ملف إيران مع العالم العربي أكبر من ملفها النووي/ عزت صافي *
في إطلالتها الجديدة على العالم من خلال واجهة النادي النووي الدولي، تبدو الجمهورية الإيرانية، برئاسة حسن روحاني، كخارج إلى النور بعد إقامة طويلة في العتمة. فهي تحاول في أيام قليلة إنجاز ما تأخرت عنه، وما فاتها، على مدى ثلث قرن بالتمام.
إنها تتطلّع إلى كل الجهات، وتلقي التحية على كل من تلتقي وتصافح كل من ترى وتصادف. بل هي تحاول أن تتصل على أرقام كل العواصم في وقت واحد. إنه وقت فتح الخطوط والتلاقي، واكتشاف الآخر، القريب والبعيد.
من حظّ الرئيس روحاني أنه جاء بعد أحمدي نجاد. صحيح أنه فاز بأكثرية الأصوات الناخبة، لكن الصحيح، أو الأصح، أنه حظي أولاً بصوت المرشد الأعلى السيد علي خامنئي، وكل ما عدا ذلك تفاصيل.
ثلث قرن مضى، والجمهورية المكابرة تعرف الطريق إلى الفضاء المضاء بمصابيح الحرية والعدل، والتسامح والاستقرار، لكنها كانت تفضل سلوك الدروب الشائكة المحفوفة بالأخطار على أهلها وعلى من حولها.
مستعجلة، وقليلة الصبر، وكثيرة الكلام، بأكثر من لغة، وبأكثر من معنى، وبأكثر من تفسير، وإيضاح. لكنها تحتاج إلى وقت أطول من الجلوس في ضوء الشمس، وفي ضوء الواقع والحقيقة، وهي تحتاج أيضاً إلى تمارين على التواضع والابتعاد عن المكابرة.
ولعلّ الجمهورية الإيرانية، في عهدها «الروحاني» تتفوق على ذاتها المستكبرة فتجعلها سابقة، لتعلن ما تضمر، ولا تضمر إلا الخير.
الآن، مجدداً، تعود إيران إلى التفاوض النووي مع الدول الخمس الكبرى زائد ألمانيا، بعدما سجلت في الجولات السابقة نجاحاً أهّلها لسلوك الطريق نحو المجتمع الدولي الذي لم تكن تثق به أبداً.
إيران، الآن، تبدو وقد عكست منطقها القديم. إنها تعمل لكسب ثقة المجتمع الدولي، هذا لا يعني أن مجتمع الدول الخمس صادق، وعادل، وشجاع. كما لا يعني أن الدول الأخرى، الأصغر، أو الأكبر، تمثل مجتمعاً فاضلاً. فدولة إيران ليست، بعد، فاضلة أو عادلة. وكما أن لها ملفاً خاصاً لدى المجتمع الدولي، فإن للعالم العربي أيضاً ملفه الخاص. إنه ملف الدور الإيراني في الشرق الأوسط عموماً، وفي المنطقة العربية بخاصة، من سورية إلى لبنان، إلى العراق، إلى فلسطين، حتى إلى مصر، وشمال أفريقيا، فضلاً عن الشبكات المتعاملة مع إيران عبر دول أوروبا والولايات المتحدة وأميركا اللاتينية.
يبدو مستحيلاً الفصل بين هذه الملفات بعد انفلاش الدور الإيراني إلى حد بات يهدّد بانفجار المنطقة وجعلها محرقة إقليمية تنذر بكارثة تطبع مستهل القرن الواحد والعشرين.
فهل في نية إيران الذهاب إلى مصير أسود من ضمن مصير المنطقة بكاملها؟
الأرجح أن القيادة الإيرانية لا تريد إلا السلامة، لكنها ترفع سعر قرارها عالياً، وليس في يدها من أوراق المساومة ما هو أغلى من ورقة لبنان بعد ربطها بورقة سورية حيث صار لإيران جيش متعدد الهويات والمهمات.
وما دامت تقدم التنازلات الباهظة في ملفها النووي، وهي مستعدة لتقديم المزيد من التنازلات، من أجل سحب ودائعها المالية الضخمة من أميركا ودول أوروبا، فمتى تسحب «ودائعها» العسكرية من سورية ولبنان وجزر الإمارات؟
عندما انتصرت الثورة الإيرانية على نظام الشاه عام 1979 كتب محمد حسنين هيكل مقالاً تضمن فقرة ذهبت إلى مجموعة الأقوال المأثورة في سجل الأحداث التاريخية. قال هيكل «إن رصاصة انطلقت من القرن الرابع فاستقرت في صدر القرن العشرين».
ومضت أربع وثلاثون سنة كانت الثورة الإيرانية خلالها تطلق الرصاصة تلو الرصاصة على مستقبل الشعب الإيراني وعلى الأمل الذي مثّلته الثورة للجيل الذي كان يتطلع إلى الحرية والديموقراطية، ولا يزال.
وكما أي دولة من دول العالم الفاشلة، بالمعنى الديموقراطي، عمدت الدولة التي اتخذت اسم «الجمهورية الإسلامية الإيرانية» إلى تأسيس ثلاثة جيوش: جيش الدولة، وجيش الحرس الثوري الجمهوري، والجيش الإعلامي. والجيوش الثلاثة تخضع لقيادة واحدة هي القيادة المتمثلة بالمرشد الأعلى للجمهورية.
هذه تفاصيل معروفة منذ أن استطاعت الثورة إحكام قبضتها الحديد على السلطة بأبعادها الثلاثة: الاشتراع، والقرار، والقوة. وهناك البعد الرابع الذي يبقى مطلقاً، وهو الأمر الذي يعود إلى الولي الفقيه الذي يعلو فوق كل اعتبار.
لكن هناك علامة استفهام كبرى لم تظهر حول الثورة الإيرانية في حينها: كيف كان لرجل الدين المعمّم بالأسود، الثائر على إمبراطورية دهرية حليفة للغرب «الإمبريالي» أن يخترق القارة الأوروبية ليستقر فيها، ومنها يقود ثورته حتى النصر؟
أكثر من دولة في العالم كانت مستعدة لاستقبال الإمام الخميني الذي كان مقيماً في العراق بصفة لاجئ، لكنه عندما اضطر لمغادرة جارته في الجغرافيا، والدين، إلى مكان آخر آمن في الخارج، اختار فرنسا التي رحبت به وهيأت له ضاحية في القرب من باريس تدعى «نوفل لوشاتو».
وفي ذلك المقر المحصّن بالأمن والمراقبة، وبالحماية المرنة، امتلك الخميني مساحة واسعة من الحرية.
وكما لو أنه رئيس في عاصمة بلاده راح الإمام ذو الرأس الكبير، والوجه المرسوم بالمهابة والوقار، يستقبل شخصيات سياسية، رسمية وغير رسمية، فضلاً عن زائرين كبار من مختلف دول العالم.
وإلى ذلك العنوان كان يفد صحافيون ذوو شهرة تواكبهم كاميرات التلفزيون لتعميم تصريحات ونداءات اللاجئ السياسي الكبير، كما لو أنه يمثل رمزاً عصرياً للثورة الفرنسية التي خلعت الملكية، ثم الإمبراطورية، تمهيداً لنقل فرنسا، وسائر دول أوروبا، إلى عصر الحرية والديموقراطية والمساواة.
علامة استفهام كبرى، أيضاً، تعود لترتسم حول الثورة الإيرانية بعد أربع وثلاثين سنة على انتصارها، ليس من باب الشك في قدرة الشعب الإيراني الغني بتاريخه، والمفاخر بحضارته وبقيمه الثقافية والدينية، بل من باب التأمل في الأحداث والتطورات التي تتابعت وفق خطّة واضحة المعالم الأميركية.
فحين هرب الأمبراطور الإيراني المهزوم شارداً وتائهاً على حدود الدول، باحثاً عن ملاذ آمن له، كان العالم يتساءل: لماذا تخلّت الولايات المتحدة الأميركية عن رجلها القوي في الشرق الأوسط، وهو كان الحليف الأكبر الداعم لإسرائيل، وقد ترك خلفه على أرصفة الموانئ والمطارات الإيرانية أطناناً لا تُحصى من أحدث أنواع الأسلحة الأميركية الثقيلة والخفيفة، فضلاً عن معدات الأنظمة التكنولوجية وكلّها آلت مباشرة إلى دولة الثورة.
سؤال طرح منذ ثلث قرن، وجوابه لم يتبدل بل يزداد وضوحاً ورسوخاً:
أميركا ليس لها صاحب… إلا إسرائيل.
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة