صفحات الثقافة

ملف السفير الثقافي عن مظفر النواب

 

 

 

 

شاعر الوتريات/ عباس بيضون

كان الشاعر ذو الوجه المستدير يقف على المنبر، وضعوا أمامه كأساً قيل إنها خمر وبدأ يلقي، بصوت من سحيق النفس «مطر»، الكلمة نفسها بدأت تصعد شيئاً فشيئاً حتى صارت هادرة. خلنا ان المطر سيهطل، لكن الأكيد ان شيئاً كالمطر خيّم على الصالة، ذلك كان مظفر النواب، كان من تلك الأصوات التي خرجت بالتدريج من مناحة حزيران 1968. الشاعر الذي خرج من نقره السلمان بعدما عثر عليه جنود الشاه وأعادوه إلى العراق. الشاعر الذي بدأ بالمحكية العراقية وابتكر فيها وعدّ أحد أصواتها الأعلى والأكثر موهبة. الرجل الذي كان يرسم ويغني، ها هو يقف على المنبر يرسل شواظيه ولعناته وينوح، ينوح من قلب مجروح. ها هي الشخصية العراقية والمزاج العراقي والسخط العراقي والمرثية العراقية في شخص واحد. لا بد أن هذا الحزن المتراكم من العذابات والسجون ومن مذلة حزيران. هذا الحزن الذي يخرج من تاريخ أجيال ومن تراث أجيال ويجر وراءه لعنة أجيال. لا بد أن يجد مجراه في كلام هذا السجين الهارب، والموشوم بتعذيب وحديد السجانين.

مظفر النواب حضرتُه هذه المرة في نادي التضامن في صور، لكني سمعتُه في الكاسيت مراراً، وقرأته في «وتريات ليلية» التي استغربت عنوانها أولاً ثم وجدته مطابقاً للشعر، فهذا الشعر يحتار بين أن يكون غناء وأن يكون كتابة، وهذا الشعر فيض من خزين داخلي يكاد يشمل كل شيء، وهذا الشعر كتب ليلقى ويسمع، وهذا الشعر الذي تحول على أشرطة التسجيل إلى فن شعبي، وهذا الشعر الذي كان يجوّد ويقسّم ويكاد يغنّى هو فعلا وتريات. صلته بالموسيقى ليست عابرة وليست شكلية، إنه كأداء مظفر النواب موسيقى تعلو وتنخفض، تهدر وتهمس، تموج وتنقطع. فهنا الشعر صُنع ليلقى وصُنع على مقاس الإلقاء وعلى عياره، والإلقاء معه عبارة عن موسيقى صوتية، موسيقى بالفم ومن الفم.

لذلك كان مظفر النواب محيراً كشاعر، فالذين يتجاهلون هذه الوظيفة الصوتية لشعره، كانوا يخوضون بصعوبة فيه، كان الشعر الذي نظم بمدى سيمفوني والذي يبدو أحياناً منفرداً، وأحياناً أخرى حاشداً، وفي أحيان هائجاً وفي أحيان ملتاعاً، وفي أحيان متشابكاً وفي أحيان متفرعاً. كتب هذا الشعر على قدر الإلقاء، وكتب ليلقى كمن يغنى، وهو لذلك لا ينفصل عن أدائه، بل يبدو أن مكانه هو الكاسيت لا الكتاب. والأرجح أن أكثر الذين عرفوه، لم يقرأوه في كتاب بقدر ما سمعوه من كاسيت، والآن لا يكاد الواحد يتذكر سطراً لمظفر النواب إلا ويتذكره مقترناً بالصوت الذي يؤديه. لذا يحيّر شعر مظفر النواب أولئك الذين يريدون أن يروا مكانه في تاريخ الشعر العراقي، فهذا الشعر الذي يكاد يغنى ويلحن، متصل تماماً بلحنه وأدائه، انه لذلك نوع قائم بذاته، فهذا الشعر الذي يُسمع أكثر مما يُقرأ، هو لون من شعر شعبي ولو كتب بالفصحى.

لقد بدأ مظفر بالمحكية العراقية وأنشأ فيها أثراً فريداً. لكنه لم يبتعد كلياً عنها في شعره الفصيح، فهو في فصيحه يحافظ كثيراً على شفاهية القول، ويحافظ كثيراً على أدائه الصوتي. بل يتراءى لقارئه أحياناً أن الكلام الذي يقرأه لا يستوي إلا بطريقة قراءته، أو انه صيغ على مقاس قراءة خاصة، فالشاعر وهو ينظم انما لا يتبع فقط العروض بل يتبع عروضاً شفاهية قد يكون مكانها الأساس في الشعر الشعبي. لا بد أن نتذكر أن كثيراً من شعر مظفر لا يستوي إلا ضمن البناء السيمفوني للقصيدة، فشيء كشتائمه مثلا أولاد القحبة هل تسكت مغتصبة

لا يؤخذ إلا بوصفه لحظة من التصاعد النغمي والعاطفي للنص. لكن هذا الجنوح ظلم مظفر النواب كثيراً، فبينما كان يمكن لأداء مظفر السيمفوني أن يترك في الشعر طبعة فعلية، توقف كثيرون عند شتائمه وبدا هذا الشعر بالنسبة لهم فظاً مبالغاً في شعبويته، والأرجح أن مظفر في أشعاره بعد «وتريات ليلية» مجموعته الأساس استسهل هذا الأداء المباشر فتحولت أشعاره أو بعضها إلى خطب منظومة، وبدا أن وظيفتها التعبوية تغلب على فنيتها، هذا يظلم مظفر، فالذي يعود إلى مطوّلته «وتريات ليلية» يجد أن التعبوية تندرج في هذا البناء السيمفوني، وانها لذلك تأتي في لحظتها، أو ان النشيد المتصاعد يصل إليها فلا تبدو لذلك نافرة ولا غريبة. بل إن في مطوّلة وتريات ليلية ما يبدو مفارقاً تماماً للتعبوية والتحريض المباشر، ففيها مقاطع مخملية يتموج فيها الحس والرغبة والشهوة والفضاء الجنسي. هذا ما يبدو جديداً تماماً في الشعر العربي. تبدأ مظفر النواب وتريات ليلية، من ليل الرغبة والتحسس والحسّ الجنسي ودبيب الشهوة في العروق والمخيلة الجنسية.

وصبايا فارس يغسلن النهد بماء الصبح

فيرتجف النهد كرأس القط من الغسل

ويستطرد ليتكلم عن نهد يحكم ككسرى في الليل، ليست هذه المقاطع قليلة في النص وليست هذه القدرة على الدمج بين ليل التحسس والرغبة المادية والخيال الموضعي نادرة في القصيدة، ففيها مقاطع نشعر بها جسديا ونحس أنها تجري في مسامنا وأعصابنا، والأرجح ان الشعراء لم يغفلوا عن هذه الناحية، إذ اننا نلاحظ أثر وتريات ليلية في جزء من النتاج الشعري الذي تواقت مع القصيدة، بل اننا نجد أصداءها وبناءها اللولبي ومعادلاتها الموضوعية إذا شئنا ان نستعيد المصطلح الإليوتي، نجد ذلك في بعض الشعر الذي نتج وقتها، إلا ان شاعر «وتريات ليلية» لم يتابع مسيرتها، وتوقف عند ما هو استفزازي وتعبوي فيها. لقد أكثر بعدها من شتائمه ومن سخطه واستفزازه فبقيت وتريات ليلية أشبه بجسر مقطوع، بقيت لذلك وحدها، وتستحق بجدارة ان نعيد قراءتها.

لم يعد يذكرني غير الطريق/ مظفر النواب

ثلاث أمنيات

على بوابة السنة الجديدة

مرة أخرى على شباكنا تبكي

ولا شيء سوى الريح

وحبات من الثلج.. على القلب

وحزن مثل أسواق العراق

مرة أخرى أمد القلب

بالقرب من النهر زقاق

مرة أخرى أحني نصف أقدام الكوابيس.. بقلبي

وأضيء الشمع وحدي

وأوافيهم على بعد

وما عدنا رفاق

لم يعد يذكرني منذ اختلفنا أحد غير الطريق

صار يكفي

فرح الأجراس يأتي من بعيد.. وصهيل الفتيات الشقر

يستنهض عزم الزمن المتعب

والريح من القمة تغتاب شموعي

رقعة الشباك كم تشبه جوعي

و(أثينا) كلها في الشارع الشتوي

ترسي شعرها للنعش الفضي.. والأشرطة الزرقاء..

واللذة

هل أخرج للشارع؟

من يعرفني؟

من تشتريني بقليل من زوايا عينها؟

تعرف تنويني.. وشدّاتي.. وضمّي.. وجموعي..

أي إلهي ان لي أمنية

ان يسقط القمع بداء القلب

والمنفى يعودون الى أوطانهم ثم رجوعي

لم يعد يذكرني منذ اختلفنا غير قلبي.. والطريق

صار يكفي

كل شيء طعمه.. طعم الفراق

حينما لم يبق وجه الحزب وجه الناس

قد تم الطلاق

حينما ترتفع القامات لحناً أممياً

ثم لا يأتي العراق

كان قلبي يضطرب.. كنت أبكي

كنت أستفهم عن لون عريف الحفل

عمن وجّه الدعوة

عمن وضع اللحن

ومن قاد

ومن أنشد

أستفهم حتى عن مذاق الحاضرين

يا إلهي ان لي أمنية ثالثة

ان يرجع اللحن عراقياً

وان كان حزينْ

ولقد شط المذاق

لم يعد يذكرني منذ اختلفنا أحد في الحفل

غير الإحتراق

كان حفلاً أممياً إنما قد دعي النفط

ولم يُدع العراق

يا إلهي رغبة أخرى إذا وافقت

ان تغفر لي بعدي أمي

والشجيرات التي لم أسقها منذ سنين

وثيابي فلقد غيرتها أمس.. بثوب دون أزرار حزين

صارت الأزرار تخفي.. ولذا حذرت منها العاشقين

لا يقاس الحزن بالأزرار.. بل بالكشف

في حساب الخائفين

في الحانة القديمة

المشربُ ليس بعيداً

ما جدوى ذلكَ، فأنتَ كما الاسفنجةُ

تمتصّ الحاناتِ ولا تسكر

يحزنُكَ المتبقي من عمرِ الليلِ بكاساتِ الثَملينَ

لِماذا تَركوها؟ هل كانوا عشاقاً!

هل كانوا لوطيين بمحضِ إرادَتِهمْ كلقاءاتِ القمة؟

هل كانت بغي ليس لها أحد في هذي الدنيا الرثة؟

وَهَمستَ بدفء برئتيها الباردتين…

أيقتلكِ البردُ؟

انا …. يقتلني نِصفُ الدفء.. وَنِصفُ المَوقِفِ اكثر

سيدتي نحن بغايا مثلكِ….

يزني القهر بنا.. والدينُ الكاذِبُ.. والفكرُ الكاذبُ ..

والخبزُ الكاذبُ ..

والأشعارْ ولونُ الدَمِ يُزَوَّرُ حتى في التَأبينِ رَمادِياً

ويوافقُ كلُّ الشَّــعبِ أو الشَّعبُ وَلَيسَ الحَاكِمُ اعْوَر

سيدتي كيفَ يَكونُ الانسانُ شريفاً

وجهازُ الأمنِ يَمُدُ يَديهِ بِكُلِّ مَكانٍ

والقادم أخطر

نوضعُ في العصارَةِ كي يَخْرُجَ منا النفطْ

نخبك …. نخبك سيدتي

لمْ يَتَلَوَّثْ مِنْكِ سِوى اللَّحْمِ الفَاني

فالبعضُ يَبيعُ اليَابِسَ والأخضر

ويدافِعُ عَنْ كُلِّ قَضايا الكَوْنِ

وَيَهْرَبُ مِنْ وَجهِ قَضِيَّتِهِ

سَأبولُ عَليهِ وأسكرْ …. ثُمَّ أبولُ عَليهِ وَأَسكر

ثُمَّ تَبولينَ عليهِ ونسكرْ

المشربُ غَصَّ بجيلٍ لا تَعرِفُهُ.. بَلَدٍ لا تَعرِفُهُ

لغةٍ.. ثرثرةٍ.. وأمورٍ لا تَعرِفُها

إلا الخَمْرَةُ؛ بَعدَ الكأسِ الأول تَهْتَمُ بِأَمْرِكَ

تُدّفِئُ ساقيكَ البارِدَتينْ

ولا تَعْرِفُ أينَ تَعَرَّفتَ عليها أيُّ زَمانْ

يَهْذي رأسُكَ بينَ يَديكَ

شيءٍ يوجعُ مثلَ طنينِ الصَمّتْ

يشارِكُكَ الصمتُ كذلِكَ بالهذيان…

وَتُحَدِّقُ في كُلِّ قَناني العُمرِ لَقَدْ فَرَغَتْ؟!

والنادِلُ أَطْفَأَ ضَوْءَ الحَانَةِ عِدَّةَ مَراتٍ لِتُغادِرَ

كَمْ أَنْتَ تُحِبُ الخَمْرَةَ…. وَاللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ…… وَالدُنيا

لِتُوَازِنَ بَينَ العِشْقِ وَبَينَ الرُمانْ

هاذي الكأسُ وَأترُكُ حانَتِكَ المَسحورَةَ ..يا نادِلُ

لا تَغضَبْ… فالعاشِقُ نَشوَانْ

إمْلأها حَتى تَتَفايَضَ فَوْقَ الخَشَبِ البُّنِّيِ

فَما أدراكَ لمِاذا هَذي اللوحةُ .. للخَمْرِ…

وَتِلّكَ لِصُنْعِ النَعْشِ.. وأُخْرى للإعلانْ…..

أملأها عَلَنا يَا مولايَ

فَما أخرُجُ مِنْ حانَتِكَ الكُبرى إلا مُنتشئاً سَكْرَانْ

أصغَرُ شيءٍ يُسْكُرُني في الخَلْقِ فَكَيفَ الإنسانْ؟

سُبحانَكَ كُلُّ الأشّيَاءُ رَضيتُ سِوى الذُّلْ

وَأنْ يُوضَعَ قَلبِيَ في قَفَصٍ في بَيْتِ السُلطان

وَقَنِعْتُ يَكونُ نَصيبي في الدُنيا.. كَنَصيبِ الطيرْ

ولكنْ سُبحانَكَ حتى الطيرُ لها أوطانْ

وتَعوْدُ إليها….وأنا ما زِلتُ أَطير…

فهذا الوطَنُ المُمّتَدُ مِنَ البَحْرِ إلى البَحْر

سُجُوْنٌ مُتَلاصِقَة..

سَجانٌ يُمْسِكُ سَجان…

ما يبطل من عروض الساحر وما لا يبطل من الشعر/ شوقي بزيع

لم يكن اسم مظفر النواب ليتردد كثيراً على مسامعنا، نحن الجالسين على مقاعد الدراسة والمأخوذين بالحداثة الشعرية في مطالع السبعينيات من القرن الماضي. لا بل إنني على المستوى الشخصي لم أكن أعرف عنه أي شيء حين قدم الصديق الشاعر أحمد دحبور من مدينة حمص التي كان يقطنها آنذاك وروى لنا خبر الأمسية الحاشدة وغير المتكافئة التي جمعته بشاعر عراقي ساحر الحضور والصوت يُدعى مظفر النواب. فقد تمكن هذا الأخير من التلاعب بأعصاب الجموع الغفيرة من الحاضرين، وفق رواية دحبور، ودفعهم إلى حبس الأنفاس تارة، وإطلاق آهات النشوة تارة ثانية، والتصفيق الحار تارة ثالثة، مستخدماً لذلك ما يتجاوز النص الشعري الصرف وحده ويتوزع بين الغناء والتلاوة والمسرحة وليونة الجسد وغير ذلك. وأضاف صاحب «حكاية الولد الفلسطيني» بنبرة تتراوح بين المرارة والإعجاب بأنه حين قرأ إحدى قصائده المؤثرة التي يستلهم فيها واقعة التحكيم في حرب صفين بقوله: «يا فقراء العرب/ إنني خالع صاحبي فاخلعوهم معاً»، لم يكن ليتصور أبداً أن يفيد مظفر من هذا الطرح ليقلب المعادلة رأساً على عقب ويلهب الجمهور المحتشد عبر رده الصاعق في بداية «وصلته» الشعرية: «أما أنا فلا أخلع صاحبي»، متماهياً ولو بتغيير في الأدوار مع القولة الشهيرة لعمرو بن العاص.

كنت أظن يومها أن في ما رواه أحمد دحبور عن مظفر النواب الكثير من المبالغة التي عوّدنا عليها الشاعر المفرط في رقّته وحساسيته، والذي يمتلك من جهته كل أسباب النجاح على منبر الشعر، سواء لجهة موهبته العالية أو لجهة التحكم في نبرات صوته وحركات جسده ويديه. ولكنني حين استمعت إلى مظفر في الأمسية الحاشدة التي أقيمت في صور، بعد ذلك بأقل من عام واحد، أدركت تمام الإدراك أن الصديق دحبور لم يكن في ما قاله ليتجاوز الحقيقة في شيء، لا بل إن ما عاينته وسمعته يفوق بكثير ما رواه الشاعر الذي رأى فيه محمود درويش في إحدى مقالاته «مستقبل الشعر الفلسطيني». بدا مظفر يومها قادماً من تجربة ونص لا يشبهان بأي حال ما ذهبت إليه الحداثة العربية من تعريفات ومعاينات ومحددات لمعنى التجديد في الشعر، سواء تلك التي تمثلت في تجربة مجلة «الآداب» المحافظة نسبياً، أو تلك التي ذهبت بها مجلة «شعر» إلى أقاصي المجازفة والتجاوز.

كان الجمهور يومها خليطاً غير متجانس من المثقفين وأنصاف المثقفين واليساريين الجدد والمحافظين وأساتذة المدارس والتلامذة والشعراء والمهنيين والمزارعين والفتيان وكبار السن، وصولاً إلى الأميين بالكامل. لكن الغريب في الأمر أن الجميع بدوا في حالة انخطاف تام، يصمتون أو يتأوّهون أو ينتشون أو يصفقون بالطريقة ذاتها وفي الوقت عينه، حيث أمكن لذلك المايسترو الواقف قبالتهم أن يتحول وحيداً ومستعيناً بأدائه الساحر إلى جوقة كاملة من المنشدين. كان بين الحضور آنذاك من يتعصب، كأعتى ما يكون التعصب، لقصيدة الخليل بن أحمد، أو من يرون في أي خروج على القصيدة التقليدية خروجاً على الهوية القومية وتآمراً على لغة القرآن. لكن هؤلاء لم يأبهوا لكون الشاعر الذي أسكرهم قد كسر العمود الشعري لمصلحة قصيدة التفعيلة، وتصالحوا مع النصوص التي يسمعونها بمعزل عن الأشكال التي يتوسّلها صاحب «الريل وحمد». كل واحد من الحضور أمكن له أن يتفاعل مع ما يريده ويأنس له في قصائد مظفر وفي حضوره المنبري الاستثنائي. فمنهم من افتتن بصوته الجهوري المفعم بالشجن والطبقات المتفاوتة علواً وخفوتاً. ومنهم من افتتن بنزوعه الكربلائي ذي النبرة العراقية التي تلامس حدود التفجع. ومنهم من افتتن بإيقاعاته المدروسة والمحمولة على التكرار والهندسة الحاذقة والتناظر المتقن. ومنهم من افتتن بهجائياته السياسية المقذعة ضد الحكام والقادة العرب، ما يسمح لهؤلاء بالضحك على زعمائهم المستبدين، وتفريغ ما يفيض عن الحاجة من سخط ونقمة مزمنين. ومنهم، وبخاصة النخب المثقفة، من كان ينتظر الصور والاستعارات الموزعة بين الشهوانية العارمة والإشراقات الروحية المتاخمة للتصوف، لكي يطلق العنان لصيحات الابتهاج أو التصفيق الحاد، أو دعوة الشاعر إلى الإعادة.

البعد الإيروتيكي

قد تختزل قصيدة مظفر الطويلة «وتريات ليلية» معظم المفارقات التي تحكم تجربته الشعرية المتراوحة بين سطوح المعاني وأعماقها، حيث يتم الدمج بين البعد الشبقي للصور والمشاهد، وما تضمره اللغة من دلالات باطنية ومفتوحة على التأويل. فمن منا لم يردد مع الشاعر ويحفظ عنه مطلع قصيدته الجميل: «في تلك الساعة من شهوات الليل/ وعصافير الشوك الذهبية تستجلي أمجاد ملوك العرب القدماء/ وشجيرات البرّ تفوح بدفء مراهقة بدوية/ يكتظ حليب اللوز ويقطر من نهديها في الليل/ وأنا تحت النهدين إناء». ومن منا لم يشغفه البعد الايروتيكي الجارح في حسيته، في قوله عن النساء الفارسيات اللواتي خلبن لبّه بأنوثتهن الطاغية أثناء هربه من معتقله العراقي باتجاه الأهواز، قبل نصف قرن «ورأيت صبايا فارس يغسلن النهد بماء الصبح/ لينتفض النهد كرأس القط من الغسل/ أموت بنهدٍ يحكم أكثر من كسرى في الليل…». هذا النزوع الملحّ لتأنيث العالم يتبدى في الكثير من نصوص مظفر بحيث إن مشهد القدس المغتصبة على مرأى من القادة المحجمين عن إنقاذها لا يُقرأ في إطاره السياسي فحسب، بل يحيل إلى المشهدية الأصلية المتعلقة بتفاصيل واقعة الاغتصاب الجنسي وتردداتها الشهوانية في اللاوعي العربي الجمعي.

السياسة المباشرة

سيكون من الصعوبة بمكان الدفاع عن النصوص السياسية المباشرة في شعر مظفر النواب. لا لأن الشعر كفن قائم على الإيحاء والتكثيف لا يحتمل الدخول في السياسة، التي لا تضير الإبداع في شيء بل هي أحد أهم روافده ومحرّضاته، بل لأن الشعر هنا يصبح مسطّحاً ومكشوفاً وبلا ظهير تأويلي. صحيح أن الكثيرين يأنسون لشتائم الشاعر المقذعة بحق القادة والزعماء المنصرفين إلى تكديس الثروات وسحق الشعوب المقهورة، ولكن الصحيح أيضاً أن مثل هذه الشتائم ليست سوى إعادة تظهير معاصرة لفن الهجاء العربي، الذي يصعب أخذه إلا على محمل الدعابة والترويح عن عناء النفس المثقلة بهمومها. ولعل المشهد الكاريكاتوري لصورة المناضل الثوري «المتخم بالصدف البحري ببيروت» والذي «تكرّش حتى عاد بلا رقبة» لا يختلف كثيراً عن اللوحات الساخرة لهجائيات المثلث الأموي، جرير والفرزدق والأخطل، أو لهجائيات ابن الرومي المماثلة. وهو ما ينسحب بالقدر ذاته على قصيدة مظفر في هجاء القمم العربية العقيمة التي تقترب نقاشاتها من حوار الطرشان أو الثغاء الأجوف «قممْ قممْ/ معزى على غنمْ/ جولة الكبش على سموّ نعجةٍ/ على حمارٍ بالقدمْ/ وتبدأ الجلسةُ/ لا ولن ولمْ». وأعتقد ان نصوصاً كهذه، على طرافتها وذكاء صاحبها اللماح، لا تخرج عن إطار النظم العادي ولا غاية لها على الأرجح إلا التنفيس عن مشاعر الإحباط والمرارة المشتركين بين الشاعر وجمهوره.

لست لأجافي الحقيقة في شيء إذا قلت بأن مظفر النواب يتمتع بموهبة عالية وحساسية قلَّ نظيرها إزاء اللغة والإيقاع وجمالية الصور المحسوسة. ثمة طراوة في لغته المترعة بالضوء والانسياب المائي والتموّج الإيقاعي، الذي يساعده على تكرار وحدات البيت الصوتية كما يفعل المسلمون في حلقات الذكر. ولا غرابة في أن يصر الشاعر على احتساء الخمرة قبيل أمسياته الشعرية وأثناءها، ذلك لأنه يَدخل في حالة من النشوة المزدوجة في الثمل ويُدخل معه، بفعل العدوى وجمالية الإلقاء وحركات الجسد، سامعيه الكثر الذين لم يعتادوا على هذا النوع من المشهديات الشعرية الطقوسية، حيث يختلط البعد الديني الكربلائي بمتع أخرى تقع على الجانب الآخر من الروح. وأغلب الظن أن الشاعر في ما يكتب يضع في حسبانه الجمهور الجالس قبالته، ويرسم بخياله العناصر المختلفة التي تضمن لأمسياته المرتقبة طابعها الاحتفالي الشبيه بتراجيديات الإغريق القديمة. ومن هنا نستطيع أن نفسر إحجام الجمهور عن قراءة كتب الشاعر، فيما هو يقبل بالمئات على سماعه. كأن هذا الشعر يتغذى من لغة المشافهة والبوح العاطفي واللعب على الأصوات، بما يحوّلها إلى مسرح فريد لإيصال رسائل الحب والشهوة والألم والغربة والموت.

على أن أفضل ما لدى مظفر النواب، عدا قصائده المحكية التي تنفجر عذوبة وتسديداً إلى صفاء الينابيع، هي القصائد التي تتخفف من وظيفتها السياسية والأيديولوجية لتتصل بحقيقة الشاعر ورحلاته الداخلية العميقة، كما في «جسر المباهج القديمة» التي تتحوّل إلى سؤال مؤرق عن حقيقة الأماكن ومغزى الرحيل إليها «أوغلت كثيراً في البحرِ/ فأين البصرة؟/ صحيح أين البصرةُ؟/ البصرة بالنيّات/ لقد خلصتْ نيّاتي/ وتسلَّق في الليل عمى الألوان عليها/ أين البصرة؟/ بوصلتي تزعم عدة بصرات…». ثمة لدى مظفر شعور دائم بالغربة والمنفى، وحنين مواز إلى العراق. لكنه ليس العراق الذي على الخريطة، بل الوطن الذي يتأسس داخل جغرافيا الأحلام وفتنة اللغة، كما يعبّر الشاعر في قصيدته «عروس السفائن» حيث يتوق إلى قراءة روح العواصف ومآلها البعيد عن اعتلال جسده المهيض. ومظفر الذي لم تُعرف له مهنة سوى الشعر، كما هو حال «نسمة» طلال سلمان مع الحب، لن يلبث بعد صمود أسطوري أن يترنح تحت مطرقة الهزائم والخيبات العربية المتواصلة. وإذا صح أن المرء يختار أمراضه، كما يذهب بعض علماء النفس، فهل استدعى مظفر النواب مرض الألزهايمر بإرادة واعية لكي يساعده النسيان على التخفف من كوابيس الحاضر العربي المخيف؟ وهل أراد من تلقائه أن يتحول إلى شبح للشخص الذي كان يستطيع كعصا الساحر أن «يلتهم» القاعات الحاشدة ويستحوذ على ألباب شاغليها؟ وهل كان يستشعر بحدسه الاستشرافي الفريد ما سيؤول إليه في شيخوخته الأخيرة من عزلة خانقة حين قال: «أصابحُ الليل مصلوباً على أمل/ أن لا أموت غريباً ميتة الشبحِِ»؟.

الماركسية والعروبة والتصوف في وقت واحد/ ناصر كامل

مظفر النواب الذي زاوج بين الماركسية والقومية والتصوف ابن عائلة عريقة متشردة كان تاريخها تاريخه وهو المناضل الذي سلمه جنود الشاه إلى الدولة العراقية وخرج من السجن في هروب اسطوري.

محبو شعر مظفر النواب القدماء يصعب عليهم أحيانا كثيرة أن يتحرروا من أسر ملابسات وانطباعات اللقاءات الأولى بطقوسها شبه السرية عبر شرائط صوتية، أو إذاعات يتم التشويش عليها، أو أوراق منسوخة باليد، أو الاستماع لصديق حافظ لشعره يحاكي إلقاءه الممسرح ونغمات صوته ومخارج حروفه، ما جعل الالتباسات حاضرة بصورة ما منذ البداية: أمظفر فلسطيني أم سوري أم عراقي، هل هذا اسمه الحقيقي، أين يقيم؟ بمرور الأيام تتحسن الظروف، يُستبدل شريط الكاسيت بمقطع الـ «يوتيوب»، الأوراق المهترئة بدواوين، وإن يكن جلها رديء الطباعة، طبع غالبا دون إذن الشاعر، ويبين بعض تفاصيل ووقائع حياته، لكن جذوة الانطباعات الأولى تبقى لدى البعض رغما عن كل التغير في الذائقة والأفكار وكم المعلومات التي ترسم ملامح دروب مظفر الشعرية والحياتية، وقد يفاجئك أحد أصحابك بمقطع يفضله، مستعيدا لذة الترديد الأولى، وقد تشك في أن هناك خطأ ما، وقد تستفهمه، وتختلفان، وبلمسة واحدة يأتي يقين «جوجل» لقد نسي صاحبك بالفعل كلمة «منكم»، وعنوان القصيدة الصحيح هو «بحار البحارين»، وتروحان معا ترددان: «هل لاحظ أحد منكم أن الصمت تكاثر.. والجرذان… وسيارات الشرطة حبل في الطرقات»، وتندهشان من نشوة الغنائية الزاعقة، وسيلان الذكريات الى تطلقها محاولة تدقيق التواريخ والوقائع وتحرير مظفر من التباساتها.

المشهد الذي ترسمه بلقيس شرارة لمظفر في كتابها «هكذا مرت الأيام» – 2015 – ضمن ذكرياتها عن عامها الدراسي الأول (1951- 1952) في كلية الآداب جامعة بغداد يقدم لنا البذرة الأولى لصورته كشاعر حيث نجد بعضا من سماته المميزة: «كانت تقام في الكلية نشاطات ثقافية، من بينها اجتماع أسبوعي يعقد كل يوم إثنين في الساعة العاشرة صباحا. فيجتمع طلبة الكلية والأساتذة في القاعة الكبيرة المعدة لهذا الغرض. سارت الأمور على طبيعتها فى البداية، فلم يتدخل العميد في ما يتعلق بالاجتماع الأسبوعي، حتى ألقى الشاعر مظفر النواب قصيدته الشعبية فى فراش الكلية «مُروكي» فامتلأت القاعة بالطلبة، ولم تكفِ مقاعدها للحضور فاضطر جمهور الطلبة للوقوف على جانبيها. علا التصفيق بحماس لمظفر بعد أن انتهى من إلقاء القصيدة، وكان لها صدى واسع بين أوساط الطلبة، وأصبح الفراش «مُروكي» فجأة نجما من نجوم الكلية. واشتهر مظفر بشعره الشعبي في الكلية، وجرى تداول قصيدته في أوساط واسعة يحفظها ويرددها عدد من طلبة الكلية. على أثر ذلك قرر العميد عبد العزيز الدوري بشكل مفاجئ أن يلغي هذه الساعة، مما خلف في نفوس الطلبة إحساسا بعدم استعداد الإدارة لتقبل أي نوع من أنواع الانفتاح، بالرغم من ان العميد كان من متخرجي جامعة لندن وعاش في جو ليبرالي لبضعة أعوام في إنكلترا.

سيرة عائلية

لوحة شرارة تتضمن صورة أولى لمظفر: الشاعر الشعبي، الجماهيري، النجم، السياسي، المثير للاضطرابات، وتزيد: «كان مظفر النواب من الطلبة الناشطين في جمعية الانطباعيين التي أسسها الرسام حافظ الدروبي في كلية الآداب والعلوم، وبعض الطالبات كن يجلسن كموديل في فترات الفراغ من الدروس».

في الخلفية من صورة شرارة تظهر طبقات تتداخل في طبقات هي مزيج من صور قديمة، لا تخلو من مخيال جامح في رسم مسرد عائلي كثيف الدلالة، يقر مظفر بملمح رئيسي: بيتنا كان مسرحاً لمواقف كربلائية تمثل فيه قصص الحسين وترفع المشاعل والنساء يبكين من الطوابق العليا، كتل سوداء من الناس»، ثم ملمح يبدو ظاهريا وللوهلة الأولى متعارضا: فالأسرة الثرية الأرستقراطية «المتدينة» تتذوق الفنون والموسيقى وتحتفي بالأدب، الأم متعلمة في مدرسة للراهبات، وتجيد الفرنسية والعزف على البيانو، ثم في الطبقة الأعتق هناك جذر قار في المخيال وفي اللاوعي، فشاعرنا المولود في 1934 هو «مظفر بن عبدالمجيد النواب، والنواب تسمية مهنية، وقد تكون جاءت من النيابة، أي النائب عن الحاكم، إذ كانت عائلته في الماضي تحكم إحدى الولايات الهندية. فهذه العائلة العريقة، بالأساس، من شبه الجزيرة العربية، ثم استقرت فى بغداد، لأنها كانت من سلالة الإمام الورع موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، الذي مات غيلة بالسم في عصر هارون الرشيد، فهاجرت العائلة ومن يلوذ بها إلى الهند باتجاه المقاطعات الشمالية: بنجاب – لكانو – كشمير.

ونتيجة لسمعتهم العلمية وشرف نسبهم، أصبحوا حكاما لتلك الولايات في مرحلة من المراحل.

وبعد استيلاء الإنكليز على الهند، أبدت العائلة روح المقاومة والمعارضة المباشرة للاحتلال البريطاني للهند، فاستاء الحاكم الإنكليزي من موقف العائلة المعارض والمعادي للاحتلال والهيمنة البريطانية، وبعد قمع الثورة الهندية الوطنية عرض الإنكليز على وجهاء هذه العائلة النفي السياسي على ان يختاروا الدولة التي تروق لهم، فاختاروا العراق، موطنهم القديم، حيث تغفو أمجاد العائلة على حلم الحقيقة ونشوة الماضي الشريف والعتبات المقدسة.. فارتحلوا إلى العراق ومعهم ثرواتهم الكبيرة من ذهب ومجوهرات وتحف فنية نفيسة».

الشيوعي

المسرد العائلي يبدو كأنه هو، لا مظفر الذي يكتب، وهو، لا مظفر، الذي ينشد: «لم يبق إلا أن ارتب الغربة في صندوقنا مع الثياب والأوراق والمهانات التي سمعناها!»

غربة مظفر تبدو كأنها غربة أزلية، سرمدية، وفي بعض وقائع أيامنا كانت الغربة حكرا على الفلسطيني، لكن نتيجة العجز عن مواجهتها بدأت تتناسل، حتى أضحت رديفا للغالبية العظمى من العرب.

والمسرد العائلي تتداخل ظلاله مع تفاصيل «أكثر السنوات مرارة» كما يصف حنا بطاطو في الجزء الثالث من كتابه «العراق» سنة 1963، وخاصة «أيام شباط المأساوية – الثامن والتاسع والعاشر منه – التي شهدت الصدامات الرهيبة بين جزء كامل من العراقيين وجزء آخر».

في تلك الأيام، وفي تلك السنة، عايش مظفر التفاعلات المذهلة بين المسرد العائلي بكل محمولاته وطاقته «السحرية» المختزنة، مع واقع البلد والعالم في تلك اللحظة، مع نزوعه الشخصي وفرادته، فمظفر الشيوعي؛ وهي الصفة التي تتقدم كل صفاته في تلك الأيام، مُنحية إلى الخلف صفات: الشاعر، والمعلم، والسيد «حفيد النبي محمد»؛ كان في الشارع وسط الجماهير صبيحة أول الأيام المأساوية لحظة بدء حزب البعث العربي الاشتراكي انقلابه على حكم الزعيم عبدالكريم قاسم الذي كان الحزب الشيوعي العراقي يؤيده ويدعمه، وفي تقريره لمجمل الأيام الثلاثة يذكر بطاطو: «لا يمكن إلا الاعتراف بأنه ما من حي سني وقف في وجه الانقلاب البعثي أو إلى جانب الشيوعيين. ويكمن بعض تفسير هذا في أن العرب السنة، لكونهم أقلية في العراق، يميلون ــ ككل ــ إلى الاتجاه القومي العربي أكثر من فئات السكان الأخرى. ولكن علينا أن نتذكر أيضا أن التقسيم الاقتصادي يختبئ وراء التقسيم الطائفي في بغداد، كما في كل مكان في جنوب البلاد. بكلمات أخرى، فإن المذهب الشيعي كان هنا، لزمن طويل، مذهب ضحايا الاضطهاد، تماما كما أن المذهب السني كان مذهب الطبقات المهيمنة اجتماعيا. وهذا لا يعني انتفاء وجود شيعة أثرياء أو سنة فقراء، ولا إنكار أن الشيعة الذين أصبحوا أغنياء حافظوا على نفسية المحرومين، كما لا يعني كذلك أنه يمكن فقراء السنة أن يطوعوا القانون لمصلحتهم بسهولة أكبر مما يفعل فقراء الشيعة».

ومظفر الناجي من المقتلة يبدأ طريق الهروب، عبر بوابة البصرة، في الربيع إلى إيران، قاصدا الاتحاد السوفياتي، لكن سلطات الشاه تعيده إلى العراق في الشتاء، ليحاكم ويصدر بحقه حكم الإعدام، يخفف إلى المؤبد، وفى سجن الحلة تجري وقائع الهروب «الأسطورية»، لكن قبله يقع الانشقاق، ويصبح الحزب حزبين، ويكون مظفر في صف من اختاروا أن يمدوا أفق «المستحيل» إلى حده الأقصى؛

الذهاب إلى الأقصى في المشاعر واللغة والأحلام والأحزان يرجعه مظفر ليس فقط إلى مسرده العائلي، الذي عززته وقائعه الحياتية، بل يبدو وكأنه يرجعه إلى ما يشبه «القدر الميتافيزيقي»، هكذا يلاحظ: هذا هو الشعب العراقي. تاريخ من الحزن ومن القتل ومن الدموع وأفراح صغيرة قليلة، لذلك، الفرد العراقي يستثمر اللحظات القليلة من الفرح فيشرب الى حد الثمالة الى أن لا يعود يرى الدنيا.

ومع الذهاب إلى الأقصى يحلو لمظفر أن لا يرى تناقضا في أن يكون المرء قوميا وماركسيا وصوفيا في اللحظة ذاتها، ويحلو له أن لا يحب إلا المحاصَرين، المطارَدين، الشهداء، وكأنه يريد أن يكون ضمن سلسلة الشهداء على الناس.

ويبدو أن الأيام تعزز من قيمة ونجاعة مرافعته الأشهر في وجه ناقدي مفردات لغته الشعرية:

اغفروا لي حزني وخمري وغضبي

وكلماتي القاسية.

سيقول البعض: بذيئاً.

لا بأس

أروني موقفا أكثر بذاءة ممّا نحن فيه.

(كاتب مصري)

وأنا ما زلتُ أطير/ خالد أبو رقية

مظفر النواب الذي أمضى حياته جواب بلاد، لم ينل ما يستحق من الاهتمام النقدي ولم يبال بذلك وبقي ساخطا غير أنه وجد الواقع أكثر بذاءة منه، وامتلك على الدوام روح طفل تناقل نشطاء على الفايسبوك صورا مؤثرة للشاعر العراقي مظفر النواب، وأطلقوا نداء للعناية به بعدما أنهك المرض جسده وعبث بذاكرته. النداءات التي تصاعدت دفعت الحكومة العراقية إلى إصدار بلاغ يؤكد أن رئيسها حيدر العبادي أبدى اهتمامه وسيتكفل بعلاج النوّاب، من دون أن يكون للنوّاب مجال لقبول هذه الرعاية المتأخرة أو رفضها بسبب المرض الذي أكل من جسده ومن جلَده.

الجالس بقرص شمس

يبدو أن مظفر النواب يحمل جينات المنفى، ويبدو أن المنفى كان قدره، فهو سليل عائلة موسى الكاظم التي هاجرت قديما إلى الهند هربا من بطش العباسيين، وفي الهند أقام الهاربون من سلالة الحسين بن علي بن أبي طالب مجدهم وحكموا منطقة البنجاب وكشمير ولكناو، لكن مقاومتهم للبريطانيين كلفتهم النفي مرة أخرى، فنفيت الأسرة إلى العراق في عهد العثمانيين بعد ان تمكن الاحتلال البريطاني من إطباق قبضته على الهند.

لقد حمل الشاعر إرث المنفى وظل ثقلا جاثما على صدره، «أي إلهي إن لي أمنية أن يسقط القمع بدار القلب/ والمنفيون يعودون إلى أوطانهم/ ثم رجوعي» هكذا صرخ مظفر النواب ذات شعر، فالشاعر الذي تفتقت موهبته منذ القسم الثاني الابتدائي، كلفته هذه الموهبة غاليا منذ كتب قصيدة للسجناء يدعوهم فيها للصمود، ومن حينها وضع قدمه على طريق السجن والمنفى.

يذكر النوّاب حادثة تجرّئه على كتابة الشعر، ويتذكر إلى أي مدى كان خجولا عندما أوقفه أستاذ اللغة العربية، في سنته الثانية من القسم الابتدائي، عند السبورة وأمره أن يكمل عجز قصيدة يقول صدرها «قضينا ليلة في بيت عرس» فأجاب الطفل الخجول بعد لأي «كأنا جالسون بقرص شمس» ويبدو أنه من ساعتها نبذ خجله ليواجه باللغة العارية الواع البئيس.

وإن حاول النوّاب الإفلات من قدره في فبراير/ شباط سنة 1963، حين توجه لخطبة فتاة، فإن قدره لاحقه في تلك الليلة التي صادفت الانقلاب على رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم، ولأن النواب شبيه قدره أيضا، فقد دفع ثمن انتمائه للحزب الشيوعي الذي رفض الانقلاب مما أدى بزعيم الانقلاب عبد السلام عارف إلى شن حملة اغتيالات واعتقالات في صفوف الشيوعيين، حملة صرفت النوّاب عن دار الخطبة إلى شق طريق عبر حقول البصرة إلى إيران على أمل الوصول إلى الاتحاد السوفياتي.

لم تكن رحلة النواب باتجاه الجنة الشيوعية موفقة، فقد أوقفه الأمن الإيراني «السافاك» على الحدود ليعيده إلى العراق حيث حكم بالسجن المؤبد وانتقل بين عدة سجون قبل أن ينتهي في سجن الحلّة، وهناك في ما يشبه المعجزة، سنة 1967، أفلح بمعية رفاق الزنزانة في حفر نفق بسكاكين المطبخ في عملية وصفت بعملية الهروب الكبير.

ولم يكن العفو الذي أصدرته السلطات العراقية سنة 1968 ليجعل النوّاب يهنأ بالاستقرار، فلم يمض وقت طويل على عودته إلى داره ووظيفته في سلك التعليم حتى عادت موجة الاعتقالات في صفوف الشيوعيين، ليجد نفسه مجبرا على وضع وطنه في حقيبة والجري في الجهات، وحيثما مر لم تستقر روحه، هذا على الأقل ما لخصه في مناجاة حزينة كقلبه «سُبحانَكَ كُلُّ الأشّيَاءُ رَضيتُ سِوى الذُّلْ/ وَأنْ يُوضَعَ قَلبِيَ في قَفَصٍ في بَيْتِ السُلطانْ/ وَقَنِعْتُ يَكونُ نَصيبي في الدُنيا.. كَنَصيبِ الطيرْ/ ولكنْ سُبحانَكَ حتى الطيرُ لها أوطانْ/ وتَعوْدُ إليها.

من اللافت أن مجمل من تداولوا نداء الاهتمام بالنواب (وليس إنقاذه) هم القراء بينما كانت أصوات المثقفين والشعراء خجولة، مثلما من اللافت أن أشعار النواب لم تلق الاهتمام «الأكاديمي» المناسب، فالرجل رغم غزارة كتاباته وذيوع صيته في الأرجاء يواجه صمتا مريبا وتجاهلا قاسيا من طرف الباحثين والدارسين والنقاد على حد سواء.

والنوّاب نفسه لم يحفل بالأمر، فقد قال في حوار أجرته معه جريدة البيان الإماراتية إن كان يرى أن المشهد الثقافي العربي أنصفه: «لا يشغلني كثيراً؛ المشهد الثقافي العربي وما يكتب فيه من نقد، وما يشغلني هو ما يأتيني من مدخل شعري لبداية قصيدة ما … أما بالنسبة لخلو المكتبة العربية أو المشهد الثقافي العربي من كتابات منصفة أو ناقدة أو ظالمة لي؛ فلا يهمني».

ورغم «التجاهل النقدي» الذي رافق النوّاب، فإنه تمكن من الوصول إلى قلوب الملايين، ففي المغرب مثلا كانت قصائد النواب فاكهة أمسيات الطلبة، وكان صوته المنهك وصراخه يلهب أرجاء الجامعات في الأسابيع الثقافية التي ينظمها اتحاد الطلبة وكان ملح الأمسيات مقطعه «القدس عروس عروبتكم/ فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها/ ووقفتم تسترقون السمع وراء الأبواب لصرخات بكارتها/ وسحبتم خناجركم وتنافختم شرفا/ فما أشرفكم../ أولاد القحبة هل تسكت مغتصبة؟».

وكانت القدس معشوقته المستحيلة، فقد نصب على أسوارها مدفعيته الثقيلة في وجه الأنظمة ولم يتردد في الإعلان أن «بوصلة لا تشير إلى القدس مشبوهة»، ولم يبرئ أحدا حين قال «لا أستثني منكم أحدا» قبل أن تعيد المقاومة في الجنوب بعض الدفء إلى قلبه ليعلن «ولست قتيل نظام يكشف عن عورتيه فقط/ بل قتيل الجميع/ ولست أبرئ إلا الذي يحمل البندقية قلبًا/ ويطوي عليها شغافه».

كوجيطو النوّاب

وكما واجه الدون كيشوت طواحين الهواء، واجه النوّاب طواحين الأنظمة، فقد وقف يمارس «الكوجيطو» على طريقته، فقد تجلى وجوده في كشف عورات الأنظمة الحاكمة من المحيط إلى الخليج وتعريتها أمام الجماهير التي كانت تهتز مع كلماته المهربة عبر الحدود في أشرطة مسموعة، وحين عتب عليه استعمال كلمات بذيئة رد بهدوء «اغفروا لي حزني وخمري وغضبي وكلماتي القاسية، بعضكم سيقول بذيئة، لا بأس.. أروني موقفا أكثر بذاءة مما نحن فيه».

وإن كان النوّاب يعلن غضبه ويلهب صراخه (وسبابه حتى) المنابر، فإنه ظل يحمل روح طفل بداخله، طفل أرهقته المنافي وعذبه البعد عن بلاده، وظل الطفل يحمل حلما طفوليا «يكون تبرأ مني الزمان الحبيب؟/ لكم كان يكفي قليل من الورق الناعم البالي/ أصنع طائرتي وأهيم بها في الطفولة»، لقد حلم بطائرة ورقية في سماء البصرة، وحلم بقوافل تسير إلى البصرة، كما حلم بسفن تبحر إلى البصرة وهي تنأى في حين تصارع «لا يوصلك البحر إلى البصرة/ بل يوصلني البحر إلى البصرة/ قلنا لا يوصلك البحر إلى البصرة/ قلت أحمل كل البحر وأوصل نفسي أو تأتي البصرة».

عاش النوّاب مندورا للتعب والهزيمة حين تأبط قلما وورقة وقف يواجه أنظمة بكامل جبروتها، لكن ما أرهقه لم يكن سوى عذاب النفي فالطفل كان يعدو في مسالكه كأنه «عشق تذوق طعم الهزيمة../ آه من العمر بين الفنادق لا يستريح/ أرحني قليلا فإني بدهري جريح».

لا يخفي عشاق النوّاب وشعره هلعهم من فكرة موته، وخلال السنوات الأخيرة قرأ بنفسه خبر موته عدة مرات، ففي كل مرة كانت تعلن جريدة أو موقع إلكتروني خبر موته، لكنه أكد «في الحانة القديمة» قبل عقود: «أنا يقتلني نصف الدفء، ونصف الموقف أكثر».

(كاتب من المغرب)

ثائر وشاعر في آن!/ عبد الزهرة الركابي

هل تستطيع أن تفصل الصوت عن الصدى، أن تفصل الثائر عن الشاعر النواب الذي كان في المحكية شاعراً، غدا أقرب إلى الثائر في الفصحى بعدما وصل مظفر النواب في طوافه البعيد، إلى المحطة الأخيرة، تأمل اجتراراً.. وبصمت الشاعر و(رهبنة) الثائر، من محل إنزوائه القسري، في ما قاله شعراً:

(سبحانك…

كل الأشياء رضيت سوى الذلِ…

وأن يوضع قلبي في قفص في بيت السلطان…

وقنعت يكون نصيبي في الدنيا كنصيب الطير…

ولكن سبحانك…

حتى الطير لها أوطان…

وتعود إليها…

وأنا ما زلت أطير…

فهذا الوطن الممتد من البحر إلى البحر…

سجون متلاصقة…

سجان يمسك سجان…).

هناك جدلية سائدة ومتوازية في آن، تكاد لا تخلو منها كل الأزمنة، ربما تكون مقاربة «للجدل البيزنطي، خصوصاً إنها تتعلق بأسبقية العنوان او الصفة أو الدور أو الأصل، أو الصوت والصدى، وهذه الجدلية لا تنطبق على أناس من عامة المجتمع، بقدر ما هي تتعلق بأفراد متميزين أو شخصيات استثنائية، أو فريدة في خلقها ونتاجها وإبداعها، في شتى الصنوف والجوانب والفعاليات.

والأدب والثقافة عموماً، ساحة لتبيان المتميزين الى حد (الأسطورة)! وإذا ما أردت تناول مظفر النواب.. فإن الذي يجعلني أقف حائراً في هذا التناول هو، عنوان النواب: ثائر أم شاعر، أم كلاهما معاً؟!.

ولو سلمت جدلاً، من أنه يجمع العنوانين (الشاعر والثائر في آن)، فإن في هذا التوصيف، تواجهني معضلة: الصوت والصدى، وبالتالي كيف أستطيع تشخيص أو حتى فرز أو فصل الصوت عن الصدى، في هذا التماهي والتلازم المعقدين، ما دام عنوانه: التوأم السيامي؟

مظفر النواب.. هذا الاسم المثير للجدل، في الشعر والسياسة والعنوان والمنفى.. هل كان شاعراً للتعرية السياسية وحسب، أم كان ثائراً في جلد شاعر؟.. ربما نصل الى العنوان المناسب بحقه في ما بعد، وعبر هذه الكتابة.

بداهة، أستطيع القول إن النواب، اكتنفته مرحلتان: الأولى مرحلة الثورة الميدانية في العراق، التي عاشها وعايشها النواب، في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الفائت، وهي مرحلة النضال والثورة وحمل السلاح والاعتقال والهرب من السجن، وهذه المرحلة جسدها بكتابة الشعر العامي (الشعبي)، الذي أستطيع أن أختزل كل ما كتبه في هذا الجانب، في قصيدة (الريل وحمد ):

(مرينه بيكم حمد، وأحنه إبغطار ـ قطار ـ الليل، واسمعنه دك إكهوه ـ قهوة – شمينه ريحة هيل.. يا ريل ـ يا قطار ـ صيح إبقهر صيحة عشك ـ عشق – ياريل).

والأخرى مرحلة ترويج الثورة استعراضياً، وهي مرحلة المنافي التي بدأت من أواخر عقد الستينيات، وقد يكون منفاه الدمشقي، خير تجسيد لهذه المرحلة، التي تمثلت بكتابة الشعر بالفصحى، وإلقاء القصائد التحريضية، وكذلك استخدام الشعر وسيلة في تعرية النظم الديكتاتورية والرجعية والفاسدة.

وبإمكاني اختزال شعر النواب في هذه المرحلة، من خلال قصيدة (وتريات ليلية)، التي كانت بحق، أشهر عنوان لشعره، في التعرية السياسية خلال المرحلة المذكورة:

(من باع فلسطين سوى الثوار الكتبة؟

أقسمت بأعناق أباريق الخمر وما في الكأس من السم

وهذا الثوري المتخم بالصدف البحري ببيروت

تكرّش حتى عاد بلا رقبة

أقسمت بتاريخ الجوع ويوم السغبة

لن يبقى عربي واحد إن بقيت حالتنا هذي الحالة

بين حكومات الكسبة).

والسؤال هنا: هل رجحت كفة الثورية على الكفة الشعرية، لدى مظفر النواب؟

وكجواب على السؤال الآنف، فقد كان اللافت في مرحلة النواب الأولى، هو أن الكفة الشعرية، كانت هي الراجحة، وقد جاءت هذه الأرجحية، من خلال شيوع وانتشار الشعر العامي (الشعبي) وقتذاك.

وهي أرجحية، لا تحتاج الى سند آخر، بقدر ما تطرحه من صور جمالية، يملؤها العتاب والفراق، وكل أحاسيس النواب الشاعر، وهي أحاسيس ومشاعر، بثها شوقاً وألماً، حتى لو كان النواب في داخل العراق.. نعم كان موجوداً في وطنه، بيد أنه كان بعيداً عن أهله ومعارفه ومدينته بغداد.. وهذا الفراق والبعد، متأتيان من حرمانه من الحرية، من جراء السجن والمعتقل والملاحقة، أو حتى من مشاركته في الثورة المسلحة، وإقامته في المناطق النائية في الأهوار (المسطحات المائية) في جنوب العراق:

(لا مرّيت… لانشديت… لا حنيت

وكَالولي عليك هواي

وعودان العمر كلهن كَضن ويّاك

يا ثلج الي ما وجيت

تعال بحلم… أحسبها إلك جيّه و اكَولن جيت).

إذاً، في هذه المرحلة من حياته ونضاله، كان النواب شاعراً من منصة ثائر.

بينما كانت مرحلته الأخرى، من خلال اعتماده على اللغة العربية الفصحى، في كتابة الشعر، تجسد مرحلة أرجحية الثائر على الشاعر، لا سيما وأن المكان (المنفى)، لعب دوراً مؤثراً في هذه الأرجحية.. فكان شعره تحريضياً و(تشهيرياً)، وهذا لا يعني أن هذا الشعر، كان بعيداً عن رغبات وتمنيات الشاعر الذاتية، وإنما كان في كثير منه، إن لم أقل الغالب فيه، يتقدم دور الثائر على حساب دور الشاعر:

(شهرت بندقيتي الشّماء للكفاح

لا تقهر انتفاضتي

وموقعي أدوس أنف من يشك

أنّ بندقيتي

تلقح الزمان

أشرف اللقاح).

ولهذا، كان النواب في هذه المرحلة، وتبعاً لظروف فعاليات المنفى، ثائراً في صوت شاعر، أو بالأحرى كان الشعر لديه، ذخيرة الثائر!

وعليه، كان مظفر النواب.. يمسك بقبضتيه، جمر الثورة والشعر في آن واحد، وهذا سر احتراقه الأخير: مرضه الأخير، وجعه الأخير.. من يدري، قد يكون هذا الاحتراق، مخاض ثورة لاستيلاد قصيدة جديدة، أو وقود قصيدة لانفجار بركان ثورة جديدة.. من يدري؟!.

(كاتب عراقي)

سورياليّ بالعامية وشعبيّ بالفصحى/ محمد مظلوم

ثمة غموض في حياة الرجل وفي شعره. كانت محكيته نسيج وحدها أما فصحاه فقريبة من شعراء عرب وأجانب. رغم ثوريته المبالغ بها لم يتناول الاحتلال الأميركي ولم يتعرض بالاسم لصدام، وفي النهاية صار اسمه نهباً لشعراء غامضين ينتحلونه

شخصية مظفر النواب وشعره، دراما من ضوء وظلِّ، يتبادلان شعشعة تستمدُّ فتنتها من التباسهما الصعب في تجربته الكلية، حيث يغدو الظل المشعّ في الخفاء جزءاً من الأضواء الباطنية الجذابة لتتشكل معهما «حالة غامضة» تتنافس فيها الظلال مع الأضواء المعتادة، دراما منحت تجربته خصوصيتها في الثقافة العربية وجعلتها تثير الاهتمام والرغبة بالكشف والاستزادة.

في بغداد السبعينيات والثمانينيات كانت أشعاره أهازيج في مسيرة «الركبان» وجلسات المقاهي، يتمَّ تناقلها شفاهياً كرسائل سرية مغلغلة، أو يجري تداولها بحذر على أشرطة كاسيت، في أوج تألق ثقافة الكاسيت، حيث مرحلة جديدة صوتية من إشاعة الشعار السياسي، فديوانه الوحيد مفقود، وممنوع، وكل ممنوع متبوع! وما من ذكر لأشعاره في الانطولوجيات الشعرية العراقية، وليس من إشارة لتجربته في الدراسات النقدية والمقالات الصحافية التي تتناول الشعر العراقي، هذا التداول الشفاهي في غياب الكاتب والمكتوب، ألحقت بالسيرة الشخصية للنواب، تآويل وأقاويل شتى، بما جعلها أقرب إلى سيرة الأبطال الشعبيين المشوبة عادة بالتفخيم، رسَّخَ هذا الجانب القلقُ المحيطُ بتجربته السياسية مع الحزب الشيوعي وانشقاقه المبكر ضمن تنظيم «القيادة المركزية» بتبنيه الراديكالي للكفاح المسلح، و «العنف الثوري» لتكتمل دائرة الأسرار الجمالية بالأقاويل المتشعِّبة حول قصة هروبه الغامض من العراق، قبل أن نعرف لاحقاً، ومن النواب نفسه، أنه غادر العراق في رحلة طبيعية، بعد أن قابل صدام بوساطة من القيادي البعثي «علي صالح السعدي» وطلب منه أن يسمح له بالسفر إلى بيروت لمتابعة صدور ديوان له، فقدم له صدام جواز سفر والهدية المعتادة لضيوفه: «مسدس شخصي» الهدية التي قال الشاعر إنه اعتذر عن عدم قبولها بأدب.

لا بدَّ من التأكيد هنا أن الدكتاتورية نفسها، طرف آخر، غير مباشر، في صياغة «الحالة الغامضة» لمظفر عبر شحنها بجرعات إضافية مفيدة، منعت الإذاعة بثَّ تسجيلات الأغاني الملحنة من أشعاره والمغنّاة بأصوات عراقية مشهورة، فأسهم هذا «المنع المفيد» في إضفاء بعدٍ سياسي نفعي وملفَّق لتلك الأغاني، وتأويل أكثر مما تحتمله قصيدة عاطفية على لسان امرأة تجاوزت الثلاثين من العمر، وهي تنتظر رجلها بين شباك البيت وفراش الحرمان، صارت معادلاً للثورة اليسارية المنتظرة في التأويل الإسقاطي، هكذا انتصر تأويل القضية على تأوُّهات المرأة، ولم يكن الشاعر «بريئاً» من هذا الانتصار، فهو يتحدَّث، بالأساس، عن قصص الآخرين في شعره: «عوَّدِتْني العِيْد يعني الناس ويَّاهمْ أعيِّدْ» وبهذا المعنى فإن مظفراً شاعر شعبي بامتياز، شاعر العامة لا النخبة، لكن هذه «الشعبية» جعلت من الشخصي منحسراً في شعره، لا يلمس قارئ شعر النواب سيرة شخصية واضحة فيه، بل بقيت مثل تلك السيرة غامضة إلا لمن عرفوه وعايشوه عن قرب، صحيح أن ثمة ملامح لسيرة بطولية، مسرحها السجن، والمنفى والحروب، لكن تلك سيرة مهوَّلة لا تنطوي على اعتراف وكشف للغموض، ومحاورة الباطن الإنساني.

شعر العامية

قبل النواب، كان شعر العامية العراقي يخضع لشروط الزجل الشعري المتوارثة منذ صفيّ الدين الحلي في «المواليا» و «الكان وكان» و «القوما» وما تم استنباطه من هذه الأنماط من أطوار زجلية لاحقة مثل: «الأبوذية» و «الزهيري»، وكان من المتوقع لابن بغداد المنحدر من الطبقة الوسطى أن يتأثر بالعوالم الشعرية والقاموس المحلي للملا عبود الكرخي، وهو ابن الكرخ أيضاً، غير أنه أجال بصره بعيداً عن بغداد كلها، وآنسَ إلى جانب آخر مختلف، إلى الجنوب العراقي حيث «الحاج زاير» أو الموّال الأبدي كما يسميه، وغناء الفطرة في أهوار العمارة، وهكذا استبطنت قصيدة اللهجة المحكية لدى النواب مفردات الأهوار الجنوبية، حيث لغة الأعماق ذات الجرس المختلف والدلالات المكثفة في مفردة تبدو أحياناً أطول من عبارة كاملة، وأكثر اتساعاً من قصيدة بالفصحى!

هذا التوغل في طمي مياه اللهجة الجنوبية للظفر بما خلّف الرواسب من عناصر ثمينة، لم يمنع النوّاب المرتحل في هوية مشتَّتة بين الحجاز والهند وأرض الرافدين، من الاحتفاظ بروح مدينية في قصيدته، فهو وإن استدعى المشاحيف والبردي والقصب، من قاموس أهواري خالص، لكن «الغَطَار» القطار بقي رمزاً مهيمناً داخل تجربته في الوحشة، وهو وإن سكنته المياه وتحالف مع «زرازير البراري» لكن السكك «السچچ» والمحطات كانت هي التي ترسم خريطته في المتاهة، بهذا المعنى هو ليس شاعراً ريفياً خالصاً، رغم مياه العامية الغزيرة في تجربته، بل إنه شاعر مدينة ذو لهجة غريبة، بل شاعر مدن، فمدينته ضاعت مرة واحدة وبقيت المدن الأخرى محطات في تلك الرحلة، لهذا عمد إلى أنسنة الريل «القطار» ومن ثمَّ سيتماهى معه، وبعد أن نزل جميع الركاب في محطاتهم وانتهت السكك جميعها ظل وحده يمشي بلا سكة!: «السِچچْ خلصتْ ومشيتْ وحدي بلايَ سچَّه… ايه يا عشگ الماله سِچَّه…يا وطن يا بيك وبليَّاك أضيع».

الريل وحمد

كان من شأن «للريل وحمد» وحده أن يجعل من النواب أحد شعراء الديوان الواحد البارزين، وهو نال في وقت مبكر ترحيباً لافتاً من سعدي يوسف: «أضع جبين شعري على طريق الريل وحمد» كثافة الملحمة الشعبية في الديوان، والبناء الصوري والبلاغي المختلف للقصائد، لم يكن مما هو معتاد في شعر العامية العراقي، حيث امرأة تتذكر قصة حبها الضائع، وقطار يمضي صارخاً في الصحراء.

كثير من قصائد «للريل وحمد» وما بعدها من أشعاره بالعامية استعار فيها الصوت المؤنث، ليروي سيرة هي في الغالب لامرأة مهجورة، أو تنتظر بمونولوغ من الحرمان، بلغة لا تخلو من بلاغة حسِّية ولذائذية مرمَّزة. هذه الاستعارة للصوت المؤنث تكاد تكون مهيمنة حتى في القصائد السياسية ذات الهزج الثوري الصائت. بيد أنَّ كميَّة السياسي لم تكن طاغية تماماً في الديوان، وإنما مندغمة في متن النسيج العام لتلك الملحمة الشعبية، غير أن اللحظة السياسية الماضية، وتأويلاتها اللاحقة، ربما هي التي اغتالت شعرية الملحمة وتوَّجت شعارية القضية.

في عموم شعره المحكي ثمة شحنة سوريالية غير خافية في تكوين الصورة، وتصاعد الفانتازيا والغرابة على أشدهما، فحين يشبه دهشة الحبيب بتثاؤب الأرنب! و«مثاوَب ارنبْ دَهْشِتَكْ» فهذه صورة فصيحة ونخبوية أكثر من الشعر الفصيح الذي يقوم غالباً على ترجيع الشعارات المعتادة أو على الأقل إعادة فلترة شارعيات الناس.

من هنا التباس الثوري والشعري في تجربته، فبينما بدأ في الشعر العامي منحازاً للثوار الهامشيين المحليين: سعود، صويحب، حسن الشموس، حچام البريس….، فإننا حين نقرأ قصائده الفصحى بشروط الثقافة السياسية اليوم فسيبدو كمن ينتمي لثقافة سياسية ثورية بائدة، فأبطاله هنا «إرهابيون» بمنظور اليوم: جهيمان العتيبي، خالد الإسلامبولي، سليمان خاطر…

«إنني صبٌّ أسمِّي كلَّ ما يسلبُ لبِّي خمرةً

إنْ كانَ حُسناً أو قراحَ الماءِ من كفٍّ كريمٍ

أو حزاماً ناسفاً!

أو بيتَ شِعْرٍ أو مُداما»

بالتأكيد لا يتحمَّل شعر النواب وِزْرَ ثقافة «الحزام الناسف» الراهنة، إلا كما تتحمَّل أفكار نيتشه وشوبنهاور، عن القوة والإرادة، المسؤولية عن نازية هتلر! لكننا مع شعر كهذا يوحِّد بين الخمر والشعر والثورة وإن «بحزام ناسف»! نعرف كيف تتغيَّرُ الأخلاق والمفاهيم، في عقود لا في حقب وعصور، وعندما يقول في وترياته: «أُنبئكَ عليَّا لو جِئتَ اليومَ لحارَبَكَ الدَّاعونَ إليكَ وسمّوكَ شِيوعيَّا» فإن أخلاقية خطابه الشعري لن تنجو من المقاربة نفسها. فقصائده عن «الأساطيل الإمبريالية» أعيد نشرها في جريدة «الثورة» في العراق في أجواء حرب عاصفة الصحراء.

الهامش

لذلك ستبدو قصيدته في رثاء آدم حاتم مثلاً، غريبة وسط مراثي المحاربين المسلحين، فهو يرثي هنا، شاعراً مشرداً أعزل، «ضحية» السياسة والأحزاب، بينما دأب قبلها على رثاء «شهداء» الحركات الثورية، انها عودة للهامشيين، بل عودة متأخرة للذات: «ضَعْ مِعْطفَكَ الصوفيَّ على كاهِلِ حزنِكْ/ تأنَّقْ بالصَّمتِ سنخرجُ للتشييعِ الأزليِّ/ فآدمُ ماتَ/ وبقيتَ وحيداً/ تذهبُ للمقهى بعدَ الآنَ بلا ثِقَةٍ بالدُّنيا/ تضجُّ بعينيكَ خفافيشُ السنوات/ تَنعَى آدمَ؟ أم تنعَى نفسَكَ؟ أمْ تَنْعاهُم؟»

قد نجد لعوالم النواب الشعرية بالفصحى آباءً ومدارس معروفة في الشعر العربي والعالمي، إذ يمكن إحالتها إلى فضاء تلك السلالة المتمردة في الشعر العربي: الصعاليك في زمن الدولة/ الأمبراطورية، لا القبيلة، أو إلى جيل «البيت» في الشعر الأميركي «آلان غينسبرغ» تحديداً بسخريته الصادحة وشتائمه الشعارية، لكن الأمر لا يبدو متاحاً بهذه السهولة عندما يتعلق بشعره بالعامية، فهو هنا نبيٌّ وحيدٌ، ومبشر بوعد شعري مختلف.

لا هجائيات «وتريات ليلية» ولا غنائيات «المساورة أمام الباب الثاني» تضاهي شعر التأمل في ديوانه العامي «للريل وحمد» فمجمل شعره بالفصحى لا يختلف، سوى بطريقة التعبير المتطرف، عن نماذج شعرية هجائية سادت بعد هزيمة 1967، بدأت مع البياتي في « بكائية إلى شمس حزيران، والمرتزقة» ونزار قباني في «الأعمال السياسية».

حين انزوى «أبو عادل» وزهد بفتنة المنبر لمصلحة عزلة صوفية في قصائد تنعطف بتجربته نحو أجواء الخمريات العرفانية، في مزج بين الزهد والتهتك، كان المشهد العربي محتدماً منذ احتلال العراق، وفصول الربيع العربي الدامي، فلم نقرأ لشاعر «الآر بي جي سفن» شيئاً عن الاحتلال الأميركي للعراق، مثلما لم نقرأ له سابقاً هجواً صريحاً في الدكتاتور «الوطني» وهو الذي اعتاد أن يسمي الجميع بأسمائهم وكُناهم ولا يستثني أحداً!

في هذا المناخ السياسي المحتدم استمر «مظفر النواب الآخر» في ملاحقة الأحداث الكبرى، لكنه ظهر هذه المرة اسماً حركياً نموذجياً للانتحال، فقرأنا باسمه قصائد منحولة خاضت المعمان والوحل على حد سواء، أصبح الشاعر الذي أعاد ترجيع المكبوتات السياسية للناس في شعره ومجَّد الأبطال الهامشيين، متاحاً لأولئك الناس والشعراء الهامشيبن ليتولوا نشر قصائد لم يكتبها، نيابة عن عزلته الزاهدة، هكذا انتحلت باسمه وعلى نمط «الوتريات» قصائد في هجاء 14 آذار اللبناني، والربيع العربي، والاحتلال الأميركي للعراق، قصائد وصفها أبو عادل بلغته التهكمية بالـ«عصائد» لكنها حملت لغة النواب وإيقاع صوره وهجائيته اللاذعة، وأظهرت كم غدا نموذجاً سهلاً ومتاحاً للمغمورين ذلك النوع من الشعر. لم يحدث هذا مع شعره العامي مثلاً، حيث الهوية الصلبة والمحتوى والشكل غير القابلين للانتحال والاستحواذ بتلك السهولة.

النجم الكلثومي/ سامر محمد اسماعيل

مظفر النواب ظاهرة صوتية، ومع أن نبرته الكربلائية عدت كثيرين، إلا أن إضافته للنسق الشعري قليلة، لكن قوته هي في قدرته على جذب الجماهير بأحجام تقارب جمهور كرة القدم.

(اطمئنْ رفيق ستالين؛ ليس لدمشق أية مطامع في روسيا)!، نكتة سياسية كان قد ساقها عن لسان (عبد المطلب الأمين – 1916- 1974) أول سفير سوري في روسيا؛ ففي حديثه أثناء تلك السهرة الدمشقية التي جمعتني به مقتبل تسعينيات القرن الفائت، كان (مظفّر النواب) يتذكر ذاك الخطاب الذي حرر الديبلوماسي السوري من خلاله ابتسامةً نادرة من تحت شاربي (الرجل الحديدي) في عز بأس الاتحاد السوفياتي السابق.

وقتذاك ضحك (النوّاب) حتى دمعت عيناه؛ ليطلعنا بعدها على وثيقة كان القصر الجمهوري العراقي قد أرسلها إليه مؤخراً، وفيها يطلب الرئيس الراحل (صدام حسين) منه العودة إلى البلاد بعد إعطائه الأمان التام على حياته. كان الشاعر يمسك بتلك الوثيقة ويقرأها متابعاً نوبة الضحك التي كانت تزداد هستيريةً وألماً كلما قرأ أخطاء اللغة والنحو الواردة في الخطاب الرئاسي؛ قارعاً أنخابنا نحن ندماؤه مع (المازا) العراقية التي حضّرها بنفسه؛ وذلك بعد أن التقينا به غير مرة في مقهى (الهافانا).

كانت سهرة لا تنسى طوّحت بنا حتى مشارف الفجر، لنخرج ثملين من بيت الشاعر العراقي الذي كان عبارة عن غرفتين صغيرتين (ملحق) استأجره على سطوح بناء مطل على ساحة الشهبندر في العاصمة السورية. في تلك الأيام كان الجلوس إلى مائدة (النوّاب) حلماً قصيّاً بالنسبة للكثيرين من جمهور طلبة الجامعة، والتي شهدنا كطلاب كنا على مقاعدها في ذلك الحين تلك الأمسيات التي كان يقترب فيها تعداد الحاضرين للقاء صاحب (عبد الله الإرهابي) من حجم جمهور مباريات كرة القدم.

الجموع المتدافعة لحضور (أبوعادل) كانت تأتي إلى مدرج كلية الصحافة في جامعة دمشق، قبل ساعتين وأحياناً ثلاث ساعات من بدء أمسية الشاعر؛ بل كانت أروقة المكان تكاد لا تتسع لموطئ قدم؛ شباناً وشابات يطوّقون أعناقهم بالكوفيات الفلسطينية؛ ويفترشون أحياناً الأرض أو يستلقون في أحضان بعضهم البعض من دون أي تذمّر لنيل فرصة الاستماع لقصيدة كتلك التي تقول: (القدس عروسُ عروبتكم).

في تلك الفترة التي شهدت حرب الخليج الأولى وتقدم حركات المقاومة إلى الواجهة في جنوب لبنان وثورة أطفال الحجارة في فلسطين، كانت أشعار (النوّاب) الهادرة آنذاك بمثابة روايات (ماركيز دو ساد) الممنوعة ـ المرغوبة، فالأشعار الغاضبة العامرة بما لذّ وطاب من الهجاء السياسي الممزوج بفواحش الشتائم المكالة لقمم (الأزياء العربية) وقادتها؛ جسّدت بنبرتها الحانقة ذلك الصراخ المكتوم في حناجر الشبيبة في وجه كل اتفاقيات الإذعان المعقودة مع إسرائيل؛ من (كامب ديفيد) مروراً بـ (أوسلو) وانتهاء بـ (وادي عربة).

شعراء اليسار

ليست وحدها أشعار (النوّاب) التي انتشرت وقتها بين جمهور الطلبة، بل كانت قصائد (نزار قباني) و (محمود درويش) و (أحمد فؤاد نجم) و (عمر الفرّا) ناهيك عن أغنيات (الشيخ إمام) و (مارسيل خليفة) و (خالد الهبر) و (فهد يكن) جميعها كانت هدايا ثمينة يقدمها الشباب لزميلاتهم في مقاصف المدن الجامعية ومدرجاتها، كآخر صرخة لشعراء اليسار العربي المنكفئ تحت ضغط الهزائم المتلاحقة ومطاردة معظم زعمائه ورموزه وزج البعض الآخر منهم في غياهب السجون.

صرخة أخيرة شكّلت لجيلٍ بأكلمه وسيلةً للتودد من الحبيب وطريقة لتقديم موديل جديد من ذلك المثقف المدجج (بأشرطة كاسيتات) الثورة وأغاني حركات التحرر الأممي و (غيفارات) على طريق تحرير الأرض والإنسان.

كان صراخ (النوّاب) يعلو مع قصائد (خالد أكر) و (جهيمان) و (آدم حاتم) فتهتف الحناجر الشابة مرددةً: «أبو عادل أعِدها، أعِدها يا أبا عادل) وما كان من (الشاعر الكلثومي) إلا أن يعيد ويكرر ويعيد مرات ومرات وصلْته بصوتٍ مذبوح ومدمى؛ مصعّداً من وتيرة هياج الجماهير الطلابية المشدوهة للشتائم الشعرية المقفاة على سجعٍ يطيح بهيبة السلطان وأجهزة الأمن وبروتوكولات الحكّام العرب والصهانية على حدٍ سواء، تماماً كما هو الحال مع مقطعٍ من قصيدته المشهورة (في الحانة القديمة) والتي جسّد فيها (النوّاب) الكبت الجنسي والسياسي والديني في آنٍ معاً كمثل العديد من قصائده: «سيدتي، أيقتلكِ البردُ؟ أنا يقتلني نصفُ الدفءِ ونصفُ الموقف أكثر؛ سيدتي نحن بغايا مثلكِ يزني القهر بنا.. والدينُ الكاذِبُ، والفكرُ الكاذبُ، والخبُر الكاذبُ، والأشعارْ ولونُ الدَمِ يُزَوَّرُ حتى في التَأبينِ رَمادِياً؛ ويوافق كل الشعبِ أو الشعبِ وليس الحاكم أعور.. الخ).

من هنا التقط (النوّاب) حساسيته الصوتية الميلودرامية؛ منغّصاً مزاج المئات من كتبتة الشعر، لا سيما من جيل الشباب الذين تصوروا بسبب ثقافتهم السمعية لا قراءتهم – أن القصيدة تكمن في هذا العويل المباشر من فوق المنابر، قصيدة البيان السياسي التي تتصادى عباراتها الرنانة بين جدران قاعة هنا وصالة رياضية هناك؛ فتغلي الصدور وتمور وتفور بالغضب الساطع؛ وراء قارعي الطبول وشعراء ومطربي حماسة اليسار، وربما الغريب في ذلك أن هذا كان بعيداً عن تلك النصوص الخرساء التي لم تجد سبيلاً إلى منابر الأخذ بالثأر ومكاسرات الخطباء المفوهين شعرياً؛ لتكتفي قصيدة النثر من كل هذا الجمهور الغاضب والعريض بما أسماه يوماً المكسيكي (أوكتافيو باث – 1914- 1998) في كتابه (الشعر ونهاية القرن العشرين) بـ (القلة الكثيرة) أو (الأقلية الهائلة).

يمكن اعتبار (مظفر النوّاب) في هذا السياق ظاهرة صوتية لافتة أو ممثل مونودراما لمسرحية الشخصية الواحدة؛ فبراعته لم تكن في إضافة تركها على نسق الجملة الشعرية التي اشتغل عليها (بدر شاكر السياب) و (عبد الوهاب البياتي) و (نازك الملائكة) و (سعدي يوسف) بقدر ما كانت امتداداً للشعر النبطي المغرق في كربلائيته واستجداء تعاطف الجمهور مع صيحات المنابر في الآن وهنا؛ فعلى الرغم من أن بعض نصوص (النوّاب) لا تخلو من تلك النبرة الصوفية العالية والتفكير بالصور الجديدة: «هدهدتني على سرير الكون أمي، كحلمِ النوارس، فالتبس الله عندي بكل البشر» إلا أن هذا لم يتح له أن يبتعد عن التفكير بتوزيع عواصف التصفيق وحشر العبارات الساخرة والمقذعة بين مقطوعةٍ وأخرى، منتهجاً أقصى حالات غرض الهجاء في الشعر العربي فحشاً؛ ومطوّعاً القصيدة لصالح بكائية الأغنية العربية كأسهل طريقٍ لبلوغ قلوب الجماهير النوّاحة على ضياع الحقوق العربية، وابتغاء أقصى حالات تعذيب الذات وأكثرها ساديةً.

صراخ راديكالي

ربما جاء (النوّاب) في وقته حرّاقاً وعاطفياً ومباشراً كتعبير لا برجزة فيه عن خيبة الأمل الجماعية لجماهير ضيّعت أعمارها وراء سراب تحررها وانعتاقها وكرامتها، متشردةً في كثبان الصحراء من جديد، ململمةً ما تساقط من هودج القصيدة العمودية وخبَبِ حوافر وأسنام جِمالها وخيلها التائهة في سديم لا رجعة منه، ربما كان شعره مضاداً حيوياً وقتها لصراخ راديكالي لا يزال يتلى على منابر العظات والخطب لجمهورَيّ الأحد والجمعة، فلم يحدث أن خرجت الحشود من (نوّابيات) الأمسيات المشتعلة بالهتاف والتصفيق نحو تحرير شبر واحد من الأراضي العربية المحتلة، بل عادت مثل كل مرةً في (أتوبيس الدولة) محشورةً في مقاعده المهترئة نحو بيوتها البعيدة في ضواحي وعشوائيات المدن وأكواخ الصفيح وأحياء المقابر، وربما ابتسمت هذه الجموع أو حطمت في جلسة مراجعة مع الذات كل (أشرطة الكاسيت) المتبقية في أدراجها، كافرةً بقصائد الشعارات التي ألهبت يوماً أكفّها بالتصفيق، ثم عادت متورّمة الأقدام منتفخة الأعين مزرقّة الخدود إلى أقفاصها الرحيمة، مرددةً في سرها أغنية كان (النوّاب) قد كتبها يوماً لـ (إياس خضر) بعنوان (تايبين وما نمر مرة بدربكم) أو تمتمت بينها وبين نفسها ما جادت به قريحة (ابن الكرخ) مستعيرةً رثائيته عن (الحزن ورائحته الرخيصة): «المشربُ ليس بعيداً، ما جدوى ذاكَ؟ أنتَ كما الإسفنجةِ تمتص الحانات ولا تسكر»!.

(دمشق)

الغربة الأبدية/ لؤي ماجد سليمان

دونكيشوت سيفه الشعر، مظفر النواب عروبي، فلسطين في قلب رؤيته، انتشرت أشعاره بالسماع من الأشرطة المسجلة، أما عنفه اللغوي وشتائمه فكانت تجاري المزاج الشعبي

(سندباد العراق) طاف العالم على بساط الشِّعر، زاده مواقف رافضة وحنين، دونكيشوت يرحل ويحارب بسيف الشعر، مواجهاً الاغتراب وأجهزة الديكتاتوريات العربية التي كممت أفواه الشعوب، فلم تسانده إلا لغته الثورية وتراكيبه الفنية العالية النبرة، والتحدي في عصر أهم سماته السكوت والرضوخ للواقع ولأنظمة كان ومايزال عدوّها الأول هو الكلمة. لم يكن شِّعر (النواب) يوما قضية فردية ينشد من خلالها معاداة نظام بعينه، إذ كان هدفه تغيير واقع سائد في العالم العربي عموماً، فشاعر الحب لا الشتيمة كما حاول البعض نعته «علّمه وطنه أن التاريخ البشري بدون الحب عويل ونكاح في الصحراء».

وقوفه ضد النظام الرسمي سواء في بلده أو بلاد العرب الواسعة وما عاناه من سجن واضطهاد لم يغير قناعاته، فرفض التهاني بسقوط الديكتاتور الذي تلازم باحتلال وطنه، خلافاً لما نشاهده اليوم من مثقفين وفنانين ونخب تدعو لاحتلال أوطانها.

لم يكن انتماء النوّاب ووفاؤه للعراق تعصباً، فالعراق من وجهة نظره جزء من الوطن الكبير الذي عاش وعاصر أمراضه، وقد هاجم دعاة القطرية ورفض الإقليمية بأشكالها، ولعل قصيدته: «القدس عروس عروبتكم» الأشهر بين ما نظم وحفظت الأجيال لم يروها إلا كمواطنٍ فلسطيني أراد أن ينفجر في وجه قادة وحكام يتزينون بالقضية بالقول، ويتعامون عنها بالفعل، لذلك لم يقتصر ارتباطه بفلسطين كقضية كبرى على مناسبة أو موضوع، بل كانت همّه الأول، وهناك الكثير من نتاجه الذي تمحور حول فلسطين من مثل قصائده: «تل الزعتر، قل هي البندقية أنت، يا قاتلتي، وأنت المحال، يوميات عروس الانتفاضة» وغيرها من القصائد التي أسكنها الخيمة والمخيم.

وقف (النوّاب) ضد الرئيس العراقي في حربه مع إيران قائلاً: «وضع الحرب في غير مكان الحرب، بوصلة مشبوهة هذه التي لا تشير إلى القدس». نعم حمل قضيته العراقية لكنه لم يتركها تطغى على القضايا المصيرية، فأرّخ بالشعر الحوادث القومية، ومجّد شخصية الفدائي وتحدى من يرفع عينيه أمام حذائه، وقف مع فدائي البقاع، وبرّأ الذي يحمل البندقية ليقاتل فيها عدو الوطن ويدافع فيها عن أرضه.

القرآن والشعر

لم يخفَ الجانب الديني وتأثير القرآن في لغة صاحب «الخوازيق» باعتبارها علامة مركزية في لغة النص (النوابي)، فاستخدم المصطلح، وفي أحيان كثيرة اللفظة ذاتها؛ وأحياناً لبث روح الحماسة «إيمانك والقرآن والوحدة» وفي أماكن نجده يستدعي أسماء السور كـ(سورة الضحى) أو (آية الكرسي) كما وظّف الشاعر العراقي القصص القرآنية في القصيدة من مثل: «جاء جند سليمان، أيها النمل فادخلوا لمساكنكم» واقتبس من الآيات لصالح الفكرة: «أين وعد الذين استضعفوا في الأرض؟» غير أن الصوفية التي اتسم بها شعره كانت علامة فارقة في سرده ونبرته الهادرة، فتصوفه وبحثه عن عالم نقي روحاني كانا – برأيي – نتيجة للحزن والغربة والألم، مثلما هو نتاج أوضاع اجتماعية وسياسية سيئة أو واقع مادي رديء عاشه الشاعر.

ولا شك أن في حياة (النوّاب) ومسيرته الشعرية اجتمعت كل هذه الأسباب، فهو الباحث دوماً عن المستضعفين والفقراء والحرية والثورة؛ أما أهم ملامح التصوف فقد جسدها هذا الشاعر في قصائده من خلال التزامه: «وهذا لمن يدرك الباطنية في العشق بعض انتمائي، أنا أنتمي للجموع التي رفعت قهرها هرماً». إذاً هو يرى الالتزام الثوري مع الفقراء خروجاً حقيقياً من الناسوت إلى اللاهوت، فالعودة إلى الإنسان وحمل السيف مع الفقراء هو الله جميعاً كما هو وارد في الكثير من الألفاظ والإشارات الصوفية في قصائده.

شاعر الشتيمة

كثير من النقاد حاولوا زعزعة مكانته الشعرية من خلال نعته بشاعر الشتيمة والألفاظ البذيئة وغير ذلك، علماً أن (النوّاب) لم يستخدم هذه الألفاظ إلا للنيل من الأنظمة، موظفاً إياها في لغة تهكمية وقد برر ذلك بأننا نعيش البذاءة بآلاف الأشكال والألوان، والتردي يحيط بنا: «هل مطلوب من الشاعر أن يختار الألفاظ المنمقة والتعابير اللطيفة حتى لا يخدش حياء من يحزه من الوريد؟» رافضاً اللجوء إلى معجم الأخلاق في زمن لا يرى فيه من الأخلاق شيئاً؟

إن استخدام (النوّاب) لألفاظ لاذعة ومفردات مختلفة كانت دلالاتها في معظمها دلالات جنسية على نحو: «النطفة، الأست، البغي، اللواط، الخصية» لكنه استطاع توظيفها في السياق وتطويعها لصالح قصائده المتمردة، فكانت عالية النبرة بالنسبة لمن كان المقصود بها من الحكام العرب، بينما كانت تثلج صدر الجماهير التي تغنت بها وحفظتها عن ظهر قلب، ومن الخطأ أن نعتبرها كما اعتبرها عبد اللطيف عقل: «تدغدغ غرائز الجماهير» فالجماهير تتغنى بها وترددها لأنها تريد شتيمة سلطات شكّلت لديها حالة رعب وعوز، وهي تستخدم هذه الشتائم في سرها لكنها لا تتجرأ على الجهر بها؛ فالكلمات التي استخدمها (النواب) في شعره لم تكن مرادفات جنسية جمالية حتى تكون غرائزية.

إن التهميش الذي ناله النواب من النقاد والبحوث التي شرحت الشعر المعاصر كان سببه الخوف من الأنظمة، ومن المعروف أن كُتب (النوّاب) وأشعاره كانت ممنوعة في معظم الدول العربية بل ممنوع تداولها أيضاً، لا سيما أنه هجا الملوك والحكام بأسمائهم أو مشيراً إلى بلادهم وعواصمهم؛ الأمر الذي لم يتجرأ عليه أحد غيره، ولا يغيب عن بالنا تبرير (النوّاب) شتائمه المتكررة إذ قال: «أعتقد بأن الحكام العرب هم شتيمة أكبر من أي شتيمة، لقد شتمونا بكل تصرفاتهم»! فقوله هذا يدل على أن الشتائم التي استخدمها لم تكن ناتجة عن ردات فعل غير مدروسة نتيجة مواقف فردية تخص الشاعر، بل بسبب سياسات وقضايا مصيرية لا زالت الشعوب تعاني منها حتى هذه اللحظة.

الكتاب المسموع

أول قراءة شعرية لصاحب «عبد الله الإرهابي» كانت سماعية بالعامية العراقية، لا أنكر أني لم أفهم الكثير من الألفاظ التي وردت في هذه القصيدة، لكن كنت مصرا على نسخ شريط الكاسيت لمعاودة الاستماع وتفسير معاني بعض الكلمات عن طريق أصدقاء عراقيين في دمشق، أما حرف القاف الذي كنت اسمعه «كاف» اعتدت عليه ولا يمكن أن تستبدله أو ترده إلى أصله لأن ذلك يضعف جمال القصيدة.

لقد حقق (النواب) عبر الكتاب الصوتي الشهرة والانتشار والوصول للعامة والنخبة، فمن خلال عدة عوامل استطاع الشاعر الوصول إلى كافة الشرائح، والعامل الأول في ذلك كان الجرأة على السلطات؛ فشعره حاكى أوجاع الشعوب وهمومها وهواجسها، بالمعنى الأصح؛ وعبّر عما عجزت أن تعبّر عنه وبينما هو يؤرق وجدانها، ربما لعجز هذه الجماهير عن التعبير نتيجة الخوف من البطش أو لانعدام وسيلة أو طريقة للتعبير وبث همومها. أما العامل الثاني فكان في استخدام (النوّاب) اللغة العامية والفصيحة معاً في نصوصه؛ مما جعل شعره في متناول الجميع. العامل الثالث كان برأيي هو (شريط الكاسيت) الذي عبرت قصائد الشاعر من خلاله إلى خارج المكان؛ الأمر الذي لم يستطع تحقيقه الكتاب مع أشكال الرقابات التي فرضت عليه ومن بينها دخول المدن في زمن لم تنعم حركة النشر العربية بمزايا الثورة الالكترونية، إضافة إلى أن الطباعة في الصحف اليومية والثقافية ممنوعة نتيجة هيمنة الأنظمة ورؤوس الأموال عليها.

غير أن «الأوديو» استطاع الوصول حتى إلى سواد الناس ممن لا يحسن القراءة أو الكتابة، إضافة للمهتمين في الشعر ولا يملكون الوقت أو الطاقة لفعل القراءة، وإذا كان لملامسة الورق نشوة خاصة، فللاستماع حس خاص ونشوة تدغدغ الضمير؛ خاصة في أسلوبية (النوّاب) ولهجته المشبعة بالشجن، حيث يمكن خلق حس جماعي لمجموعة أكبر من قراءة كتاب شعري بشكل منفرد، فالملف الصوتي هو أمسية شعرية تخيلية، ومع التطور التكنولوجي بات بالإمكان سماع الشعر في أي وقت وأي مكان.

لا يمكن فهم (مظفّر) الإنسان، الرسام، والشاعر إلا من خلال النص الشعري العامي الشعبي، والنص الفصيح المصقول الألفاظ، ومستوياته اللغوية التي عكست علاقته بالخارج والمتغيرات من جهة، وارتباطه بتراثه الثقافي من جهة ثانية، فهو السياسي، الثائر، الرافض، النزق، الصوفي، الرسام، بركان لا يخمد حتى نجده ينفجر بعفوية وصدق، هو الإنسان المصاب بداء الحنين وداء الغربة الأبدية، المنفي الذي قضى حياته يبحث عن وطن له ووطن لوطنه: «نحن الاثنان بلا وطن يا وطني» شاعر إشكالي عناصره الوجد، الليل، الجوع، التمرد، الغربة والحزن الذي كانت النصوص مفعمة به، حتى في حالات الفرح الطارئ، المؤقت: «مو حزن لكن حزين».

(كاتب سوري)

ربابة الحزن… وصنّاجة الثورة/ طلال سلمان

كان اللقاء الأول مع مظفر النواب، قصيراً، ومن غير موعد، وضمن مجموعة من المثقفين والفضوليين وأبناء السبيل ممن سبقوني إلى معرفته وربما إلى صداقته.

كنت أحفظ له بعض شعره الذي لا يكتمل، مبنى ومعنى، إلا إذا سمعته منه، بالنبرة العراقية التي تأخذك إلى البكاء مع «الريل» وهو يمخر الليالي الحزينة لأرض الرافدين التي غادرها الفرح منذ قرون.

أما معرفتي به كاملاً فلم تتيسَّر إلا في طرابلس ـ ليبيا: هناك عرفت الشاعر فيه عن قرب، قرأت بعض مسودات قصائده على أوراق الوحدة، حتى لا أقول الغربة، والأخطر أنني سمعت شعره بصوته الذي يأتي من البكاء ويأخذك إليه… فالسياسة العربية تجافي الفرح وتطرده من أي مجلس، والحديث فيها يُشعرك بامتهان كرامتك، فضلاً عن عقلك ومشاعرك كإنسان له الحق في أن يحلم ويغني ويفرح حتى الرقص.

مع كل رحلة إلى طرابلس كان بين ما يشجعني ان يلوح طيفه واحتمال أن نلتقي فنسهر معاً، ونتسامر، وننتشي ببكائياته التي لم تعد تخصّ العراق وحده وتشير إليه، بل باتت «ديوان العرب» في مشرقهم كما في المغرب…

ولقد سهرنا ليالي طويلة عند أصدقاء أعزاء، صادقي العروبة في سمرة وجوههم وقلوبهم البيضاء وإيمانهم بأمتهم، بعيداً عن الأنظمة وخطب النفاق.

كنا نحضر لكل سهرة كالذاهب إلى احتفال. وكنا نعرف أن مظفر سيحملنا على أطراف صوته إلى قلب الحزن الذي اتخذه وطناً يغني له بكائيات تشفّ معها روحه، ويكتسب وجهه بهاء مشعاً، وتنفر عروق رقبته فتمتدّ مع صوته إلى أرض السواد، حيث يجري «الريل» بين الفلاحين الذين يطربون لصوت صفارته التي تربطهم بالدنيا البعيدة التي عمّروها ذات يوم.

على أن الحزن كان يتجاوز البكائيات إلى الدعوة إلى تدمير أنظمة الظلم والهزيمة، وإلى التمرد على السفاحين قتلة الأحلام والطريق إلى الغد الأفضل..

كان مظفر يعيش وحيداً في بيته، لأنه يكره الفنادق التي تعمق شعوره بغربته أو بمنفاه، فمهما كثر الأصدقاء يظل الوطن بعيداً، ويتحول الأهل إلى أطياف تأتيه غالباً في الليل فتؤنس وحدته.

ولقد تجولنا مع مظفر في بعض جهات ليبيا، لا سيما القريبة من طرابلس… ولاحظت أن البربر في زليطن يحتفون بالشاعر العراقي الطريد ويجتمعون لسماع شعره الذي يقدّم حكام العرب في صورتهم الأصلية، ويعدّد إنجازاتهم الخرافية بأسلوبه الكاريكاتوري الذي يأخذ إلى نوبات ضحك تنتهي بالبكاء: لقد فهموه حتى النشوة والرقص حزناً.

لم نسمع من مظفر شعراً في الغزل، وإن كانت صباياه تختال بين أبيات القصيدة ثم تخلي مكانها لحكام الطغيان الذين أهانوا إنسانيتنا وكادوا يختصرون أوطاننا في أشخاصهم وهم يسوقون شعوبهم من هزيمة إلى أخرى ويكذبون عليهم ويعبرون عن احتقارهم لهم والهزء من عقولهم.

حيثما وُجد مظفر النواب حضرت الثورة في غلالة الحزن والخيبة، وحضر التحريض ثأراً لكرامة هذا الإنسان العربي المقهور بحكامه أكثر من قهره بتخلّفه المتراكم بمدى أجيال، والذين اغتالوا أحلامه فضلاً عن حقوقه، وحقروا عقله وإيمانه بأرضه وإنسانيته جميعاً.

غنّى مظفر النواب لفلسطين التي صارت عنواناً لهزيمة العرب بخيانة حكامهم وهربهم من أعبائها الثقيلة، بل وانحياز بعضهم فعلياً إلى العدو الإسرائيلي، في حين ينحاز إليه الآخرون بقهر شعوبهم واغتيال إرادتهم.

..وغنى للثورة والثوار، ولكنه لم يمتدح حاكماً ولم يغنِّ لأمير نفط.

كان جمهوره دائماً من أهل الأرض المجبولة أياديهم بطينها، والمستمدّين حماستهم وعشقهم الحياة منها.

كان يحنّ إلى دمشق، وتطربه بيروت، أما حنينه فلبغداد دائماً، بل للعراق كله شمالاً وشرقاً وغرباً ووسطاً، وإن ظل «الريل» الذي كان يأخذه إلى مهبط رأسه، ويُخرج العذارى من خدورهن وقد غطّين وجوههنّ بطرف المنديل بينما تبقى العينان تشعّان بحب الحياة، فإذا ما غمضتا فعلى طيف الحبيب.

الشاعر أعظم من المناضل في مظفر، الذي طالما بكى فأبكانا، وطالما هاج مع بعض شعره فأهاجنا ونصب أمامنا تقصيرنا عن تغيير الواقع الذي يلتهم كرامتنا ويسجن أطفالنا منذ لحظة الميلاد.

ولأنه أَنوفٌ وفائق الحساسية فقد كان يتجنب أن يبدو كمن يفرض نفسه على أصدقائه، حتى القريبين منه.

ولقد كان حريصاً على استقلاليته. لا يمدّ يده، ولا يجامل في شعره. وبرغم إعجابه بالمتنبي وقلة من شعراء أيام العز، وحين كانت بغداد عاصمة الكون، فإنه لم يحاول تقليد أحد منهم.. وكان شعره مفرداً.

قبل زمن عرفت أن مظفر النواب في بيروت، وأنه يمر بأزمة صحية قاسية. ولقد ذهبت إليه في المستشفى لأطمئن عليه. قال لي: لا تخَفْ! لن أموت، هي أزمة وتمرّ.

كان منهكاً، وقد فقد صوته، فصارت كلماته أقربَ إلى الهمس..

بعد بيروت عاد إلى دمشق التي يعشق، فلما ضاقت عليه استدعاه بعض أصدقائه إلى الشارقة، حيث تابع العلاج… ولكنه كان يريد أن يرقد في قلب هذه المدينة ـ الغانية ـ متعدّدة الوجه، كثيرة اللغات، لكنها تفتن الشاعر بحيويتها وضروب الجمال فيها.

مظفر النواب أعطى كثيراً ولما يُكمل ديوانَه.

إنه ربابة الحزن، وحادي الثورة التي انتظرها في قلب الخيبات وانتظرناها معه، وغنّى لها القصيدة والجبوري والحداء والغزل حتى ذهب صوته وبقي ينتظرها رافضاً اليأس والاستسلام.

مظفر النواب شاعر الفرح الذي غلبه الحزن العراقي الذي تمدّد حتى أغرق الأمة جميعاً، وها هو يفرض عليه الصمت وإن ظل «الريل» يخطر أمامه بامتداد السهول بين بغداد والبصرة، عبر النجف، حيث له في كل شبر مَن ينتظر عبوره ليحييه.

والرحلة في قلب الحزن طويلة وشجية ومغزولة بدم القصيدة.

البدوي الذي لا ينسى “سالفته”/ لينا هويان الحسن

مظفر النواب الذي تحدر من عائلة حكمت ولاية في الهند واضطرها الاستعمار البريطاني للعودة إلى العراق حيث تفجرت ثورته، فالبدوي لا ينسى سالفته

«البدوي ما ينسى سالفته»، ومظفر النواب «بدويٌ» في هذا المعنى. بدأ منطلقاً من منصة الحزن العراقي والشجن البدوي. دخلت مفردات الحياة البدوية مثل «دق قهوة، ريحة هيل..» في أجمل قصائده «الريل وحمد»، هذه القصيدة التي جعلت سعدي يوسف يقول: «أضع جبين شعري على أعتاب الريل وحمد»، القصيدة التي اشتهرت شعبيا وغناها المطربون المحليون الشعبيون قبل أن يغنيها الكبار، بذلك دمر مظفر النواب اطمئنان الشعر الفصيح، وأربك تعاليه وهز شموخه.

جولة صغيرة عبر غوغل كفيلة بإطلاعنا على الخطوط العريضة لحياة مظفر النواب، حيث نقرأ أسماء أماكن متفرقة عاش بها أو زارها ومكث بها بعض الوقت، لكن كان لمدينة دمشق الحصة الأكبر.

خلال بحثي عنه وعن عائلته تحديدا في «غوغل» لم أعثرعلى ما قرأته ذات مرة عن عائلته في كتاب للرحالة والمستشرقة الانكليزية الليدي آن بلنت وزوجها الكابتن ولفرد سكاون بلنت، وذلك خلال رحلتهما الشهيرة إلى بدو الجزيرة الفراتية ومن هناك أكملا طريقهما الى بغداد بذريعة شراء الخيول الأصيلة من العشائر، وخلال الرحلة نقرأ فصلا كاملا عن قصر عائلة النواب العائدة حديثا من الهند وعن نظافة القصر والخدم والمفروشات الفاخرة والأبناء المهذبين وبالتأكيد أن أحد اولئك الابناء الصغار أب لمظفر أو ربما جدّ، لأن الرحلة التي قامت بها الليدي آن بلنت كانت في عام 1877-1880 وتحدثت بالتفصيل عن تلك العائلة وعن الهدايا التي قدمها لها سيد القصر من بستانه المزروع بكل أصناف الفاكهة. غلب على عائلة مظفر لقب «النواب» الذي جاء من «النيابة» أي النائب عن الحاكم، إذ هاجرت عائلة جده إلى الهند أيام حكم العثمانيين للعراق، وهناك نجح جده بحكم إحدى الولايات الهندية، لكن العائلة عادت إلى العراق (موطنها الأصلي) بضغط من سلطات الاحتلال الإنكليزي بالهند بسبب مقاومتها للاحتلال. ويبدو أن الليدي بلنت قابلت العائلة بعيد عودتها من الهند بقليل.

أحرج صدام

للشعراء، آلهتهم، أسرارهم، جنونهم، نبوءاتهم، ومظفر النواب رشقنا بتلك النبوءة الفظيعة وقال لنا ذات يوم في مجموعته «وتريات ليلية»: «سيكون خراباً.. سيكون خرابا.. سيكون خرابا.. هذي الأمة لا بد لها أن تأخذ درسا في التخريب».

حلّ الخراب وبوحشــية لم تتوقعـها أي قصيدة عربية.

لا تتسع صفحات جريدة للكتابة عن شاعر بحجم مظفر النواب، لكن لا يسعنا كتابة شيء عنه دون ذكر عفة نفسه الكبيرة ورفضه لأية مكرمة مالية من أي حاكم عربي، وظل يعيش من المال القليل الذي يمكن أن يكون بحوزته. كان دائما الشاعر الذي ينشد حريته أينما كانت.

شهير ذلك اللقاء بينه وبين صدام حسين وقد عرض عليه مسدساً كهدية فاعتذر مظفر عن عدم قبولها، فلمّح صدام إلى ميلِه للكفاح المسلّح، وبضرورة قبولها كدلالة على صفاء النيات! لكن مظفر أدار الحديث صوب مطلبه المتواضع الذي هو أبسط حقوقه كإنسان، أراد إصدار جواز سفر، فتعلّل صدام حسين بأن إصداره يحتاج إلى صور وبعض الإجراءات، فما كان من مظفر إلا أن أخرج من حقيبته صورتين فوتوغرافيتين، أحرج صدام الذي اضطر إلى إصدار جواز السفر بالفعل. عندها هرع مظفر إلى منزلهم بالكاظمية ليغادر العراق على وجه السرعة متجهاً إلى بيروت عن طريق مطار بغداد الدولي. هو الذي حفر ذات يوم نفقاً في أرض زنزانته بعدما سلمه الايرانيون للمخابرات العراقية وذلك خلال تسلله محاولا الوصول إلى روسيا. هكذا هو قدر الشعراء الحقيقيين: الهروب صوب جغرافيا تسودها الحرية وما أصعب هذه «الحرية» على أرض عربية. لم يتغير شيء يا شاعرنا الكبير، جميعنا هاربون، منفيون، في هذا الزمن البذيء.

(كاتبة سورية)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى