحلة القادمة من تطور الأوضاع السورية. يقول المجلس في بند أول تعريفي بضرورة «إسقاط النظام القائم بكل رموزه»، ويضيف في بند أول يتصل بما يسميه المرحلة الانتقالية: «يتولى المجلس الوطني مع المؤسسة العسكرية تسيير المرحلة الانتقالية وضمان أمن البلاد ووحدتها حال سقوط النظام». ومع أن المشروع يتضمن بنودا كثيرة تستحق التوقف عندها باهتمام، فإنني سأناقش بالدرجة الأولى منطويات هذين البندين لما لهما من أهمية في تعيين الإطار الفكري والنظري لرؤية المجلس، ومن نتائج عملية تنبع منها.

بداية، من المستغرب أن لا يعتبر المجلس المؤسسة العسكرية جزءا من النظام ورمزا من رموزه، وأن لا يتطلع إلى إسقاطها بل إلى التعاون معها في المرحلة التالية لسقوطه. هل يرجع هذا إلى موقف يعتمده المجلس يعتبر المؤسسة شيئا مختلفا عن الجيش، حامل النظام الرئيس، الذي تبين خلال الانتفاضة الشعبية الراهنة أنه حاميه الرئيس أيضا؟ من المستبعد أن يكون الأمر على هذا النحو، ما دام المشروع يتحدث في أحدى فقراته عن ضرورة الحفاظ على الجيش باعتباره مؤسسة رئيسة من مؤسسات الدولة. إذا كان المجلس سيتعاون مع المؤسسة العسكرية ويريد الحفاظ على الجيش، فأي نظام سيسقط؟ وإذا كان سيعمل مع المؤسسة، فأية رموز سيسقط في النظام، المعروف بأنه عسكري/أمني؟ لا معنى في حال التعاون مع المؤسسة العسكرية للقول بإسقاط النظام، إلا إذا كان المجلس لا يعني حقا ما يقوله عن الإسقاط، أو كان يقوله لإرضاء الجمهور، الذي رفع شعار الإسقاط ولم يعد يستطيع النزول إلى ما تحته أو دونه أو التراجع عنه، لكثرة ما سقط من قتلى وجرحى من بناته وأبنائه، ولأسباب مفهومة تمليها حدة صراع من النمط الدائر اليوم في سوريا، تطرح فيه شعارات تمثل مطالب الحد الأقصى للطرفين المتصارعين، دون أن تشكل بالضرورة برنامجا سياسيا لا عودة عنه بالنسبة لهما. هل يمكن أن يعني المجلس بما يقوله عن المؤسسة العسكرية مؤسسة أخرى كالجيش السوري الحر؟ هذا مستبعد، لأنه يعتبر الجيش جزءا من ثورة يتحمل وحده مسؤولية تمثيلها، ويرى فيه جهازا يجب أن يأتمر بإمرته، فليس بحاجة إلى ذكره كمؤسسة منفصلة عنه يريد التعاون معها في المرحلة الانتقالية. وهو لم يذكر اسم الجيش السوري الحر، عندما تحدث عن الجيش، ولو كان يقصده لقال ذلك بوضوح، بالنظر إلى أهمية الأمر، وتعاظم دور وأهمية ومكانة الجيش السوري الحر، الذي يبدو أن المجلس كلفه بحماية المدنيين، فلا يعقل أن يتم تجاهله عند الحديث عن مستقبل سوريا، لو كان هو الجهة المقصودة بالكلام. وعلى كل حال، فإن التعهد بالتعاون مع المؤسسة العسكرية هو في جميع الأحوال دليل على غموض وتناقض في رؤية المجلس، الذي لا يدعو إلى إقامة مؤسسة عسكرية تابعة له، وإنما يؤكد في بندين مستقلين من برنامجه على»سلمية الثورة» و«دعم طابعها الجماهيري السلمي»، ويرفض بالتالي عسكرتها.

إلى ما سبق، يدعو المشروع، الذي يريد إسقاط النظام بكل رموزه، إلى مرحلة انتقالية يسهم فيها رمزه الأهم وحامله الرئيس: مؤسسته العسكرية، يقترح أن تستمر عاما ونصف العام تشارك هذه خلالهما في وضع أسس النظام الجديد عبر مشاركتها في تأسيس حكومة وانتخاب جمعية تأسيسية تضع دستور البلاد. لا يقول المشروع ما إذا كانت المؤسسة العسكرية، التي ستشارك في إدارة المرحلة الانتقالية التالية لسقوط النظام، ستلعب دورا في إسقاطه تجزى عليه بإشراكها في إدارة مرحلة الانتقال، ولا يتطرق إلى هذا الدور، رغم أن مصير سوريا يتوقف عليه. ولا يقول أيضا كيف ستشارك المؤسسة العسكرية وبأي وزن سياسي وتمثيلي، علما بان الحديث عن إسقاط النظام بجميع رموزه يصير بلا معنى، إذا كان رمزه الأهم: أي مؤسسته العسكرية، سيسهم في سقوطه وسيقبل بمرحلة انتقالية تلي هذا السقوط، دون أن يلاحظ واضعو المشروع أن مفهوم المرحلة الانتقالية يعني أن النظام لم يسقط بجميع رموزه، وإلا لما كان هناك حاجة إلى مرحلة كهذه، إن كان لها من معنى فهو الاتفاق مع مؤسسات النظام مجتمعة أو متفرقة أو مع رموزه على إجراء تحول فيه يحل محله نظام مختلف عنه، يعني النجاح في إقامته سقوطه، ولكن في نهاية المطاف. أخيرا، إذا كان هناك حقا مرحلة انتقالية، فهذا يعني أمرا واحدا هو ضرورة تغيير هدف المجلس من «إسقاط النظام بكل رموزه» إلى «إسقاط ما يمكن إسقاطه منه»، أو «إسقاط بعض رموزه والإبقاء على بعضها الآخر»، الذي سيتعاون مع المجلس في إنجاز مهام خطيرة كـ«تسيير المرحلة الانتقالية وضمان أمن البلاد ووحدتها حال سقوط النظام»، حسب قول أحد بنود المشروع.

والآن: إذا كان سقوط النظام لا يعني إسقاط مؤسسته العسكرية: رمزه الأكثر أهمية وقوة، فهذا معناه منطقيا أن إسقاط النظام ليس هدفا حقيقيا بل هو يعني في أحسن أحواله إسقاط الرئيس، رمز النظام الذي يعتبر المشروع تنحيه وخروجه من الصورة شرط بدء مرحلة انتقالية ستشهد تعاونا سياسيا وأمنيا واسعا مع المؤسسة العسكرية. ذلك يفترض بالطبع الاتصال بقادتها والتنسيق معهم تسهيلا لإسقاطه، وبالتالي وجوب إجراء حوار أو مفاوضات «في ظل دباباتهم»، مع ما يمثله ذلك من تعارض مع موقف الشارع وفكرة الإسقاط القطعي والتام للنظام من خلال نشاط ثوري تنجزه قوى الانتفاضة الرافضة للحوار والتفاوض، في حين يدعو المشروع إلى التفاوض مع قوى وعناصر منه لم تتلطخ أيديها بدماء الشهداء، وإلى التعاون معها قبل سقوط النظام، من أجل إسقاطه، وبعد سقوطه، لإدارة سوريا وضمان سلامتها وحمايتها!.

هذه أول مرة يعلن المجلس فيها تراجعه العلني عن إسقاط النظام بكل رموزه وركائزه، وعن قبول التفاوض مع مؤسسته العسكرية. لكنه يفعل ذلك بطريقة تؤكد ما يعانيه من إرباك فكري وسياسي، ربما كان ناتجا عن وقوعه تحت ضغط شارع توجهه أهداف جعل منها شعارات يسعى إلى تحقيقها بصورة آنية ومباشرة، مع ما ينجم عن ذلك من قفز فوق محطات سياسية مهمة لا مفر من أن تمر الثورة فيها، وتجاهل مشكلات رئيسة تؤثر في مسارها، وتحت ضغط ضرورات العمل العام بما يحمله من تشعب وتعقيد، ويفرضه من إبقاء أبواب السياسة مفتوحة وميدانها حرا وأيادي العاملين فيها طليقة، وبالتالي من ضرورة الارتقاء به إلى مستوى يتجاوز كثيرا مستوى الشارع الراهن. هذه البلبلة تظهر بصورة خاصة في حديث المشروع عن المؤسسة العسكرية، التي يريد التعاون معها خلال المرحلة الانتقالية، والجيش الذي وعدت وثيقته التأسيسية بالحفاظ عليه باعتباره إحدى مؤسسات الدولة التي يجب الحفاظ عليها. السؤال: هل الجهة التي تقاتل الشعب اليوم وتقتله هي حقا جيش، أي مؤسسة وطنية تخضع لقيادة سياسية وتنفذ إستراتيجية تضعها حكومة مدنية منتخبة، يقتصر دورها على قتال عدوها الذي خارج حدود الوطن، لذلك ليس من مهامها وفي خططها وعقيدتها التدخل في الصراعات الداخلية، التي يجب أن تتم تسويتها بوسائل وأدوات السياسة السلمية والتفاوضية، وليس بالسلاح والعنف، بينما تتكون المؤسسة العسكرية التي يريد المجلس التعاون معها، من جماعات رسمية غير شرعية مسلحة ومنظمة، تحكم بلدانها وتحدد سياساتها وتجبر المدنيين من الساسة على انتهاجها، وهم يخضعون جميعهم لها دون قيد أو شرط، بينما يقتصر دورها على العدو الداخلي: الشعب الذي تمسك بمصيره وتمنعه من تقرير أي شأن من شؤونه أو بلوغ حريته والتخلص من ما يتعرض له من ظلم وقهر وقوة وعنف.

كم كان من الأفضل لو أن المشروع وعد بتحويل المؤسسة العسكرية إلى جيش وطني، بدل الوعد بالعمل معها من اجل حماية وطن لا ترى حمايته من مهامها، والحديث عن الحفاظ على جيش ليس موجودا بعد، ولو كان موجودا لرفض بالتأكيد إطلاق النار على الشعب الأعزل، ولتذكر أن العدو يعيش بسلام على أرض وطنه المحتلة، ولانتفض ضد المؤسسة العسكرية القائمة، التي لن يكون قابلا للبناء ما دامت قائمة، ولن تقوم له أو للديموقراطية قائمة إن هي بقيت متماسكة ومسيطرة. وللعلم، فإن سيطرة المؤسسة العسكرية وتماسكها هما العقبة التي تحول اليوم دون سقوط النظام، فلا عجب أن يتساءل المرء بأية معجزة سينجز المجلس إسقاط النظام بمعونتها، وكيف سيحولها إلى مؤسسة تقبل العمل على بناء بديل له، يفترض أنه معاد لها وأنها لن توجد في ظله.

يقدم مشروع برنامج المجلس الوطني شهادة واضحة على الإرباك الذي يواجهه هذا الجزء من المعارضة السورية، ويؤكد افتقاره إلى رؤية للحدث السوري تتسم بقدر مقبول من الانسجام والتماسك، تتيح له التنبؤ بتطوراته التالية وتطوير ردود ملائمة تلاقي متغيراته وتكون لصالح الشعب، بدل الانخراط في عفوية الشارع وتشجيع ردود أفعاله المتعارضة مع الحرية والمدنية من جهة، والسكوت على ما تواجهه الثورة السورية من انزياح نحو السلاح، وما يسعى النظام إلى فرضه عليها من نأي عن السلمية والمدنية، وطي لمطلبها الأصلي في الحرية والديموقراطية، من جهة أخرى!.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى