صفحات الثقافة

ملف السفير عن نبيل المالح

 

 

المعلِّم/ سامر محمد اسماعيل

ماذا تفعل السينما في بلد تلفزيوني بجدارة؟ وكيف لها أن تتخلص من هذه الشبهة وبعض سينمائييها نظّروا لـ”تلفزيون بشروط سينمائية”؟ بل ذهب بعضهم إلى ممالئة عجيبةٍ غريبةٍ من نوعها لما يسمى في بلادهم بـ”الدراما السورية” الظاهرة التلفزيونية التي قضت أيما قضاء على أي أملٍ يرتجى في إنقاذ الحساسية السينمائية من غول اسمه التلفزيون سلب من السينما تعاليمها؛ مُقارباً إياها حسب مزاج السوق وبكل ما يسهم في تسطيح الدماغ الجماعي لجمهور “المواسم الرمضانية”؟ هكذا سنفاجأ بالهوة التي تركها التلفزيون مع جمهور السينما حين نعيد قراءة تجربة استثنائية كتجربة نبيل المالح التي لم تنصع في معظم أفلامها لذائقة نسخ الواقع تلفزيونياً؛ بغية الإثراء السريع من أموال المحطات العربية التي تموّل بسخاء مسلسلات سوّغ لها وقدمها وساهم في صياغتها مخرجون سينمائيون من زملاء المالح وتلامذته، وماذا يفعل فيلم “الفهدـ1972” أو فيلم “بقايا صورـ 1980ـ إنتاج المؤسسة العامة للسينما” في مواجهة صادمة ومؤلمة مع حشود التلفزيونيين السوريين الذين تآمروا على سينما بلادهم، معتبرين أن زوايا التصوير وإدارة الممثلين وصياغة الحوار عناصر كافية لتبرئتهم؛ بل ويمكن استعارتها من السينما لمصلحة “تلفزيون سينمائي”؟! أصلاً ما الذي يحدث في هذا الروائي التلفزيوني المطوّل؟ لا شيء، لا شيء على الإطلاق سوى رفاهية عابرة تدمج فترات إعلانية بسيَر شعراء ومطربين وشخصيات مافيا المال الريعي وبيت العود والعنبر!. وما الذي يمكن مقاربته في غرف الجلوس التي حلت محل صالات السينما في بلد مثل سوريا؟.

هذا التلفزيوني الذي أكل الأخضر واليابس في وعي جمهور صعد من الثمانينيات نحو التسعينيات مأخوذاً بأفلام نبيل المالح وسمير ذكرى ومحمد ملص وأسامة محمد؛ هاهو يعلن نهايته الدرامية المفجعة في لحظة سينمائية أرادها نبيل المالح صاعقة ومفارقة بين كتابة سينمائية وأخرى تلفزيونية تمسّحت بالسينما وسرقت كحل عيونها لمصلحة تشريفات التلفزيون ووقاحته وسعة نفوذ مشاهدته “تجربة هيثم حقي مثالاً وكتابه عن السينما والتلفزيون” هذه اللحظة السينمائية كانت ذروتها في فيلم “كومبارس ـ 1993ـ المؤسسة العامة للسينما” حيث نعثر بقوة على الشريط ـ الوثيقة الذي فرد فيه المالح ـ وإن كان الأخير ليس بريئاً من شبهة التلفزيوني ـ مسلسل أسمهان مثلاً ـ وأفلام تجارية على نحو “غوار جيمس بوندـ1973” فرد شخصية السينما وطلاقة أدواتها في تسجيل حافة من حواف الماغما الاجتماعية وتفاعلاتها الخطيرة المشطوبة من حسابات الكثيرين من سينمائيي ومسرحيي وروائيي سوريا؛ فإذا كان فيلم “بقايا صورـ1980” المأخوذ عن رواية حنا مينة هو فاتحة الهطول لإنعاش ذاكرة السوريين عن أواخر عشرينيات القرن الفائت؛ وما لف هذه المرحلة من غموض في الهوية الوطنية، وما اكتنفها من صراع طبقي مرير؛ فإن فيلم “الفهد” المأخوذ عن رواية لحيدر حيدر هو بكل قوة وثيقة إنسانية بالغة الثراء والمصداقية عن حراك اجتماعي سياسي لفرد وحيد أوحد يواجه السلطة أعزل ومعدوماً ومحاصراً بوجوه بني جلدته الذين أحالهم القهر والحرمان والظلم إلى مجاميع خرافية من صور الانصياع والطاعة والامتثال للأوامر؛ صورة كان السوريون سيخسرون كثيراً لو لم يمضِ صاحب “عالشام عالشام” إلى صياغتها في هذا الشريط الذي تتماهى فيه المسحة الوثائقية للشخصيات مع الروائية الصادمة لمصرع “بو علي شاهين” البطل الشعبي الذي يمضي إلى منصة إعدامه وكأنه شعب كامل من الفقراء والمستضعفين، وبتجسيد عالي المستوى لفنان من قامة أديب قدورة؛ الممثل الذي اكتشفه نبيل المالح بعد ظهوره على خشبة “مسرح الشعب” بحلب؛ موظفاً وجهه وصوته الأسطوريين مع “وحدو شرد بالليل” الأغنية التي كتبها ممدوح عدوان كنهاية لـ”فهد” مكبل بسلاسله؛ وبوجوه من دافع عنهم وهم صامتون يشاهدون مصرعه أمام أعينهم ولا يحركون ساكناً. إنه تاريخ الآباء والأجداد؛ تاريخ البلاد المعاصر الذي لولا أفلام المالح وزملائه لعاد السوريون، بل والعالم بأسره إلى مسلسلات الفنتازيا كي يستقرئوه! كون السلطة العربية لا تريد ولا ترغب بأية وثيقة تدينها وتدحض روايتها الرسمية عن شعبٍ أعزل تم تفخيخه تلفزيونياً؛ ليبقى معتقلاً في منازله وغرف نومه؛ ولهذا يمكننا ملاحظة مشهد البطل السينمائي الذي يحطم جهاز التلفاز في نهاية فيلم “سلّم إلى دمشق” لمحمد ملص تعبيراً صادقاً عن الرغبة الجماعية في الخروج من المنزل؛ قد يضعنا هذا الطرح في مفارقة أليمة عندما نتذكر مشهد “التلفاز” في فيلم “صندوق الدنيا” لأسامة محمد، لكنه في السياق الذي أراده صاحب “نجوم النهار” يبدو غنياً عن التعريف، ثم إن “كومبارس” رائعة نبيل المالح تصر على البقاء في منزل من منازل دمشق، إذ تحدث قصة الفيلم كما يعرف الجميع داخل جدران شقة بين أرملة وشاب يعمل كومبارساً في مسرحيات قومية، يعيش ويموت ويتظاهر بالموت هاتفاً في التظاهرات بأمر من “المخرج”، مفارقة تتركنا أمام حميمية لا تقاوم عن قصص مأساوية تجري في منازل المدينة كلٌ على حدة؛ حيث يلتبس الواقع السياسي مع صورة إنسان يحتلم تحت سرير فوق جسد رفيقته الخائفة؛ الخوف؛ أجل الخوف.. ولماذا نبحث عن مفردةٍ أُخرى هنا، ففيلم “كومبارس” هو شريط عن الخوف الممزوج بالشهوة والمطعّم بأقسى حالات الموت عزلةً ورهبة؛ الخوف الذي يضرب شخصيتي الفيلم التي جسدها كل من بسام كوسا وسمر سامي بأقصى حساسية يمكن ارتكابها أمام كاميرا طبيعية لا تتلصص بقدر ما تراقب وتتابع وتقتفي آثار جسدين مرتعشين في عراء مدينة عنيفة كدمشق؛ مدينة يحدث فيها الموت العاطفي والجنسي منعزلاً على سرير كراهية واحد، سرير الرغبة والكبت المستتر والمحروس جيداً بأجهزة القمع الساهرة على راحة بال الأكليروس الديني والسياسي والجنسي من أي خرق يمكن تحقيقه على مستوى اجتماعي إنساني. هذه هي اللحظة السينمائية التي نفت مقولة ماركيز أن “الحياة نوع من الأدب الرديء” ومع أن الحياة كذلك؛ إلا أن “كومبارس” ليس الواقع كما يبدو في الفيلم وإن طابقه فنياً؛ بل هو مقطع عرضي من الحياة، مثله مثل أي فيلم يستعير الزمن الواقعي لشريط ينبش بقوة في المخبوء والمسكوت عنه داخل مدينة محجّبة، لكنها تغلي من الداخل؛ تفور وتمور تحت سريرها الحديدي؛ فهاهي الدراما التلفزيونية وجهاً لوجه مع السينما في “كومبارس” وهاهي الحشود التاريخية في “الفهد” تتمخض عن شخصيتين سجينتين في منزل دمشقي محاصر؛ رجل وامرأة لا يدينهما إلا طبيعتهما البيولوجية؛ فلقد أدرك نبيل المالح بعد لأيٍ طويل أن السينما التي يريد أن يحققها ليست فيلمه “السيد التقدمي” الذي تعرض فيه لملف الفساد في صراع بين شخصيتي برجوازي وصحافي، ولا هو “الكريستال المقدس” الفيلم الديكوـ درامي ـ إنتاج الهيئة السورية لشؤون الأسرة” والذي انصاع فيه المالح لبروباغاندا سخيفة مثل “تعايش الطوائف في سوريا” بل هو هذا المزج الحاذق بين الفردي والجماعي حين تصير الكاميرا مِبضعاً لجس أورام اجتماعية تحت جلد الكارثة؛ تلك المهارة التي وصفه بها محمد ملص رفيق عمره عندما أطلق على المالح لقب “المعلم”. فعلاً نبيل المالح هو المعلم، وهو الذي استطاع أن يؤسس للخط الوطني في سينما بلاده؛ فضربة المعلم بألف كما يقال في الشامية الدارجة؛ لكن هل يقدم هذا المعلم “ضربة جديدة بألف” بعد موت “فيديو كليب” مشروعه الذي تحدث عنه لسنوات باحثاً له عن تمويل لكن دون ما جدوى؟ أم هو “الوشم السابع” فيلمه الذي ينوي تحقيقه حالياً عن المأساة السورية؟ بين هذا وذاك لا بد أن نخاف على هذا المالح من خيارات فنية ربما لن تسعفه في إنجاز أفلام كالتي حققها مع مؤسسة السينما، وربما تضعه مجدداً تحت يافطة البروباغاندا السياسية التي ساهم فيها أيضاً عبر فيلمه الذي صوّره عن صلاح الدين الأيوبي لعرض راقص من عروض فرقة إنانا للمسرح الاستعراضي؛ وهو كما يعرف المالح شخصياً لا يليق بقامة سينمائية لها مريدوها ليس في بلاده وحسب، بل في العالم كله؛ إذ لا يخفى عن أحد أن أفلام هذا المبدع الخاص تدرّس في أكاديميات ومعاهد السينما الدولية، مثلما لن يخفى على حنكة ودهاء صاحب “إكليل الشوك” تلك الصفعة التي سددها من خلال أفلامه لكل أنصار الدراما التلفزيونية التي ما زلت تحتاج إلى من يشكمَ فجورها وهيمنتها على المخيلة السورية السليبة.

 

فهد السينما/ لؤي ماجد سلمان

يعتبر نبيل المالح من أوائل من اقتحموا عذرية المكان بعدسة الكاميرا، ليحقق معادلة الإبداع من خلال أسلوب جديد اعتمد على التجريب لا الاستنساخ، هذا ما يلاحظ بعد تقديمه لفيلمه “إكليل الشوك” حين شاع مصطلح “السينما العربية البديلة” بعد محاولة المالح إبراز البيئة في أغلب أعماله مانحاً البطولة للمكان، مسخّراً الطبيعة والجغرافيا لمصلحته، فالمكان عنصر رئيس، ليس مجرد فضاء ثانوي بالنسبة له، ويجب التعامل معه كمعادل درامي يحمل بنية العلاقات الاجتماعية والإنسانية والفكرية كما شاهدنا في أفلامه “رجال تحت الشمس ـ الفهد ـ بقايا صور” حتى أنه في الأخير تعامل مع بيئات مختلفة عن بعضها، حيث كانت البيئة الساحلية حاضرة من خلال المدينة، والبيئة الجبلية في القرية، والسهل المكان المنبسط أيضاً، مع حرصه على الفصل بين العناصر المختلفة بشكل دقيق، إذ لم تكن الصورة الدرامية عند المالح مسبقة الصنع أو ملونة، ولم يحشر أعماله في استوديوهات تقليدية بعيدة عن الواقع اليومي للحياة المعاشة والتي يفترض أن تكون مرآة المتلقي، بل كانت صورة تعبيرية متجددة، مليئة بالبلاغة البصرية. غير أن ما يميز أعمال “المالح” العلاقة البانورامية بما يتعلق بالإنسان، الأرض، الاحتلال، الظلم، الاضطهاد، الانتماء، أشكال القمع، عوالم الإنسان الداخلية، العشق، الكره، الرفض الذي وصل إلى حد مقارعة السلطة العربية الحاكمة التي كان تناولها نوعا من المحرّمات في تلك الحقبة، إذ لم تعتد السينما العربية وقتها إلا السماح برفض ومقاومة المستعمر والمحتل الفرنسي، العثماني وغيره، حتى أن هذا المخرج السوري وبعد إعداد سيناريو فيلم “الفهد” لم يتمكن من بدء التصوير بسبب قرار المنع الصادر آنذاك من وزارة الداخلية السورية عام 1969 لكنه استطاع إنجاز العمل بعد التغير السياسي في سورية، وهذه التجربة التي بشّرت بسلطة جديدة تؤمن بالسينما كوسيلة تنوير ثقافية، وكان لها الفضل مناصفةً مع أسرة الفيلم في ولادة الشريط، وانطلاق السينما السورية، وإعادة “المالح” إلى الإبداع داخل الوطن بعد أن كان لا يتمتع إلا بالاعتقال وسحب الجنسية قبل وأثناء وبعد مرحلة الوحدة مع مصر.

صورة مركبة

لقد حرص “المالح” في أعماله على تبني البطل الشعبي بلغة فكرية مبسّطة، استطاع من خلالها الوصول إلى الجمهور بغض النظر عن ثقافته ومعرفته، فكانت شخصية البطل الثائر، المخلّص، والمضطهد الذي أدرك أن السلطة الإقطاعية ما هي إلا امتداد للسلطة الاستعمارية. إضافة لتطرقه إلى الواقع العربي في “رجال تحت الشمس” ومعاناة الشعب الفلسطيني، منطلقاً إلى العالمية والقضية الفيتنامية في فيلمه “النابالم ـ 1970” كما أثار قضايا العامل في الفيلم الوثائقي القصير “الصخور” وموضوع العيش الإنساني بين الطوائف داخل سورية “الكريستال المقدس” حيث مزج المالح بين المادة التسجيلية والإطار الروائي في ثلاثين دقيقة عرضا. أما في “الكومبارس” فدخل المالح إلى عمق الحريات الإنسانية والمشاعر المرتبطة بالحب والرغبة بين أفراد المجتمع، وكيف تواجه هذه الرغبات الإنسانية بالخوف، القلق، العزلة الحاضرة معه رغما عنه، لا سيما أن المجتمعات العربية كانت تدين العلاقات بين الرجل والمرأة بشكل لا يقبل المساومة إلا على “سنة الله ورسوله”، إلا أن “المالح” أراد تصويب عدسته إلى أكثر من علاقة الأفراد والعشق والجنس والرغبة، والعلاقات الفردية، وقدم الصورة المركّبة الخالية من التعقيد، المليئة بالإشارات والرموز، مع حفاظه على القيمة البصرية المؤثرة وقدرتها التعبيرية، ولهذا ربما اعتُبر ” الكومبارس” فيلماً سياسياً بحتاً تحدث عن الغرف المغلقة، دون التطرق لأي عبارة إيديولوجية. أسلوب المالح طبعاً هو استهداف جمهور بعينه، وقدرته على مخاطبة ذلك الجمهور لدرجة استطاع فيها تفادي النقاد، ومخاطبة العالم الداخلي اللامرئي بانعكاساته المتناقضة ( القاتل والقتيل، الظالم والمظلوم، المنتصر والمهزوم) مركزاً على التحليل الموضوعي وعدم السقوط في فخ الأحكام التقييمية، محققاً شرط المشاهدة الموضوعية التي قد لا تروق للبعض، فهو يبحث عن القيمة بكثير من الحذر والدهاء بحيث يضمن ردود الفعل المختلفة، ولا يمكن وصف ما قدمه إلا بالتجربة الفارهة الذكاء، الثرية، المتعددة، خصوصا أن هناك تغيرات وتطورات في التقنيات المستخدمة “الصوت، الأشرطة الخام، المؤثرات وغير ذلك” إذ لا يمكن اعتبار فيلم “الفهد” بعد نصف قرن في عيون جمهور حديث فيلماً بدائياً، فالصورة التي نشاهدها ليست رؤية من خلال إطار وحيد، لا في الشكل ولا في الأسلوب. كما لا يمكن اعتبار الجزء الذي قدمه المالح ليشارك في تأسيس السينما السورية مجرد صناعة وبناء بصري فحسب، بل يمكن الجزم أنه أضفى شاعريته الخاصة على مفردات الصوت والصورة، بحيث جعل الجمهور يسهو أن هناك سردا وحكاية وسيناريو، فقد أعطت التوليفة المشهدية التعبير كاملاً للمشاهد، وما استمرار فوز فيلم “الفهد” بجوائز عالمية مختلفة بعد إنتاجه بعقود إلا دليل على الأدوات الفنية الدقيقة التي امتلكها المالح في تقديم سينما خالدة تنتمي إلى العالمية في مرحلة كانت السينما السورية بدائية، معادلة صعبة فشل في تحقيقها عدد من المخرجين في أعمال كثيرة ومتتالية أمام عيون النقاد. لكن هل من الممكن إهمال الجانب المتناقض في شخصية الطالب الذي ذهب لدراسة الفيزياء النووية وعاد مفعماً بالسينما؟ سواء على الصعيد الشخصي أو في ما قدمه عبر أفلامه، خصوصا أن صاحب “عالشام عالشام” أراد أن يخبرنا في “إكليل الشوك” أن البشر كمجموعات كبرى غير قادرة على تغيير التاريخ، بينما قُتل “أبو علي شاهين” بطل “الفهد” لأنه كان يناضل بشكل فردي، وعاد في “الكومبارس” عبر رجل وامرأة فقط ليدخل من خلال الفرد إلى المجتمع وعوالمه الداخلية، فالمرأة الأرملة في هذا الفيلم ورغم ادعائها أنها ثورية، تقدمية، إلا أنها لم تستطع التخلي عن العادات والتقاليد وشبح القبيلة الذي ظلل قيمها بالمتوارث والتي انعكست سلباً على علاقتها مع حبيبها المنتمي إلى طبقة المهمشين، الإنسان البسيط المعقد الذي يبدأ نهاره كومبارساً في محطة وقود، يمسح زجاج السيارات بصمت، وينهي نهاره على خشبة المسرح كومبارساً صامتاً؛ فكل ما يفعله هو التحرك بضع خطوات، حتى علاقته بالأرملة الحبيبة “ندا” لم تتعد دوره في وظيفة الكومبارس الذي يشبع رغباتها الحسية والجنسية، وحين التدقيق في عمق شخصيته نشاهد وجه الإنسان المهمش المنبوذ المحروم من الحب والرغبة المفعم بالتوتر والخوف من السلطة، بالطبع ما هي إلا صورة ما يعيشه المواطن العربي من حالات انكسارات وفصام، استلاب فكري، ثقافي، اجتماعي، ولعل أحكامه على الزمان والمكان والبيئة التي تعطيه تصورات إبداعية كانت الأهم في تناقض السينمائي الثائر عن بعد، المواطن السوري المؤمن بالقضايا الإنسانية والقضية الفلسطينية، الرسام الذي ارتاد أماكن لا تقدم له إلا “الجفاف البصري” على حد تعبيره. عيناه مصوبتان نحو وطن يدغدغ أحاسيسه؛ اختار أن يهجره طوعاً، مقاوما من بعيد، بحجة المراقبة عن كثب، الباحث عن الواقع في الواقع المفبرك. نبيل الذي غادر دمشق ليعيش حلم العودة إليها والتجول في شوارعها، معاتباً البعض على وقوفهم على الرصيف السياسي، بينما هو لم يقف في الشارع ولا الرصيف، غادر الحي والمدينة متنقلاً من خلف الكاميرا إلى أمامها ليكون كومبارساً يظهر في المشهد السوري من الخارج. لماذا هجرتنا يا فهد السينما وأنت المؤمن بقدرة وطنك على الاحتواء، وأنت القائل “إن سورية على الصعيد الاجتماعي حققت شيئاً عظيماً حين استقبلت الأشقاء اللبنانيين في حرب تموز، والعراقيين والفلسطينيين في الماضي”؟ هل عجزت عن احتواء البرجوازي المشاكس؟ ربما تكون حركة كسر إطار اعتدت على كسرها سينمائياً، ما دامت الحياة بنظرك حركة في الزمان والمكان ودائماً باتجاه المجهول. هل هو الجديد الذي تعشقه في رحلة بحثك عن نبيل المالح خارج الوطن؟! رحلة مليئة بالأقلام والرسوم واللوحات التشكيلية، أفلام طويلة، قصيرة، وثائقية، روائية، تسجيلية، صور ثابتة، متحركة، مشاريع كثيرة، سوق أفكار وتصورات، رسائل مكثفة، بُعد ثالث، دلالات. شاعر صاغ صورته البصرية بالقلم والورقة واللون، ومواطن رد الصفعة بالإبداع والكاريكاتير، بالقهر والهيمنة، بالممكن وغير الممكن، بالاختلاف والأصالة والخيانة، حتى استطاع تقديم منتج فني جديد وسينما جديدة مع كل فيلم من أفلامه، مستخدماً ذكاءه التحليلي حول القواعد والاحتمالات التي انطوت عليها تجربته الذاتية ليقدم المتعة لجمهوره، بعد أن تركه ما يزيد على نصف قرن برفقة “بوعلي” في بيئة طبيعية عذراء ذات ظروف اجتماعية مضطهدة، متاهة ترك فيها البطل وجمهور المشاهدين، متاهة ساهم في بنائها الطبيعة والبشر، وغربتنا عن الآخر، حاكت تضاريسها رقة مشاعر الإنسان وعنجهيته، هناك لا يمكن للإنسان أن يجد طريقا وحلولا لا في “الفهد” ولا في “الكومبارس” ولا في عبثية الحياة إلا أن يؤمن بقدره ويعيش في هذا العالم، فلا أهداف واضحة باستثناء الهروب.

 

“الكومبارس” بطلاً/ بشار عباس

يخبّئ تحت وسادته مجلّة صور جنسيّة مع أنّه في أواخر العشرينيات من العمر، وما انفكّ يعيش مع أسرته في منزل واحد، يعمل في محطّة بنزين، ومن حين لآخر يعثر على دور ” كومبارس” في مسرحيّة فيؤدّيه مستعيداً حلمه القديم العاثر بأن يغدو ممثّلاً نجماً . ماذا يحتاج الجمهور أن يعلم أكثر عن هذه الشخصيّة الرئيسة؟ هذا يكفي، فشأنه في ذلك شأن جيل بأكمله من العمر نفسه. أمّا حبيبته الأرملة “ندى” والشخصيّة الداعمة التي سوف تشاركه في صياغة أيقونة السينما السورية، فإنّها تعمل في مشغل خياطة، وتعيش في منزل أخيها المزدحم بالأولاد. أربع دقائق من زمن الفيلم تكفي لتقديم الشخصيّتين والتعرّف عليهما، وللتعرّف أيضاً على أعضاء الفريق الذي صنع العمل فتظهر أسماؤهم على الشاشة بالطريقة الفذّة التالية: صور فوتوغراف ثابتة بالأبيض والأسود لمدينة دمشق، لحشود يلتقط من بينها الكاتب والمخرج نبيل المالح شخصيّتين بطريقة تجلب إلى العمل المزاج الوثائقي فتزيد من صدقيّته لدى الجمهور، إنّ استخدام الفوتوغراف مع الكاميرا المتحركة المستعرضة لتفاصيله طريقة اشتهرت في الوثائقيّات الأميركية إبان الستينيات والسبعينيات، وإنّها تنجح الآن في تأسيس بداية للفيلم الروائي: “الكومبارس” إذ يظهر حقيقياً من الواقع الصرف؛ فالتعرّف على الشخصيّات، ظروفها وعملها وطبقتها الاجتماعية والتعرّف على أسماء أعضاء فريق العمل يحدثان معاً في آن، وتكون البداية الفعلية للفيلم هي لحظة ولوج الشقّة وبدء الفعل الدرامي. ومنذ الآن سوف يتطابق الزمن الواقعي مع الزمن السينمائي حتّى النهاية، في عمليّة شاقة وخلّاقة ومفارقة تلتزم بقانون الوحدات الثلاثة الأرسطي: الزمان، المكان، والموضوع. إنّه شرط درامي يصعب على المسرحيين أنفسهم، فكيف لسينمائي أن يُنجزه؟

صانع “الكومبارس” لا يعنيه هُنا إلا جوهر الفنّ السابع، قصّة جيّدة، فتمثيل مبهر، ثم كاميرا ترصد ذلك الأداء وتكون خادمة وفيّة لتعابير الوجه الإنساني والحركة داخل المشهد؛ أي: لأداء الممثل، لا يعنيه المبالغة في حركاتها أو مواقعها أو في أحجام اللقطات، وأيضاً لا يستعرض في الإضاءة، كل شيء من القصّة ولأجلها، مع النهوض كذلك بالشرط الصعب التالي: القصّة تدور أحداثها في مكان واحد، وليس ثمّة انتقال بين مكانين مختلفين لإنهاء مشهد وتأسيس مشهد جديد، والزمن نفسه مستمرّ دون انقطاع. إن ذلك يعني، على سبيل الفرض جدلاً، أنّ الفيلم بأكمله يمكن أن تكفيه لقطة واحدة مستمرّة دون انقطاع، تأخذها الكاميرا من زاوية تُماثل في الارتفاع موقع جمهور مسرحي، وتشتمل على أماكن الأداء: باب البيت، غرف النوم، المطبخ، الأريكة حيث تردد البطلة “ندا ـ سمر سامي “وراء حبيبها” سالم ـ بسام كوسا”: “زوّجتك نفسي” ثمّ تسأله: “هل ما فعلناه شرعي؟” وعندها يقول ما يتطابق مع ثيمة العمل كاملاً. فما هي الحاجة إذاً أن تكون القصّة مأخوذة بكاميرا بدل أن تكون على خشبة مسرح؟ إذا استثنينا الدقائق الأربع الأولى فإنّ هذه الدراما يُمكن أن تؤدّى على الخشبة. إنّ الإجابة عن هذا التساؤل تقود إلى اكتشاف كيف أنّ الكاتب والمخرج مدّ يده عميقاً في بدن الفن السينمائي، فلمس عظمه.

المبررّات عديدة في أن تكون قصّة “الكومبارس” فيلماً، من أهمّها براعة التمثيل أمام الكاميرا، والذي يُعتبر كشفاً إبداعياً في تاريخ الكاميرا السورية، سواء كانت سينمائية أو تلفزيونية، فالمخرج بعد فترات تدريب طويلة مع الممثلين نجح في أن يعرض شخصيّات تعيش لا تمثّل، إنّه تمثيل يختلف عن التمثيل المسرحي الذي يراعي فيه ممثل الخشبة أن جمهوره ثابت وبعضه على عشرات الأمتار فيعمد إلى المبالغة، الكاميرا في “الكومبارس” والتي هي عين الجمهور موجودة في أماكنها المثالية، بطريقة تجعل الجمهور يحوم حول الشخصيّات فيراقبها دون أن ينكشف أمره، ذلك سواء في اللقطات العريضة أو المتوسّطة، وحين تتحرّك الكاميرا فإن حركتها ثقيلة تجعل الجمهور يعيش تماماً حالة الاقتراب البطيء واستراق النظر، ساهم في ذلك المونتاج الرصين؛ ففي مشاهد حوار طويلة يميل المخرجون عادةً إلى القطع المتكرر بين وجهي الشخصيتين اللتين تتحاوران، أمّا هُنا فجاء القطع فقط مع كل تصعيد في الحدث، يكون بداية بين “سالم” و صديقه “عادل”؛ كل قطع يتطابق مع درجة جديدة لنفاد صبر “سالم” من تباطؤ صديقه في مغادرة الشقة ليتركه مع حبيبته، ثمّ يصير بعد إذ أن تأتي “ندى” ملائماً لصعود الحالة العاطفية، فهذه المرّة الأولى التي يُغلق عليهما بابٌ، فهل نجحا بأن يلوذا من العالم الخارجي؟ إنّهما بين عالمين تتداخل حدودهما، وراء باب وجدران، فلن تنجح اللقطة الطويلة زمنياً، أو بتعبير آخر اللقطة ـ المرحلة الشهيرة في الواقعية الإيطالية الجديدة، لأنّها اشتُهرت في التصوير الخارجي، كما أن القطع المتناوب السريع سيعطّل الاستغراق في جمالية الأداء، هذا ما أدركه المخرج جيّداً، فاختار توقيتاً للقطع يكون في زمن متوسّط بين النموذجين ففاز بمزاياهما معاً.

فبعد شهور من اللقاء مع “ندى” يظفر “سالم” بهذا المكان، لكنّه كالغوّاصة التي تكاد تنفجر من ثقل ضغط الماء، كل العالم الخارجي ماثل ويحاول الاقتحام؛ يكاد يحطّم عليهما الباب والنوافذ ليقتحم؛ صوت سيارة الشرطة، صوت الحشد في التظاهرة، العازف الجار، الجار الذي يحاول الاحتماء به من دورية الأمن، وأخيراً الصفعة الخاتمة .

في المسرح يكون الهاتف هو الوسيلة الأساسية للوصل مع العالم الخارجي، أمّا هُنا فيأتيهما صوت موسيقى الجار الأعمى عازف العود في حل إبداعي لمعضلة سينمائيّة رافقت كلّ فيلم يتضمّن موسيقى تصويرية؛ السؤال المطروح على كل الأعمال التي فيها موسيقى مصاحبة: من أين يأتي الصوت؟ لدينا ـ مثلاً ـ مشهد فتاة تتعرّض للقتل، فمن يعزف لها تلك الموسيقى المرعبة؟ إن الموسيقى التصويرية في السينما عموماً تكاد تقترب من التعليق: نقطة ضعف تنجح بعض الأفلام في تجاوزها عندما تكون موسيقاها متقنة ملائمة فلا نشعر إلا أنّها جزء من المشهد، المخرج اليوغسلافي أمير كوستاريكا كان بارعاً في جعل الموسيقى صادرة عن عازفين يعيشون كشخصيّات ضمن عالم الفيلم. لكنّ موسيقى فيلم “كومبارس” كانت أكثر وثاقة بعالمه، آلات نفخية خفيفة الحضور، ثمّ تختفي لتحلّ بدلاً منها تلك التي من داخل عالم الفيلم، هذا “الجار” لم يكن موجوداً فقط لهذا الغرض، إنّه شخصيّة مُستغرقة ومؤثّرة في الوقائع وفي مصير بطل الفيلم “سالم”، يزوّد الشريط ببعض موسيقاه، وأيضاً يتسبّب لبطله بصفعة تُساهم في إيجاد نهاية حادّة ومنطقيّة للقصّة. وقبل ذلك، سيكون الجار العازف مبرراً لظهور شخصيّة رجل الأمن، كواحد من عناصر العالم الخارجي، والذي هو بدوره أيضاً مبرر لاستخدام تقنيّة (الفلاش فوروورد) عندما يتخيّل سالم أنّه يهجم عليه باندفاعة تحطّم الباب، يقع ذلك بعد أوّل لقطة قريبة على وجهه، في خرق لنموذج حجم اللقطات الذي كان تأسس منذ بدء الفيلم، وكان إلى هذه اللحظة يتناوب بين البعيدة والمتوسّطة. هذا الاقتراب المفاجئ من وجهه يشي بأن شيئاً يدور في خلده، ثم نراه وهو يتخيّل. وبعد ذلك تتكرّر اللقطات القريبة، لا سيّما بين العاشقين.

سوف يتخيّل شيئاً آخر عمّا قليل؛ مع أن بطلة الفيلم “ندى” على وشك الوصول، فإنّه يستغرق في حلم يقظة جديد “فلاش فوورود ” سيدعم مع السابق سينمائيّة القصّة فذلك ما يعجز عنه المسرح. المخرج يلعب بحرفيّة عالية على حافّة نوعين دراميين لديهما الكثير من العناصر المشتركة، يسيرُ على حبل مرتفع، فينجح بأن يتجاوزه ببراعة. مراعياً من أجل ذلك تصميم المنزل نفسه، فيجعله متوافقاً تماماً مع مشروعه.

الفسحة أمام الباب، الموزّع، المطبخ، وغرفة النوم، كلّها مصمّمة بما يخلق أمكنة عديدة متصلة مكانياً ومنفصلة تصويرياً؛ حلٌّ مشهديٌ لمعضلة المكان المسرحي المكشوف كلّه، لم تعد الكاميرا قادرة على أن تأخذ المنزل من زاوية واحدة، عليها أن تتحرّك، ليس حركة جمالية إخراجية تفي ببراعة النصّ، بل لأن الشخصيّات تتوارى في أمكنة تستلزم اللحاق بها.

كان يُمكن للنهاية أن تكون لحظة مغادرة المنزل، لكنّ مشاهدة “سالم” يخرج من البناء، ثمّ بعد ذلك لقطة عريضة تتسع وترتفع مع الشقق والشرفات المغلقة، ثم ترتفع مع أفق الحي ومدينة دمشق، جاءت لتؤكّد البداية التي كانت في الصور الفوتوغرافية وهي الآن في المشهد الختامي؛ إن العدد اللانهائي من الشقق والأبنية يخفي خلفه عدداً لا نهائياً من قصص مماثلة لما رأيناه طيلة مئة وخمس دقائق. بقي ربع ساعة إذاً ليأتي “عادل” وتنتهي المهلة التي أعار فيها شقّته للسينما السوريّة لتشهد واحداً من أجمل أعمالها وأكثرها أصالة.

 

نبيل المالح في سطور

 

يعد نبيل المالح” دمشق ـ 1936″ من رواد السينما السورية؛ فبعد دراسته السينما في تشيكوسلوفاكيا عام 1964 عاد المالح إلى بلاده في ستينيات القرن الفائت ليعمل في المؤسسة العامة للسينما، حيث قدم عدة أفلام روائية قصيرة كان أبرزها: “إيقاع دمشقي” و”نابالم”، ليقدم في عام 1969 أول فيلم روائي قصير له بعنوان “إكليل شوك” وليقدم بعدها فيلمه “المخاض ـ 1970” ضمن الثلاثية السينمائية الروائية “رجال تحت الشمس” التي تعتبر أول فيلم سوري طويل ونال عليه جائزة مهرجان قرطاج السينمائي.

كما ساهم المالح في تكوين حساسية سينمائية خاصة عبر أفلامه “الفهد ـ 1969″، وفيلمه “بقايا صور ـ 1980” وفيلم “تاريخ حلم ـ 1983” وفيلم “كومبارس ـ 1993″، الذي نال عليه جائزة أفضل إخراج في مهرجان القاهرة السينمائي.

 

 

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى