ملامح من ثورتنا الضاحكة/ ملاذ الزعبي
“أكلت حجر على راسي.. بس معليش كله فدا الوطن”، يقول شاب درعاوي ضاحكاً بخفّة، خلال احتجاجات الأيام الأولى للثورة السورية. ربّما كانت هذه الجملة التي قالها شاب مجهول الهوية، لا يظهر أمام الكاميرا، هي أول التعبيرات الساخرة الموثقة في الثورة. الثورة التي ترافقت فيها الابتسامة مع الدماء منذ لحظاتها الأولى.
كان رصاص الأجهزة الأمنية ينهمر على المتظاهرين، في الطريق الفاصل بين منطقتي درعا البلد ودرعا المحطة، انسلّت مجموعة من المراهقين الثائرين خلف خطوط عناصر الأمن، مستغلين انشغالهم ليركبوا سيارة إطفاء مركونة جانباً، كانت حاضرة للإسهام بقمع الاحتجاجات، ويقودوها بعيداً وسط القهقهات الممزوجة بالخوف.
عرفت السخرية طريقها إلى مختلف تعبيرات الاحتجاجات الصوتية والبصرية، في سنوات الثورة السورية الأربع، بدءاً بالهتافات واللافتات، مروراً بالغرافيتي والرسوم الكاريكاتيرية، وصولاً للأغاني والمقالات والمطبوعات، وليس انتهاء بالصفحات والمجموعات الافتراضية على وسائل التواصل الاجتماعي، أو حتى في أشرطة فيديو وأعمال وثائقية وسينمائية، قدمها فنانون مكرسون.
في البدء كانت الحنجرة
هتف السوريون “يلعن روحك يا حافظ”، بعد أشهر على اندلاع المظاهرات، وبعد نحو أحد عشر عاماً على وفاة رئيسهم السابق حافظ الأسد، كان الهتاف يجمع السخرية المرة والتحدي والنقمة على الماضي معاً. ثم أخذ متظاهرو بلدة كفرنبل إلى مرحلة أبعد، في إضفاء لحن عليه من الموسيقى الكلاسيكية.
الانتقال المؤلم للاحتجاجات من الطابع السلمي إلى العسكرة، ترافق هو الآخر مع هتاف ساخر: “بلا سلمية بلا بطيخ بدنا طاخ وبدنا طيخ”، وإن لم تصدح به الحناجر، على عكس سابقه، إلاّ على نطاق محدود. رويداً رويداً، طغت الهتافات ذات المضمون الإسلامي على ما تبقى من مظاهرات. لكن قبل تحول الثورة إلى الكفاح المسلح، لطالما سخر المحتجون من الاتهامات التي روّجها النظام وأجهزة إعلامه، أنّ المتظاهرين ما هم إلاّ عصابات سلفية مسلحة، يبقى عالقاً في الذاكرة مقطع يوتيوب الذي صوّره شبان في حمص، وهم يستخدمون حبات من الباذنجان محاكاة للقنابل اليدوية، وأنابيب المدافئ المنزلية كقاذفات آر بي جي، وحبات الباميا كرصاصات وهمية.
مدينة حماة التي عانت طويلاً من حكم البعث الأسدي الدموي، أطلقت أغنية “جنوا جنوا البعثية لما طلبنا الحرية”. كان المحتجون يرقصون وهم يغنون: “نحنا مطالبنا حق ان قلت إي وان قلت لأ، زتّ وراقك خلص الدق ويلاّ لموا البرتية..”. لا يمكن طبعاً التحدث عن أغاني مدينة حماة، دون التوقف عند منشدها الأشهر إبراهيم القاشوش، الذي تضاربت الأنباء حول مصيره. قاد القاشوش المظاهرات الكبرى في حماة، وهو ينشد ترنيمة “يلا ارحل يا بشار”. اجتاح الجيش السوري حماة لاحقاً فتوقفت الأغنية وغابت الابتسامة.
وحاول فنانون سوريون أن يدلوا بدلوهم أيضاً، فقدمت فرقة “أبطال موسكو الأقوياء” أغنية “بدنا نعبي الزنزانات”، بعد نحو ثلاثة أشهر فقط على أولى المظاهرات. أما مؤسسة “بدايات”، فقدّمت أغنية “بالذبح جيناكم” ومن ثم شريط “بحب الموت”، وهما علامتان بارزتان في سخرية مزدوجة، تستهدف النظام من جهة والتنظيمات الإسلامية الجهادية من جهة أخرى.
هل أتاك حديث اللافتات؟
لعبت اللافتات الساخرة دوراً بارزاً في التعبير البصري عن الثورة، فحمل المتظاهرون شعارات وكراتين لماحة وذكية، من الصنمين في درعا جنوباً إلى عامودا وبنش شمالاً، مروراً بالزبداني وريف حماة. فيما تصدرت هذا المشهد بلدة كفرنبل في ريف إدلب، البلدة التي كانت، وما زالت رائدة السخرية الثائرة في سورية، بلافتاتها وكاريكاتيراتها، منذ ما قبل المطالبة بلافتة كتب عليها، “بزيادة عدد الدبابات في كفرنبل للتخفيف عن حمص المنكوبة” عام 2011.
حتى الكاريكاتير الذي يظهر مقاتلين غارقين في الصقيع، للسخرية من خطة المبعوث الأممي دي ميستورا لتجميد القتال، في شباط عام 2015. من الإسهام البصري اللافت للبلدة الإدلبية في المنتج السوري الساخر، كان الشريط اللامع الذي ظهر، بعيد الصفقة الكيماوية الغربية مع النظام السوري بعنوان: “الثورة السورية في 3 دقائق”.
كان للجدران السورية أيضاً نصيبها.على جدار في دير الزور، كتب أحدهم عقب اجتياح جيش النظام: “هنا دير الزور وليست دير أبيب”، بينما حذر آخر على جدار حمصي من “قناص أحوَل”. كما خُطّ على جدار منخفض في بلدة سراقب، “حيطانّا قصار ومنعرف بعض”.
ضحك افتراضي
واكبت مواقع التواصل الاجتماعي الثورة السورية منذ يومها الأول، وكان للسخرية نصيب بارز أيضاً. كتب الآلاف منشورات ساخرة على صفحاتهم الشخصية، عبر فيسبوك، فيما بادر آخرون إلى إنشاء صفحات ومجموعات، مكرسة لتفكيك خطاب النظام الإعلامي والهزء منه. بعض هذه الصفحات غابت لاحقاً، فيما ما زال بعضها مستمراً، أبرزها، “مغسل ومشحم حمص الدولي للدبابات” و”الثورة الصينية ضد طاغية الصين” و”سيادتو”، وغيرها.
وخلال مهزلة الانتخابات الرئاسية التي أدارها نظام الأسد، العام الفائت، نظم ناشطون وإعلاميون سوريون حملة عبر يوتيوب بعنوان: “سورية تنتحب”، نشروا خلالها تسعة فيديوهات، حاكت الإعلانات الترويجية للانتخابات التي قدّمها فنانون مؤيدون للنظام.
السخرية مستمرة
في الذكرى الرابعة للثورة السورية، لم يعد وقع الضحكة السورية طاغياً، فالثورة الواقعة بين فكي الجهاديين والنظام، فقدت كثيراً من ألقها، فيما غادر آلاف الناشطين، ويقبع عشرات الآلاف في السجون، بينما تراجعت المظاهرات وأساليب الاحتجاج المدنية الأخرى. وعلى الرغم من هذا، ثمة من يحاول الصمود ورسم الابتسامات، بلدة “كفرنبل” مثل يحتذى، ويبقى العالم الافتراضي زاخراً بالمحاولات.
العربي الجديد