ملاحظات من البحر الميت
ميشيل كيلو
دعا الصديق عريب الرنتاوي، مدير «مركز القدس للدراسات السياسية»، لفيفا من المعارضين السوريين يمثل أطيافهم المختلفة، إلى ندوة متعددة الموضوعات، أراد للمشاركين فيها أن يتناقشوا ويتباحثوا حول مسائل مهمة كثيرا ما يتكرر ذكرها في بيانات وتصريحات أحزاب وأرباب المعارضة السورية هي: «أي نظام سياسي لسوريا، الدين والدولة، حقوق الأفراد والجماعات، أسئلة الهوية والمواطنة والاندماج». ولكي تتم لقاءاتهم في أجواء شفافة، فقد أكرم وفادتهم وأنزلهم في فندق «ماريوت» الفاخر جدا على شاطئ البحر الميت الشرقي، حيث الشمس والماء والوجه الحسن.
يلقي ما يحدث في لقاءات كهذه أضواء كاشفة على هوية من يشاركون فيها وعلى سويتهم وهمومهم، ويبين رؤاهم وطرق تفكيرهم ومراميهم. استمر حوار المشاركين يومين كاملين، مع أنه كان بينهم أعضاء من جهات متنافسة تكون أحيانا متعادية هي «هيئة التنسيق الوطني» و«المجلس الوطني السوري» و«جماعة الإخوان المسلمين» وممثلو أحزاب كردية، ومستقلون، إلى جانب «المنبر الديمقراطي السوري»، الذي كان قد أعلن عن تشكيله قبل يومين في القاهرة، وشارك مئات الشبان والشابات في تأسيسه.
ترك اللقاء لدي الملاحظات التالية:
يواصل المعارضون السوريون الهرب من السؤال الرئيسي: ماذا نفعل قبل أن يذهب النظام، لنجعل ذهابه حتميا بالنسبة له وقليل الإيلام بالنسبة لنا؟.. ويركزون أنظارهم على مسألة بديلة هي: ما الذي علينا فعله بعد ذهابه؟.. بهذه الطريقة في النظر، يهرب المعارضون من مسألتين مهمتين تتصلان بعجزهم إلى اليوم، بعد نيف وأربعة عشر شهرا من بدء الانتفاضة الشعبية، عن تقديم برنامج عمل يتضمن أي قدر من الوصف أو التحليل الواقعي لمسار الثورة وللمراحل التي ستجتازها، ولما عليهم وعليها فعله في كل واحدة منها.
لم تضع أي قوة من قوى المعارضة إلى يومنا هذا استراتيجية سياسية للنضال، لذلك تراها تهرب من هذا التحدي الواقع إلى عالم الكلام المريح، الذي لا يمكن اليوم تطبيقه وبالتالي اختبار واقعيته، وتطنب في الحديث عن الدولة الديمقراطية/ المدنية، مع أن التاريخ لم يعرف شيئا يحمل هذا الاسم. نهرب مما يتحدانا إلى ما لا يمكن قيامه اليوم، حيث نسرف في توصيفه وتجميله وتقديم وعود سخية جدا حوله، مع أننا لسنا متأكدين من أنه سيكون عند قيامه شبيها أو مماثلا لما نقوله.
إلى هذا، فإننا نقدم رؤيتنا في إهاب مثالي يصعب وجوده فعليا، فالديمقراطية في كلامنا صافية نقية لا تشوبها شائبة، وكذلك المدنية والحرية والمواطنة. خلال النقاش حاولت لفت أنظار الحاضرين إلى أن الديمقراطية القادمة إلينا ستفجر مشكلاتنا التي أخفاها الاستبداد أو كبتها، وستحمل جميع العيوب والندوب التي تركها في مجتمعنا ودولتنا، كالمسألة الطائفية والمخابراتية والعسكرتارية، ومسائل الفقر والعدالة الاجتماعية والهوة بين الأغنياء والفقراء والتنمية، والمسألة السياسية، ومسألة التربية والتعليم، ومسألة تنمية وعي وطني بعد ما يشبه حربا أهلية، ومسألة الدولة ووحدتها والمجتمع ولحمته، ومسألة المساواة بين المرأة والرجل والعرب والكرد.. إلخ، فهي لن تكون ديمقراطية بلا مشكلات، ولن تقوم أصلا إن تم التصدي لهذه المسائل/ المشكلات بطرق غير ديمقراطية أو تتنافى مع الديمقراطية.
في ضوء ذلك، اقترحت مناقشة هذه المسائل، لأنها قضايا الواقع الذي سيبقى قائما بعد سقوط النظام ولا بد أن نتصدى له بوسائل ديمقراطية، لنجعل قيام نظامها ممكنا وواقعيا، وكي نقلع عن الحديث عن دولة ديمقراطية/ مدنية نخال أنها ستحل جميع مشكلاتنا بمجرد الإعلان الكلامي عن قيامها، عقب سقوط النظام الحالي، الذي لا نعرف إن كان سيسقط حقا، وكيف، مع أننا نثق جميعا من أنه ذاهب لا محالة.
لم يأبه أحد لهذا الاقتراح، وحين انتهيت من تقديمه استأنفوا حلمهم بديمقراطية صرف لا مشكلات فيها، هي أقرب إلى سحر القول منها إلى نظام سياسي – اجتماعي واقعي هو ابن التاريخ ومن صنع بشر يرزحون تحت أثقاله.
هل لما قالوه أي قيمة عملية وفعلية حقا بالنسبة إلى سوريا ونضالات شعبها الحالية؟ لا أعتقد ذلك، لأن الديمقراطية التي ينشدونها ليست ولن تكون غير كيان رغبي تم تجريده من أي عيب، لن يراه أحد منا، لأن أحدا قبلنا لم ير ما يشبهه أو يماثله في أي حقبة وأي دولة قائمة، بما في ذلك الدول الديمقراطية.
أضاع السادة المتحاورون وقتهم، مع أن أحد الإخوة الكرد أكد لهم بطريقة غير مباشرة صحة كلامي، وأفهمهم أن الديمقراطية القادمة لن تكون بلا مشكلات ومعضلات خطيرة ويصعب حلها في إطار الكلمات الحالمة والجميلة التي تتنافس في امتداحها، حين أخبرهم بأن للديمقراطية وظيفة واحدة هي إحياء الخصوصيات ومطالبها، كحق تقرير المصير، وأن أكراد سوريا يرون في الوعد الديمقراطي شيئا واحدا هو حقهم في دولة قومية خاصة بهم، أي انفصالهم عن سوريا الديمقراطية.
في تقديري، لسنا اليوم بحاجة إلى أحاديث تتناول بطريقة خاطئة ومبالغ في تبسيطها موضوعات افتراضية مهمة، بعد أن تجردها من ممكناتها واحتمالاتها الواقعية، بينما تمس كثيرا حاجتنا إلى البحث والتفكير المشترك والعالم في المهمة الرئيسية التالية: ماذا يجب علينا أن نفعل كي نصل إلى الديمقراطية؟.. بقول آخر: ماذا يجب علينا فعله كي نتجاوز النظام القائم بنجاح؟ هذا ما لا يفكر فيه أحد من أرباب وأحزاب المعارضة، رغم أنه التحدي الذي يطرح نفسه عليهم بقوة تتصاعد يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة، ولا يفكر النظام في شيء سوى إفشاله، ويركز جهوده العملية كلها على نقطة واحدة يعبر عنها سؤاله التالي: كيف أتجاوز هذه الثورة الشعبية وأعيد الوضع إلى ما كان عليه قبل 15 مارس (آذار) من العام الماضي (عام 2011)، وما السبيل إلى استعادة زمام المبادرة من الشارع وسحق الانتفاضة؟
لا بد من تحديد صورة سوريا المستقبل، لكن بعد تحديد سبل الوصول إليها، أي بعد رسم طريق إلى بديل تستطيع الثورة سلوكه. أما أن نتخبط في كل كبيرة وصغيرة، ونعمل لإدامة انقسامنا ونغذيه بمختلف الحجج والذرائع، ثم نقعد لـ«طق الحنك» حول دولة ديمقراطية مدنية وهمية أو متخيلة، جميلة ومغرية في كلامنا، يذهب سلوكنا إلى عكسها حتى في أبسط أشكال العلاقات بيننا، فهذا معناه أننا نصر على البقاء أسرى حاضر مرفوض ومستقبل غامض، نزعم بمناسبة وبلا مناسبة أننا لا نرتضيهما لشعبنا، مع أننا نقبلهما عمليا من خلال أفعالنا وتصرفاتنا!
الشرق الأوسط