ملف جريدة السفير عن سورية
جر يحترق بداخلي/ عبد العزيز الراشدي
المشكلة دائماً في المزاج، وفي الأشجار أحياناً. لذلك تركتُ عمان واتجهتُ إلى دمشق برّا، قبل سنوات، من دون تخطيط. لستُ أقول إنني كرهتُ عمّان فهي بلاد جميلة أيضا، وأحببتُها على طريقتي، لكن شهوة اكتشاف دمشق، بخليطها وناسها وبما ترسّب بداخلي عن جمال المدينة وبيوتها وهدوئها وموسيقاها، شكّلت فصولا من الرغبة والحماس، وكان التاريخ في روحي يُغني ويضيف إلى صورة بلد ارتبط بحضارة العرب واعتدادهم باللغة وجمال المحيّا، وفي اللغة وصورة الوجه يسكن الوجود.
لم يكن لدي الكثير من المال، وأنا أعبر، في ذلك اليوم، من عمان إلى دمشق، في سيارة صفراء سريعة، وكان السّائق يحكي تفاصيل اليومي، وأنا أدوّن، في ذهني، وأصوغ ملامح نصّ عن بلد مركزي في الوجود العربي، بلد عرفت عنه منذ طفولتي كل ملامح الجمال، فحتى الأصوات التي كانت تلبس شخوص الرسوم المتحركة، تخرج بملمح شامي.
في الطريق، سمعتُ الكثير من الكلام عن السفر والعبور والعُملة والعمالة وحرّاس الحدود، وحكى لنا السّائق عن متاعب الوجود، ووددتُ لو أسأل عن روح المدينة، لأنّ ما كان يهمني موجود خلف كلّ هذه الصورة اليومية، فما يستطيع أن ينتبه له رجل الحدود، لن يتعدى اللقمة وحوادث التهريب ورتابة الميكانيك، لكن الرجل كان قد استرسل في الحكي عن حياته ومتاعبه، ففهمتُ أنّ ضغط الزمن ولقمة العيش تُغنينا عن التدقيق في عمق الصورة أو في ملامح اللوحة الجميلة، ثم أنّ ما نمتلكه يبدو عادياً دائماً، ولا نعتني بلهفة إعادة اكتشافه. لذلك اكتفيتُ بالإنصات لعلّ في يوم السّائق والركّاب الذين يتجادلون معه ما يبني ملمحاً من ملامح ما أريد.
ونحن نهلك المسافة، كنت أخرج من حالة إلى حالة، والسيارات تعبر في اتجاهين مختلفين. وفي المسافة تتوزع العلامات التي ترمز إلى بلدين يختلفان في كلّ شيء، في الذوق والاتجاه والمصير. وفي الطريق كانت تراودني الصور، وأنا أستمع للحديث.
سنوات مرت كأنها يوم واحد، مثل رحلتي القصيرة التي قادتني خطاي فيها إلى المدينة. إنني اليوم، في معرض الكتابة والحديث عن دمشق، أحاول تَبيّن ملامح المدينة، وأحاول إعادة تركيب الصورة، فأجدني كما لو أجهدُ في وضع يدي الممدودة داخل ذاكرتي ولا تراودني غير الأشجار، هل كانت دمشق وأنا أجول في شوارعها عامرة بالأشجار لهذه الدرجة؟ أغمض عيني وأجهد لتركيب الصوّر والملامح، وزوايا المدينة ودروبها، التي كنتُ ألقي فيها الخطى قبل سنوات، مندهشاً من جمال المدينة، مستمتعاً برذاذ المطر الخفيف، لاهياً عن الحاضر والماضي تحت وطأة كأس ليلية خفيفة، فلا تُسعفني الذاكرة، وتظهر الأشجار في كلّ تفصيل. فهل كانت المدينة غابة كثيفة لهذه الدرجة؟ هل كانت غابة من الوجوه الجميلة والمعاني والكتب؟ هل كانت غابة خضراء من الحبّ والهدوء وملامح الشرق التي تكرهها أُمم تحتاج إلى التاريخ فلا تستطيع إليه سبيلا.
أم لعل لذاكرتي سُلطتها، حيث تنتظم الأمور وفق مسار ما، وتختلط الصوّر وفق تدبير يحسبُ الحاضر والماضي ويخلطهما فيمنحني ما يريد؛ إذ لعلّ دمشق الآن غابة يأكلُ الكائن فيها كائناً يُشبهه.
في شوارع دمشق، تركتُ الأشجار تهديني إلى السبيل، تركتُها تقودني. الشارع في دمشق هادئ ولطيف، وموسيقى فيروز التي أطلق لها سائق التاكسي الصغير العنان، تخلق النصّ وكأس اللّيل يبني سعادتي. لا أدري كم من الوقت تمشيتُ لكنني وقفتُ بباب الجامع الأموي، فملأ بصري منظر نساء يلتحفن السواد بالجوار، وتمكّن من نفسي الحنين إلى صور الطفولة في باديتي الصغيرة، حيث تلتحف النساء المحتجبات سوادا يكاد يتطابق مع الصورة، مما فرض عليّ الانتباه للمشترك.
لم أكن أهتم حين توجهت صوب دمشق، بأي تفصيل عدا رؤية وجه المدينة التي أحببت، ولقاء بناياتها القديمة. التقيتُ بعض الأدباء، منهم الأصدقاء، ومنهم العابرون، وسمعتُ الشكاوى نفسها التي يجترّها الأدباء في بلدي، ثمّ كتبتُ نصّا عن دمشق، وشكّل جزءا من كتابي: سندباد الصحراء.
قبل سنوات، حين كنتَ تذكر سوريا للمغاربة، يستدعي الأمر في أذهانهم اللغة والشعر والمقامات العربية وليالي الأنس والجمال. لكنّ الحرب، اليوم، جعلت سوريا مرادفاً للموت والتدمير والقصف. لقد تمزّقت الصورة وأصبحت الغابة التي ترمز للأنس والجمال والهدوء غابة موحشة يغتالك القناص فيها عند أول حركة. ثم ّ تراكمت وديان الدماء حتى لم نعد نستطيع إحصاء القتلى على الشاشة، ونحن نغرق في الهدوء، في بلدنا البعيد، ولا نملك غير الحزن والأسى.
لكي أكتب عن سوريا، كان لا بد أن أسمع الموسيقى، وأن أشحذ الذاكرة كي أعيد بناء صورة الأشجار على الطرق. لكن الوقت لا يسمح إلا بموسيقى الجنائز، والأشجار التي أحببتُ من أوّل نظرة دمّرتها حرب بين إخوة أعداء، ويتربّص بها الهمجي القادم من وراء البحر.
سوريا أصبحت مقبرة، للأسف، ودمشق التي أحببناها مثل كلّ مدننا الأثيرة، تحرقها اليوم، حرب قذرة. وأنا أحبّ دمشق كما لو أنها أمي.
(روائي وقاص مغربي)
حين احتل العدو قبر أبي/ محمد ملص
لعله السؤال الذي لم أسأل نفسي عنه أبدا!
وربما لم أتساءله خلال كل هذه السنوات التي عشتها!
تماما كما لم أتساءل يوما عن جلدي أو لوني!
في كتب القراءة المدرسية؛ لم أكن أفهم ماذا نردد حين كانوا يقرؤنا عنها، ولم أكن أعرف لماذا كنت أشرد حين كان المعلم يشــرح تاريخـــها أو جغرافيتـــها!
ربما كنت أشرد لأني كنت دائم التساؤل:
لماذا يطبق أبي فمه ويظل صامتا دائما! ولم أكن أسمع منه إلا صوت «ريقه» وهو يبتلعه!
فهذا الرجل العجوز؛ كان قد عاش زمننا بكل أنوائــه؛ كما تقول أمي! فقد جال على حصانه؛ أرجاء بلدنا كما رسموه لنا؛ وحين بلغ به العمر أدهشه هواء القنيطرة فحط بها؛ وتزوجني وأطبق فمه على الصمت!
ما ان أنجبتني أمي؛ وأخذت أتلمس العالم من حولي؛ بدت لي البلاد التي أعيش على ترابها؛ تـكمـن تارة في صورة ذاك الفم المطبق؛ وأخرى في صوت الريق الذي كان يبتلعه!
ومن يومها بدا لي أبي كالبلاد؛ وكالسؤال! لكنه مات وتركني أتساءل سؤال بلادي… ثم فجأة بدا لي أن ثمة «رعباً» على هذه الأرض! يومها كنت أعبر الشوارع العاتمة والمغمسة بلون الحرب الأزرق؛ فصدحت فوق رأسي أصوات طائرات العدوان الثلاثي عام 56. فلم تخفف من رعبي كل الآيات والقصائد التي حفظتها لأتقدم لامتحان الشهادة الإبتدائية.
وحين تقدمت لامتحان شهادة «الكفاءة»؛ كانت شوارع الشام تمتلئ بحبال الأضواء وبالزينات؛ فشعرت بأن ثمة فرحاً في هذه البلاد! فقد أعلنت الوحدة وجاء جمال عبد الناصر إلى دمشق… ويومها كان القمر مضيئا؛ فبدأت أحس لغتي وانتمائي، فاشتهيت يومها أن يتبدد االسؤال.
حين احتلت القنيطرة؛ واحتل العدو قبر أبي، أدركت سوريتي! وتعرفت عليها؛ وعلى نفسي داخلها؛ فاخترتها هواء وذاكرة وأملا.
صارت وطنا. واتخذتها بوصلة… ثم جعلت منها مصحفــا في العيش والتعبير.
لم أعد أذكر كم كان عمري حين بدأت أتلمس أني كلما تعرفت عليها أكثر وأعمق؛ كان هناك ما يحول بيني وبينها ويغتصبها مني. فأخذت أرى أن إبرة هذه البوصلة تهتز وتتحرك بعيدا عن إرادتي ورغبتي. فأخذ العيش يبدو لي صعبا؛ والتعبير عنه قاسيا!
لم أعد أذكر منذ متى بدأ يتملكني الإحساس بأني في حقل من الألغام، لكن هذا كان منذ زمن طويل.
ماذا تعني لي سوريا اليوم ؟
منذ أن تماهيت بها ومعها؛ وتماهت هي بي؛ صارت السينما وطنا! وغدت هي المكان والفضاء والهواء… أقف اليوم أمامها عاجزا!
عاجزا عن أن يدنس عدو هذا المكان؛ أو يفسد أحد هذا الهواء؛ أو يعبث أبناؤها الطغـاة والظلاميون باسمها وبماضيها ومستقبلها!.
(مخرج سوري)
شركاء الحلم/ ايمان حميدان
«خوذ بالك من خيّاتك!!» هكذا أنهى قريبنا الضابط في الجيش السوري زيارته لنا موجهاً كلامه إلى شقيقي. زيارته كانت للتعزية بوفاة ابنة عمته التي هي أمي. كنت في الثالثة عشرة وكانت المرة الأولى التي ألتقي فيها بأقارب لنا سوريي الجنسية ويسكنون جبل الدروز. أذكر انه كان وسيماً، طويل القامة مزهواً ببدلته العسكرية التي اضافت على وسامته جدّية خاصة. للحقيقة نسيت شكله بعد وقت قصير إلا أن جملته اللافتة بقيت ماثلة في ذهني. تساءلت حينها لماذا لم يقل لشقيقي «خوذ بالك من اخوتك» (أي صبيان وبنات) مثلا، خاصة أن اثنين من أشقائي كانا أصغر سناً من شقيقتي التي كلف ابن خال أمي شقيقي الأكبر بها!!
قد تكون هذه الزيارة لابن خال أمي الراحلة لبيتنا هي بداية ناقصة لتشكل علاقة غائمة وحائرة مع سوريا. ففي هذا السن كنت قد بدأت قراءاتي حول وضع المرأة في العالم العربي وحول المساواة بينها وبين الرجل في إطار نسوي متقدم اختلط مع قراءات يسارية لم تتنصل من القومية ولا من ايديولوجيات الأنظمة الجديدة التي صادرت السلطة في اكثر من بلد عربي.
يبقى ان الصورة الأولى لسوريا في نهاية طفولتي كانت صورة عسكر يتميزون بوسامة ما، وعائلات بعيدة تعتبر ان من واجب الذكور الاهتمام بالإناث في العائلات التي فقدت ربتها! لكنني للحقيقة كنت أعيش جواً عائلياً مناقضاً تماماً لتلك الصورة حول دور الذكور والإناث.
لم يمض وقت طويل على زيارة ابن خال أمي لنا حتى قمت بزيارتي الأولى لسوريا ولم تكن زيارة عائلية. زياراتي إلى سوريا قبل الحرب اللبنانية وخلالها هي أقل من عدد اصابع اليد الواحدة، وإذا عدت إليها الآن أرى كم كانت هي أيضا مفصلية ومهمة في حياتي وفي علاقتي مع هذا البلد القريب والبعيد معاً.
قام تجمع سيدات النهضة النسائية (تابع للحزب القومي السوري) في المنطقة بتنظيم رحلة نسائية الى سوريا دعا فيها الشابات القريبات من الحزب القومي السوري للمشاركة في الرحلة. لم أكن واحدة منهن ولكن كنت أنتمي إلى عائلة انضم أفرادها الكبار (الأب والأشقاء الأكبر سناً) إلى الحزب. في الطريق إلى سوريا كان كل شيء جديد بالنسبة إلي، خاصة انها كانت المرة الاولى التي «أسافر فيها من لبنان الى بلد آخر برغم ان ذلك البلد الآخر قريب ولا يحتاج الى ركوب الطائرة للوصول اليه. تجربة جديدة: من الرحلة نفسها (نساء فقط ومن كل الأعمار) إلى الطريق التي لم أكن قد سلكتها سابقا ما عدا جزء منها أثناء رحلة مدرسية إلى قلعة بعلبك والبردوني ولم أتجاوز آنذاك العاشرة من عمري. لم تكن رحلة أولى إلى سوريا فحسب، بل رحلة نسائية أولى أيضا، اشعرتني ببعض من الفرح للمرة الأولى بعد رحيل أمي. في تلك الرحلة لم تتوقف المشاركات عن الرقص والضحك والغناء الذي تخلله الكثير من الأغنيات الحزبية والتي لم أحفظ أي واحدة منها.
هناك في الزبداني حيث ذهبنا كم كنا نبدو غرباء عن المنطقة والبلاد برغم كل الحب الذي تكنه تلك الشابات والنساء المندفعات نحو سوريا ونظام سوريا. منذ ذلك الوقت كان صيت المرأة اللبنانية مختلفاً لدى العرب. أحسست بهذا وذلك بسبب المعاملة التي لقيناها من موظفي المقهى والمطعم هناك. «فتاة لبنانية… يعني فتاة متحررة. يعني فتاة نخرج معها ونقضي وقتا طيبا ولكن لا نتزوجها». هذا ما بقي في رأسي وما اذكره تماما من مجموعة الشبان الذين جلسوا الى طاولة قريبا منا، ثم اقترب واحد منهم من إحدى المشاركات في الرحلة وغرق في حديث طويل معها حول الحب والزواج والفرق بين «البنت السورية واللبنانية». ثمة امر آخر بقي في رأسي أيضا وذلك حين أكملنا رحلتنا بعد الغداء إلى سوق الحميدية للتبضع. اذكر الألم الفظيع الذي تعرضنا له مع رفيقتين اثنتين في نفس عمري تقريبا حين لحقنا شابان وراحا يقرصان مناطق مختلفة من اجسادنا الصغيرة. انه الخوف الكبير الذي شعرنا به والغضب الذي خفنا إظهاره. هربنا بسرعة وبقينا صامتات نحن الفتيات الصغيرات اللواتي دخلنا لتوّنا سن المراهقة. لم نردّ على الشابين او نرفع اصواتنا احتجاجا وذلك خوفا من الفضيحة. الفضيحة، تلك الكلمة الشائعة كثيرا في أحاديث أمهاتنا وشقيقاتنا الأكبر سنا وبين الجارات والزائرات. الفضيحة تلك التي صاحبت دخولنا سن المراهقة والتي زرعت الخوف في أرواحنا، الخوف المبني على فكرة انه إذا تحرّش بنا أي شاب فهذا لا يعني سوى أننا نحن من أوحينا له بهذا التحرش وذلك السلوك!
السياسة كانت بعيدة كل البعد عن تفكيري في ذلك الزمن. إما أن أحب سوريا كبلد ازوره للمرة الأولى او لا أحبه. آنذاك لم أحب سوريا على الإطلاق ولم يبق في الذاكرة الطرية يومها سوى قرصات موجعة تركت علامات زرقاء على أجسادنا. لم نكن ندري ماذا نفعل، كيف ندافع عن أنفسنا وعن أجسادنا، وكيف نتصرف إزاء وحشية ذكورية خاصة أنها كانت المرة الأولى التي نتعرض فيها لتحرش عدواني مشابه . لم أحب سوريا ولم أحب رحلتي تلك. غريب كيف الذاكرة تعيد مزج الصور والأحداث والكلمات والأفكار بطريقة مبتكرة يصعب تفسيرها. اقترنت أغاني الحزب القومي الحزبية بتلك الرحلة وبسوريا كلها في آن واحد. اقترنت بنساء وحيدات في رحلة سمحت لهن بقليل من الحرية في الباص الذي أقلهن الا انها غابت لحظة وصلن الى مكان يديره رجال، ولحظة جلسن على كراسي خشبية اصطفت حول طاولات المقهى الموزعة في الهواء الطلق وسط كثير من عمال المقهى الذين ما انفكوا ينظرون إلى النساء، اولئك القادمات من البلد الصغير الجار والمنفتح «والغير شكل»، بنظرات رغبة وعدوانية في آن معا. الذاكرة تضع وجوه تلك النساء، والطريق الذي سلكه الباص، وأغاني الحزب القومي، ونظرات الرجال المقموعة التي يولد قمعها عدائية لا حدود لها، تضعها كلها، برغم تناقضها، في مكان واحد. الذاكرة تجمع هذا كله إلى صورة هؤلاء الرجال أنفسهم وهم يقرصون النساء بكره مفرط في الشارع كأنه ممنوع على المرأة أن تتحرك بحرية فيه، ويعتبرون أن حرية البنت هي للتسلية، لتسليتهم هم، وليس للاحترام لأنه حق لها. صرت أرى كل تلك الصور مجتمعة في ذاكرة واحدة، وفي تلك المرحلة المبكرة من عمري. ما عدت أرى لها سوى معنى واحد ألا وهو العداء للفرد، لحريته كإنسان، وتحديدا لحرية المرأة.
أغاني الوطن، الحزب، الوحدة، النظام، كل تلك القيم صارت مخيفة بالنسبة لي. هي تمثلت في بلد قريب جغرافياً لكنه اخذ في الابتعاد كلما كبرتُ سنة من عمري وكلما أوغلت سلطاته أكثر في قمع الناس والحريات. إنها بلاد للرجال، كنت أقول لنفسي، وليس للنساء مكان فيها. لكن تلك البلاد سرعان ما باتت بلادا للقامعين والمستبدين من الرجال وليس لكل الرجال. زمن رحلتي الشهيرة تلك، لم يكن قد تبلور فيه بشكل واضح بعد وعيي السياسي والاجتماعي إزاء القمع كأداة تمارس على الرجل أيضا وليس على المرأة فحسب.
الرحلة الثانية إلى سوريا حدثت بعد 6 سنوات من الرحلة الأولى، وكانت الحرب الأهلية اللبنانية في بداياتها. كثير من الأمور والأحداث وجدت طريقها إلى حياتي وطورت أو غيّرت من وعيي ووجداني خلال تلك السنة الفاصلة بين الرحلتين. العمل اليساري والوهم أن السلطات الانقلابية التي وصلت إلى الحكم في البلدان القريبة من لبنان قد تكون صديقة لقوى التحرر. لكن الواقع كان غير ذلك، ولم تكن هذه الزيارة الثانية سوى نتيجة طلب ورجاء من معارض سوري صديق استطاع الخروج سراً من سوريا إلى لبنان قبل أن تعتقله أجهزة المخابرات، ثم خوفاً من اعتقاله في لبنان من قبل الأجهزة نفسها، واصل رحلته إلى أوروبا حيث طلب اللجوء السياسي. الزيارة كانت برفقة صديق بهدف إقناع خطيبة هذا المعارض أن تلحق به هي الأخرى إلى أوروبا. لكن المهمة كانت فاشلة، إذ إن الصبية رفضت ما جئنا من أجله، وقررت حينها البقاء داخل سوريا لتمارس عملها السياسي تحت الخطر وإمكانية الاعتقال لا بل إمكانية التصفية الجسدية وهذا ما حدث فعلا إذ دفعت حياتها ثمناً لقرارها السياسي.
هذا العنف طال أيضاً بلدي وأهلي. التدخل السوري في لبنان (النظام والمخابرات والجيش) ولمدة سنوات عديدة زاد من مشاعري السلبية اتجاه بلد شقيق وجار، أضف إلى ذلك عامل الخوف الذي قد يبدو غير منطقي، ومصدره الاعتقاد أن تكون مشاعري ومواقفي هذه سبباً لاحتجازي من قبل المخابرات السورية فيما إذا عبرت الحدود! هذا كله أدى إلى انقطاعي سنوات الحرب عن زيارة «البلد الشقيق». الاغتيالات، السيارات المفخخة، عمل النظام السوري على تفرقة اللبنانيين وإذكاء الخلافات فيما بينهم وحماية مصالحه الضيقة ولو كانت على حساب اقتصاد لبنان وحساب أرواح أبنائه وكراماتهم وممتلكاتهم، هذا كله شكل جزءا اساسياً من علاقتي مع الدولة الشقيقة. هنا لا انفي على الإطلاق مسؤولية بعض اللبنانيين أنفسهم والدور الوسخ الذي لعبته القيادات السياسية والميليشياوية اللبنانية في هذا المجال.
تغيرت علاقتي مع سوريا بعد تعرفي إلى كثير من الأصدقاء المعارضين الموزعين في أصقاع الأرض وفي داخل سوريا أيضا. إنها الصدف دائما التي تجعلنا نحب مكانا ونشعر أن لنا فيه أهلاً وأحباء. أحب سوريا اليوم ليس لأنها عربية ولا لأن شعبها يتكلم اللغة نفسها التي أتكلم واكتب. لم أحب يوما بلدا لهذه الأسباب على كل حال. أحب سوريا لأن فيها أناساً، ما زالوا يحلمون بحياة أفضل وبنظام يسمح لهم بالحرية في السياسة والتفكير والتعبير.
كي نحب سوريا يجب أن يكون لدينا العديد من الأصدقاء المعارضين الذين يؤمنون بالديموقراطية والذين يرفضون التخلي عن إنسانيتهم تحت أي سبب او تبرير. من المستحيل الوقوع في حب بلد مثل سوريا من دون وجود أصدقاء من هذا النوع. لأنهم ببساطة يقولون لنا إن هذا البلد القاسي الذي يحكمه طغاة يستطيع أن يلد أناسا مثل عمر عزيز المثقف الديموقراطي والصديق الذي قتله النظام في سجنه، وأناس كثر، يصعب ذكرهم في مقال، لهم ميزات مشتركة وحلم مشابه في العيش في بلد يقولون ويكتبون فيه ما يفكرون، ولا يُقتلون بسبب أفكارهم وآرائهم السياسية. أناس تعرفنا عليهم وأحببنا سوريا عبرهم، ووجدناها في وجوههم، وأناس لم نتعرف إليهم بعد إلا أن المواقع الاجتماعية خلقت بيننا صداقات جميلة لا تنتهي وأحلاما مشتركة في أن تغدو سوريا التي نحب ونتمنى حقيقة وواقعاً.
ثلاث رسائل لسنديانة بانياس قبل القصف/ ايوب الزين
1
مضى عامان على خروجي من الشّام، وأسبوعان بأكملهما انقضيا على اتصالكِ الأخير. تتذكّرين بلا شكّ الكابوس المتكرّر الذي حكيته لكِ في إحدى المرّات. لقد ظل يطاردني، دون انقطاع، طوال الفترة السّابقة. لم أتخلّص منه رغم تعدّد الأسفار وتعاطي المهدّئات وإدمان منوّعات شُونْبِيرْغْ الموسيقيّة، المضادّة للأرق الحاد. يتوغّل ضابطان إلى الجمجمة، بزيِّ سُعاة بريد، ويعبثان بها لساعات. يحلِقان رأسي بمُدية البندقية ويَدخُلانه عبر القرنين. أراهما يحرقان كنيسة البِشارة وبوسطة البلدة وأشجار الضّيعة، حتّى تبكي الجدّة، ثم يخرجان من الحُصيْن. يدّعي العِلم أنّ الحُصيْن مخزن الذّاكرة. كانا يمزّقان أشرطته ويخرّبان خلاياه، وها هما يغادران الآن مع حقيبة كبيرة من الأظرفة والصور. لبثا يعودان مساء كلّ يوم ليتأكّدا أنّكِ قد رحلتِ. استمرّا في النّفث والكيّ والتّهديد وهكذا، إلى أنْ اختفيتِ معهما. كنتُ أستفيق مرعوباً وأفتح الكوّة على البحر. جراحٌ من الرّمل أدمتْ حافّة النّزول، من دمشق إلى عمّان، لكني لم أتوقّف عن التّفكير في جلستنا الوحيدة بالعنّازة. كان اللّيل دافئا، وكنّا يافعين، وكانت التلة تميل إلينا كصفصافة، ونحن نتبادل الكلام على الشرفة. كنتُ مشدوهاً بهدوء المكان ومفتوناً ببياض بشرتك المتوسطية النّاصعة. واللّحظة لم أعد أراكِ، حتّى في الحلم. أصبحت خاوياً من الدّاخل تعيساً منذ اندثرت تلك الأشباح. يبدو أنّها عزمت الرّحيل إلى مكان بعيد، وأنت معها. ويا ليتها لم تفعل. ربّما أخذتكِ إلى الحسكة أو دير الزّور، واقتلعت معها السنديانة وما عشناه تحتها. أتخيّلكِ جنب السّلاليم واقفة بساعديك القويّين، مثل خيّاطة شِباك الصّيد على جزيرة أرواد، تمدّين إليّ حبّات البلّوط وتقولين: «كُلْ من غَلّتنا». لقد عادت طرودٌ كثيرة موشومة بالأرقام الفارسية وبأختام الحدود، وأخرى لم ترجع، أتُرى أسقطتها الرّاجمات قبل الوصول؟ هل تربّين القرمزيّ هناك، في عينيكِ، مع كلّ هذا الدّم؟ يعرف الشّعراء طوبوغرافيا الفراق، وربما وحدهم من يعي، أكثر من المؤرّخين العازبين، أهميّة الاقتراب من الماء للإمساك بالعطش. لذلك خضعت لغوايتهم، واخترت بحر سوسة تونس 2009 لأتعالج من كآبتي. قد أحبّ فينيقية أخرى. إنْ لم أكن قد فعلت. اكتبي لي إذاً أو اتّصلي من هاتف عمومي. وإنْ لم تستطيعي، فأحدثي حساباً على «الفيسبوك». أكون الشّخص الوحيد على قائمة الأصدقاء فيه، ويكون غلاف الصّفحة واجهة قلعة المَرقب بأحجارها الكلسيّة السّميكة، كما وصفها كتاب «النّجوم الزّاهرة» لابن تغري. أسرعي، أرجوكِ، إنّ الأشباح تغزو الشّبكات والرّسائل والقلوب. إنّها عازمة على إتلاف كلّ شيء. بأيّ ثمن.
2
أريد أن أكتب إليك من جديد. أكثر فأكثر. كما في السّابق وأكثر. أرسل لكِ المراسيل من خلال الخنادق والممرّات التحتية. أبعث بها كذخيرة عسكرية أو كتعويذة مرقونة على جلد الـ«زّومبي»، نكاية بالفناء. ماذا لو أسمينا كلّ سنديانةٍ، في بانياس والقرى المجاورة، باسم يشبهها؟ أيلول بارد وماطر. ولدت فيه، وأعرف غدر شموس اليوم الثاني والعشرين منه. فكيف نحتمي من الصّقيع إذا لم ننادِ الخشب: يا حطب الغابة؟ إنّ اللّغة مسكن الكائنات والأسماء علامات ميلادٍ وشواهدُ للموت. وأنا أسمّيكِ للحياة. لينا. لامُ الصّعود وياءٌ للمشي ونونُ نغمة المدّ الأخير. لينا، نداءٌ المستغيثين بالأشواق. يشبه اسمكِ الشّرق القديم. جميل ومجروح. استمرْرتُ في مناداتكِ بعدما تركت بانياس. كنت أتسمّر عند نافذة من نوافذ الفندق المطلّ على قصر العدالة. أُبصر حرّاس القانون وهم يتمايلون على دفّة الباب وأتعقّب النّساء بعد الظُّهر باتجاه سوق الحميدية؛ أراكِ بينهنّ تشترين التّوابل والسّواك والعطور للمساء، وتساومين التّاجر الشّاطر بلباقة الأميرات. الحياة في دمشق انعكاس لأنوثة بانياس. أتوهّم كثيراً يا عزيزتي، وأنا في ضاحية هذه المدينة الفرنسية بوردو 2012، حيث أصوّر فيلما تجريبيا عن الآثار والأشباح. أرى رايات الحسين مرفوعة على مرمى البصر. المكان ليس زقاق مدحت باشا. لكن أعلام كربلاء سائرة نحو الجامع الأمويّ، كما لو كان بيتُ العزاء قد افتتح أبوابه للتو. لحقت السّائرين، منوَّماً بالأنين، إلى أن نبّهني صديقي نيكولا: «لقد انتهت المظاهرة المناوئة للحرب على مالي». ألست في دمشق؟ حقا؟ كأنّي خرجت البارحة فقط من مكتب جهاد أسعد محمّد رفقة الأصدقاء. وثمّة أمسيات باب توما. سهراتٌ أهمل الضّابطان محوها، في مطعم «تمر حنّة» ومشرب «سيدوري». كنّا نقهر الهزيمة، ونعاندها، بالسّمر الدمشقيّ الطّويل: الرّقص في الحارات والتسكّع بين الحوانيت والمبيت في الجبل. قاسيون الحصين. كنتُ أدقّ لكِ، مدار كلّ ساعة، لأسمعكِ توشّحين صدر الغسق الحزين بالأغاني والغزل. تلك أوقات لن تستردّها الأعمار الآتية. قضيت المساء الأخير في مخيّم اليرموك، وسرت إلى الحميدية صباحاً مشياً على الأقدام. سألت بائع الأثواب الخمسيني عن الثقوب في سقف التظليلة الممتدة على طول السوق فأجاب: «خرَمها الفرنسيون قفزاً من شدّة الخوف. كان لأجدادنا شوارب مقوّسة وكانوا أبضايات». توقظني أصوات حيوانات وتشدّني أصابع وحوش آدميّة من أذني. ماذا يريد هؤلاء منّا؟ ألا يكفيهم الرّحيل والغياب؟ أم يبغون تغيير جيناتنا الوراثية لنصبح مخفيّين ومخيفين مثلهم؟
3
ما فائدة استنزاف الحروف إذا كانت البوارج مبحرة إلى السّاحل؟ أستفسركِ، وأسأل نفسي، عن السّبب الذي يجعل الناس يعذّبون أنفسهم، بأيديهم، وهم يكتبون إلى بعضهم البعض أثناء الحروب. يكاد اللّقاء بينهم يصير مستحيلاً وتوشك أكواب الزّيزفون السّاخن أن تُمسخ شاياً صينياً بارداً وردئياً، بلا طعم. ومع ذلك يستمرّون في الكتابة، وفي الشّرب المنفرد، كما لو أنّ العبارات أسوارٌ منيعةٌ تحميهم من الصّواريخ وتَقيهم ارتدادَ القنابل على واجهات البنايات. بالصّدفة وقع نظري، هذا الصّباح، على رسم كاريكاتوري مرعب يتصدّر صحيفة عربية. ربما يكون ذلك دافعاً كافياً لهذه الكتابة الخائفة والمرتعدة. يبدو حذاء العساكر على شكل مطحنة، كتلك التي يصنع فيها الجزّار كفتة السندويشات. كم مقاس قدميك؟ وما لون طلاء أظفارك المفضّل؟ فجأة، خشيتُ أن تكون القدم الأخيرة التي أطاشها قلم الرّصاص قدمك. لكن الأصابع، لحسن الحظّ، كانت بالأبيض والأسود، وليست نسائية بما يكفي، لأسند هذه الفرضيّة الرّهيبة. نحن البعيدين/القريبين عن المعارك معرّضون للموت مثلكم، افتراضيا وبصريّا، على الأقل. إنّ الأحذية لا تليق لغير الجنود الآن، فالجزمات إشارات للسّكون وسكاكين للإخضاع. إنّها قَطْعٌ بالنهاية. وأيّ نهاية هي. الجري بالحفاء في خلاء الرّيف فوق الشّوك والألغام. هذا ما يريدونه يا لينا؟ أليس كذلك؟ لكن تراب العنّازة لا يخون أحشاءه. يبلع جذور السنديان ليحميه من السقوط. لن يسقط أبداً. مهما اشتدّ الضّرب. سوف يقصفون لأنّ سوق السّلاح مربحٌ ولأنّ جنونهم لا حدود له. سيحاولون هدم منارة طرطوس وإسكات الأب نيكتاريوس عن شرح قصة أيقونة بنت عِمران ذات الثلاث أيد. حمق كهذا لا يؤجّل النهاية الرّحيمة فحسب، بل يمنع حتّى النسيان عن الموتى. سافرت إلى بيروت ومكثت بها يومين. لم أخبرك بالأمر. وقد أرجع إليها دون علمك فاس 2013. هنالك زمنان: زمن للحبّ وزمن للكتابة. وزمن ثالث للترقّب، ضعيفٌ مغلوب على أمره، يسمّونه الصّمت. فلا تلوميني على اختفاء بطاقة العذراء الباكية في حريصا من درج مكتبك. لا وقت للّوم والمراسلات والدّموع. يجب أن أعتني بالزّهراء، وبشامة عنقها الصّغيرة، قبل أن يمتدّ القتال إلينا. أمّا أنتِ، فتمسّكي بالغصن العتيد. لا تليني. تذكّري دائما، يا بسمة الشاطئ الهائج، أنّ الإمام لا يغيب عن سماء الله مهما امتلأت بطائرات «الميراج» وبـ«الرّافالات» والأحقاد.
(كاتب مغربي)
سلاماً ياسمين الشام/ علاوي كاظم كشيش
لم يفارقني القلق على ما يجري في سوريا منذ بداية الزلزال، وانا ارى ان الدمار يأكل من الانسان والبلد، ولا سيما ان اصداء الضربة القادمة اخذت تحتل الأفق الأوسع في تفكيري، وقد علقت كاتبة سورية على قلقي هذا بقولها: (سيقاتلهم الياسمين). فهي لم تعبأ بما وضحته لها من أن الاستعارة لا يمكنها أن تكون بديلا للواقع فهي انفلات منه مثلما ان التورية التفاف عليه والكناية اشارة له بالكلمات وهي تلوي اعناقها.
تصطادنا اللغة دائما وتحرمنا من النظر بعمق الى ما يمكن أن يطرحه القادم من الايام الذي سيكون فيه للدمار حصة كبيرة يدفعها المواطنون السوريون العزل، فيما تتسابق الدول وتيارات الصراع الى احراز نصر او فوز او غنيمة على غريمها.
سوريا التي يريد الامريكان اعدادها للزفاف وزجها في مشروع الشرق الاوسط الجديد على أدق التخمينات فهي ما زالت تحاول الحفاظ على خريطتها التي طالها التمزق بين قذائف وزحف المعارضين وصواريخ النظام، فيما تندلع الاتهامات المتبادلة بين المتصارعين حول رش عباد الله السوريين بغاز السارين.
لا يمكن التكهن بالفائز من أطراف المعادلة، إما لكثرة هذه الاطراف او لاختلاف شكل ونوع التكتيك الذي يستخدمه كل طرف وينزله للتطبيق على لحم المواطن السوري. وربما ستفصح الايام القادمة عن أن السوريين الذين استحر القتل بينهم هم الطرفان الخاسران بعد ان فتحا جراح بلادهما على مصاريعها لتحلق فوقها غربان الامريكان وهي تنتقي الاهداف الحيوية لضربها.
واذا حدثت الضربة الاميركية وهذا محتمل بحكم ما يروّج له الامريكان فإن شهوتهم في التدمير ستخالف تصريحاتهم بانتقاء اهداف معينة منتخبة وستتوسع هذه الضربات عند استعادة السيناريو الذي طبق على العراق. ويعني هذا ان البنى التحتية ستكون مشمولة لتخرج سوريا بعد الضربة بلدا محطما وانسانا مشردا يتمزق تصريح دخوله الى المستقبل مثلما يصعب عليه اصلاح ما قد دمّرته الضربات أو رأب الصدوع الكبيرة التي ستنتج عنها. وهذا ما لا يرجى لشعب طيب مثل الشعب السوري وبلد كريم مثل سوريا.
وسيكون لجيران سوريا حصة من هذا الاصطخاب والدمار. إذ ان الشركاء في الجيرة لم يعملوا على تدارك الدمار المتوقع وهم منشغلون بالتجاذبات وتبادل الاتهامات، ويلجأ طرف الى دولة كبرى لتقدم له المساندة والدعم.
ان سقوط الشرط الوطني منذ اول ايام الصراع بين المتصارعين في البيت السوري ادى الى اتساع الهوة وازدياد الخرق الذي اتسع على راتقه حتى بات من الصعب جلوس الاطراف على مائدة العائلة الوطنية السورية للحوار على الأقل وأصبح سقوط الضحايا علامة خطر يرفعها كل طرف لأخذ الثأر من طرف آخر فيما تترصد أميركا ازدياد الهوة وانتشار ضباب الرؤية بين السوريين لتنقض.
الجلوس امام الشاشات ومتابعة ما يجري في سوريا قد لا يوصل توصيلا كاملا ذلك الرعب الذي يأكل الناس والمدن. ولكن نظرات الاطفال المرعوبة والنساء الذاهلات تكاد تزلزل الارض بالمشاهد الذي يأكله القلق والأسف والحيرة وانتظار المجهول.
وان حجة استخدام النظام السوري او المعارضة للأسلحة الكيمياوية وغاز السارين تحديدا هو حجة تعمل عملها حتى لو لم تكن موجودة، فلكي لا تقع اميركا في نفس الخطأ الذي وقعت به بعد استخدامها حجة امتلاك العراق للسلاح الكيمياوي وهو ما لم تستطع اثباته او امتلاك الدلائل عليه وشكل ذريعة واهية لغزو العراق واسقاط النظام. لكي لا تقع امريكا في الخطأ ذاته فانها ستطيل فترة اداء فرق التفتيش لعمليات التحقيق في سوريا ولكنها ستعمل الى اختراع او اصطناع دليل تستخدمه ضد النظام السوري بغض النظر عن صحة امتلاكه من عدمه لتنفيذ ما تمليه عليه استراتيجيتها التي تسعى الى تطبيقها على مراحل باتجاه تغيير خرائط دول عديدة في مشروع الشرق الاوسط الجديد الذي يسيل لعابها على ثرواتها البكر غير المستخدمة او المستخرجة.
يشهد مسرح الصراع فوضى تحرك الشخوص والمكونات له وهذه الفوضى ترشحها امريكا كفوضى خلاقة تتيح لها استثمار صعوبة تكوين قناعات راسخة بحكم التغيرات السريعة وتقاطع الظلال على المسرح. وهذا يصب تماما في مصلحة اميركا التي سيطيب لها اعداد السكريبت الذي تعده وافيا وكافيا وضامنا لها بامتلاك شرعية معاقبة الشعب السوري وهي تزعم معاقبة النظام بينما تهلل المعارضة وسط خراب البيت.. وسيكون العمل كله اشبه بمن يحرق غابة ليشعل سيجارة.
صديقتي الكاتبة السورية جعلتني اتعاطف معها، فهي ازاء هذا الوضع لا تملك إلاّ أن تستعين بتقنيات اللغة فتستعير للياسمين قوة الجندي الضارب والسلاح الفتاك الذي عليه ان يردع طيور الحديد وهي تنفجر على جسد ارض الياسيمن الرقيقة. لهذا لا يمكن ان يقال لصديقتي الكاتبة صدقتِ بنفس القدر من الصعوبة في أن يقال لها :كذبتِ.
الياسمين في الشام يتقن دوره تماما منذ بدء الخليقة فهو يستطيع ان يستعيد بياض ازهاره بجدارة. . . بينما تستطيع اللغة ان تمدنا بما لا نهاية له من الاستعارات المتصرة خاصة التي تعوض فقدان الأمل فينا أو الخوف الخفي الذي يعد خفيا منذ ان ولد وطالب بحياته. ولكن الانسان في بلد الياسمين من سيرمم انهياره وغربته. سلاما شام الياسمين وسلاما على العائلة.
(كاتب عراقي)
للذاكرة: مدينة الألفة والأصالة/ انطوان ابو زيد
ذات يوم من أيام كانون الثاني، وقد وعدتُ رندى، حبيبتي، أن نتلاقى في مدينتها التي ولدت فيها وعاشت أيام فتوّتها وشبابها الزاهية بين شوارعها الضيقة وأزقتها ذات الياسمين، لم أكن أقدّر مكانة الإطار المديني الشامي في وجدانها. ورغم البرد القارس الذي استبدّ بي وحدي، دونها، وأنا في ساحة باب توما، أتدبّر سيارة الى باب مصلّى فالمجتهد، حيث منزلها الوالدي وقد وافاني الى المكان والدها المرحوم وجدتُها تأنس بالبرد الجليديّ وكأنه ضيف آخر، ينبغي مداواته بقليل من النيران الهادرة من صوبية المازوت، وبكثير من الأنس، تعزّزه العلاقات الحميمية، المدينية منها والقرابية.
وأول أبواب الألفة كان جيران خطيبتي، أم مروان وأبو مروان وأبناؤهما، من الصبيان والبنات، ممن تقاسموا الخبز والملح والمرض والأفراح مع عائلة رندى، فباتوا فرعا ثانيا من الأهل، لا يجوز نسيانهم ولا إهمال أعيادهم ومناسباتهم، على نحو ما كانوا يبادلونهم، على مدى عشرات السنوات، على ما روت لي. وكان عليّ أن استنتج، أنا اللبناني بلغتي التصنيفية المريضة، أنّ الناس المواطنين لإعجابي- في الشام، والمدن السورية تعميما، كانوا لا يزالون الى حينه، في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، على المثال الذي رجوته من التآخي والحياة المشتركة والعادات نفسها والمآكل نفسها، واللهجة نفسها، والشوّق نفسه الى ذلك الضّيف لا الغريب الجديد، يحارون في مداراته وإحلاله المكان الأوّل في القلوب، رغم الاختلاف في الدين والطائفة والقومية المتحدّر عنها.
لم يفاجئني الأمر، أنا خطّيب رندى، وإنما لم أحتج سوى الى قليل من الجهد، أنا اللبناني، حتّى أسلخ والى الأبد صورة البلاد النيغاتيف (السياسية) وما يدعى بالنظام، والى الأبد، عن صورة الناس أهل الشام، وأهلي وأقاربي فيما بعد.
وفي الفرصة الثانية التي أتيحت لنا، قدمتُ الى الشام، للتعرّف الى معالمها، لفتني ذلك الشعور الحارّ بالانتماء الى أصول مشرقية أولى. وقد يبدو هذا الكلام عنوانا فضفاضا، لو لم يسنده المكان، الأثر الباقي والشاهد على هذا الارتباط العتيق والعتيد. لدى دخولنا الى باب كيسان، وزيارتنا الكنيسة الصغيرة المحفورة تحت الأرض، في ما يسمّى بمعبد حنانيا، دليل بولس الرسول وهاديه الى المسيحية، بعد سنوات من اضطهاد هذه الجماعة.بيد أنّ هذا الشعور بالأصالة (الدينية ) لدى سكان ذلك المكان، ما كان ليفيض عن ذاتهم المدينية، ولا عن أصالتهم العربية، ولا احتاجوا أن يظهّروه بالكثير من الإعلان أو الدعاية. فهو وليد الانتماء التلقائي والمنغرس في الذات والوجدان. ولعلّ هذا بالذات، أعني صورة الأصالة في الذات والبنيان، وبقدر كاف من الحداثة والمعاصرة، ما كان يسعى اليه السائح الأوروبي الضائق بصور حداثته، لدى زيارته الشام. وبالمقابل، فقد كشفت لنا زيارتنا قصر العظم، ذا البنيان العربي العثماني، والمساحات والغرف المنقسمة إطاريْن (سلملك، حرملك)، و مطعم ألف ليلة وليلة، المبني على الطراز نفسه، عن جانب من الميل الراسخ في النفس الشامية الى الحميمية و العناية بها وتوفير المتّسع من المكان لها، على حساب الزقاق أو الشارع الضيّق المؤدّي اليها. وهذا بخلاف المسلك اللبناني، الذي يعمد الى تظهير المكان أو المشهد وتحديثه، بل تكبير صورته على حساب حميميّته وأصالته ووظيفته الحقيقية. بيد أنّ زيارتنا مقهى هافانا للمثقّفين السوريين في الشام، أنا ورندى، في أحد أيام الشتاء الدافئة والحميمة كمألوف الشام، لم تبدّل من صورة المدينة والمجتمع الشاميّ الراسخيْن في الأصالة والألفة.
ههنا، قد يعترض القارئ أو القرّاء، من القرّاء السوريين، واللبنانيين، ممن يصرّون على إدغام صورة المدينة بما خالطها من ظلال السياسة وسطوة النظام والمظالم الكثيرة التي كانت، وما زالت، في خلفية أي مشهد أو معلَم أو مظهر من مظاهر الحياة السورية. فلا يسعني أن أقول سوى الآتي.رغم أني لم يتسنّ لي أن أتعرّف الى العديد من المثقّفين والشعراء والكتّاب السوريين والشاميين، لانصراف عائلتنا الصغيرة الى مصاعب الحياة ونضالاتها الأليمة في بيروت، فإني لا ألوي سوى على أسف، بل مرارة من تصدّع صورة الأصالة والألفة التي لطالما كانت متنفّسا، في السنوات الست عشرة الماضية، لضيقنا من الصراعات في بلدنا لبنان، الطائفية منها والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي جهّزتها لنا الطبقة الحاكمة لما بعد الطائف، وجعلتها أطباقنا الرئيسية لا ننفكّ عنها حتّى ننهك فنستسلم لجماعاتنا بل لعشائرنا الأولى التي كنا خرجنا منها وعنها، وشبّه لنا أننا خرجنا الى رحاب الوطن الكبير، من كنف الصغير. ولئن صرتُ على يقين عقلاني أنا المواطن اللبناني ومن تربطني علاقة القرابة والمودة والوفاء لبلاد الشام، بأنّ الصراعات العنفية والشديدة في هذه البلاد، والحاصدة معها أرواحا عزيزة، والمدمّرة بنيانا هو جنى أعمار ودموع وآلام، هي صراعاتٌ تختطّ مسار الصراعات اللبنانية السالفة، للأسف الشديد، فإنّه لا يزال في نفسي، بعض مما في نفس امرأتي حبيبة الشام، ميلٌ جارف الى ألفة الشام وحرارة ودّها ونخوة أبنائها- بغير تمييز- وأصالة عنفوانها، واعتزازها بمشرقيّتها التي لا يتعبها الزمن. ومن هذا المنطلق، أرى الى الحدثين الرهيبين : المجزرة الكيميائية في حق المدنيين والعسكريين، والتلويح بالضربة العسكرية توجّهها أميركا تهديدا لما تبقّى من الصورة العزيزة والأثيرة في قلوبنا عن شامنا وبلادها ومواطنيها جميعهم.وإلى ان يعلو صوت العقل والكلمة السواء، وينتصر الممكن على المستحيل، والحس الوطني على ما عداه، فإن أقصى ما نرجوه ازدياد رغبة السوريين بالسلام والمصالحة والمصارحة، ليتاح إعادة اعمار سوريا على الصورة التي يستحقّها أبناؤها جميعهم، بتلاوينهم المختلفة، وأمانيّهم وقيَمهم العربية والإنسانية النبيلة.
الغرناطي غارسيا لوركا والدمشقي نزار قباني/ محمد علي شمس الدين
^ المعرفة بالمدن
يلزم لمعرفة المدن (دمشق، غرناطة، بيروت…) احتكاك جسدي ونفسي ممض مؤلم لذيّ، تبادل حواس وجوارح، تقلّب في البيوت، في الحوانيت والمقاهي، تشرّد على الأرصفة، تقلّب على الجمر وفي النعمة، يلزم لمعرفة المدن الشرب من مياهها ومن وحولها، حتى الثمالة، وحبّ لا يرضى بأقلّ من الموت.
المدن تلفظ السائح كنفاية، لا تعترف بأبنائها إلا كما تعترف القبور بعظام الموتى، واللغة بين الشاعر ومدينته، هي أقرب ما تكون للغة الآي آي، تلك اللغة التي استعملها يوسف ادريس بين الطبيب ومريضه، كان يلزم أن يحمل طبيب يوسف ادريس في القصة، مريضه على كتفه ليوصله الى المستشفى، ويتبادل معه في ليلة المرض آلام المرض نفسه وهواجسه لكي يصبح مثله ويتكلم بلغته. وهي الحالة ذاتها التي كان قد وصفها أنطون تشيكوف في قصته عنبر رقم 8. طبيب الأعصاب في المصحّ النفسي للمجانين كان يحيّره مجنون عصابي متفلسف غالباً ما يناقشه ويقول له: أنت لن تستطيع أن تعرف مرضي تماماً إلا إذا أصبحت مثلي وأصبت بهذا المرض. ويتبين للطبيب المعالج في نهاية الأمر أن فكرة مريضه التي رفضها في البداية، صحيحة، فهو لم يعرف حالته المرضيّة على حقيقتها، إلا بعدما أصابه المرض نفسه.
عشق المدن هو من هذا القبيل.
^لوركا ـ قباني
الخيط الذي يجمع بين غارسيا لوركا ونزار قباني هو الخيط الذي يجمع كلاً من الشاعرين بمدينته: لوركا بغرناطة وقباني بدمشق، مع تقاطعات تاريخية كثيرة بينهما باعتبار أن غرناطة هي البنت الرحمية لدمشق الأمويين. يستحضر قباني دمشق من خلال الحواس، من يوم ولادته (في 21 آذار مارس 1923 في بيت من بيوت دمشق القديمة.. يقول: «الأرض وأمي حملتا في وقت واحد» لحين موته على سرير المرض في لندن، شبه منفي، ووصيته التي أوصى فيها بأن يدفن في دمشق).
كان نزار في الكثير من أشعاره يبحث عن الرحم. وهي دمشق. وذاكرته لها ذاكرة على الأغلب جسديّة حسيّة، والأدقّ لذيّة إيروتيكية. وقليلاً ما يمتزج ذكره للمدينة، بالألم أو التشرّد على أرصفتها، أو الانجراح بوحشيتها، على غرار ما هو الماغوط مثلاً. قباني شاعر من ذهب برّاق حسّي ظاهري، والماغوط شاعر سوداوي مخلبي ومن وحل معتكر. بردى قباني غير بردى الماغوط. لدى الأول هو أبو النهور جميعاً، حصان يسابق الأيام، نبي ملهم تلقّى إلهامه من ربّه، وأمير بايعته الملايين عليها أميراً عربياً. أما بردى الماغوط فشيخ هرم، سبحته بين يديه، يحوم عليها الذباب، وصوته يخنقه السعال.
يدخل نزار قباني الى دمشق من أبواب الحواس الخمس: الأنف والعين والأذن واللمس والذوق، ويمنح كل باب حرفاً من حروف الأبجدية، فالنظر يمنحه حرف الألِف والألِف امرأة، والشمّ يمنحه حرف الباء والباء بنفسجة، والذوق يمنحه حرف الدال والدال دالية، والسمع يمنحه حرف السين والسين سنونوة، أما اللمس فيمنحه حرف الراء والراء رمّانة ونهد. وهو حين يفتح ثقباً صغيراً في ذاكرته، فإن الذي يتدفّق منها، طفولة من سوسن وسفرجل وخبز وعنب وقطط شاميّة قزحيّة العينين، ونافورة ماء في الدار «تقول الشعر دون أن يعلّمها أحد علم العروض». وخزانة الأمة في الدار، مشغولة بالصدف وأساور مبرومة من الذهب وغابة من رائحة الفانيليا وأسراب السنونو، وهذا هو عنوان إقامته حين يضيع. وهو ابن لوالد كادح يعمل في صناعة الحلوى طوال النهار في «زقاق معاوية» ليعود كل مساء تحت المزاريب الشتوية «كأنه سفينة مثقوبة»، وهو ينتمي من جهة الأب، الى أبي خليل القباني الذي صلبته دمشق حين أراد أن يحوّل خاناتها التي كانت تزري فيها الدواب الى مسارح، ويجعل من دمشق المحافظة الورعة برودواي ثانية، كما يقول. وهو مثل جدّه نبيّ المسرح العربي المطرود من وطنه، طالبت العمائم نفسها التي ظلمت جده، بشنقه، بعد نشر قصيدته الصادمة «خبز وحشيش وقمر» العام 1954، في وصف نزار لدارهم الدمشقية، يختصرها بأنه كان يسكن «قارورة عطر»، وذاكرة الشاعر في شعره كله، موشومة بهذا الوشم الدمشقي الأخضر، وروحه، برغم أسفاره الكثيرة، متعلقة بهذا المهد. حول المنزل ترتفع مآذن الجامع الأموي وقبابه، وقرب المدرسة كانت تلتفّ كالأساور الذهبية أسواق دمشق الظليلة: سوق الحميدية، وسوق الصاغة، وسوق الحرير، وسوق البزور حيث البهارات والتوابل ومملكة العطارين، وسوق الخياطين وسوق القطن، فالطريق الى المدرسة كان مثيراً للأنف واللسان معاً. وشعر نزار استعادة لحواس أو استثارة لها. يرى مارسيل بروست أن الشم هو حاسة الذاكرة، ويرى درويش أن «رائحة البن جغرافيا» أما السيّاب فينسب الذكرى للذوق «لقد أثمر الصمت الذي كان يثمرُ/ بيّن من الذكرى». أما نزار فيوغل في الشعر أو في الحسّ من أبوابه الخمسة. وفي مجال البحث عن المصدر الحسّي لصوره الشعرية، تتقدم الوقائع بقوة، ويخسر أمامها التجريد. فالرجل لم يكن ذهنياً.. أو باطنياً، ولعلني أزعم أنه إمام الشعر الظاهري في بناية الشعر العربي كله، ولا تزال القشرة أمراً جوهرياً في طريقته الشعرية بل في فلسفته للشعر. ولمَ لا؟ فأنت لا تدخل الى الأشياء إلا من جلدها. نزار قباني يعيد دائماً اكتشاف مدينته دمشق مباشرة عارية طازجة بدائية، بحيث يعود الى التماس المباشر مع الأشياء ويقع على المتعة القصوى التي تكتفي بذاتها بماديتها ولا تتعكّز على وهم أو قناع أو تأويل. ومثل هذا الشعر لعلّه يحدث قبل الكتابة.
يعترف الشاعر بأن دمشقيته، على حسيتها، هي نقطة ضعفه وقوته. شعر انطباعي بخفّة الهواء ولطف الماء، ولا يخلو من مفارقات لطيفة، كأنْ، مثلاً، تأخذه حالة التجلّي والانخطاف، حين يصعد درجات أول مئذنة يصادفها في دمشق، فيصعد وينادي «حيّ على الياسمين»، وأن يجد في الشام، «فقه العروبة» والبيان والتبيين… يقود أوركسترا من شجر الصفصاف، ويرى في نبات «الطرخون» على أنه «شيفرة سريّة» ويسكن في بيته الدمشقي في مدينة تقوم هندستها «على أساس عاطفي» كما يقول. فنزار قباني هو شاعر الأكواريل الدمشقي:
«يا دمشق التي تقمصت فيها
هل أنا السروُ أم أنا الشربينُ؟
يا دمشق التي تفشّى شذاها
تحت جلدي كأنه الزيزفونُ…»
إنّ درّة قصائد نزار قباني في دمشق، هي قصيدته التي سماها «القصيدة الدمشقيّة» وهي قصيدة يسيل فيها عشق المدينة في دم الشاعر، لكنّ عناصر هذا العشق ليست سوى عناصر الحواس.. العناقيد والتفّاح، دار فاطمة والكحل الصدّاح، المآذن والأشجار والياسمين وطاحونة البنّ:
«هذي دمشقُ وهذي الكأس والراحُ
إني أحبّ وبعض الحبّ ذبّاحُ
أنا الدمشقي لو شرّحتمُ جسدي
لسال منه عناقيد وتفّاحُ
ولو فتحتم شراييني بمديتكم
فالنهد مستنفر والكحل صدّاحُ؟
مآذن الشام تبكي إذْ تعانقني
وللمآذن كالأشجار أرواح».
^ مداخل لوركا لغرناطة
مداخل لوركا لمدينته غرناطة كمداخل نزار قباني لدمشق، حسيّة على العموم لكنها سرعان ما تتغلغل إلى ما تحت الجلد، وتتصل بالسحر، وبما يسميه هو «الروح المبدع»، ويعرّفه من خلال محاضرة له ألقاها في بيونس أيرس بأنه «القوة الخفيّة التي عرفها باغانيني في الموسيقى. والدراويش المسلمون في غنائهم ورقصهم وصرخاتهم «الله حي». وهو إحساس مشرقي تحسه في شعر لوركا حيث المعرفة ذوق وإشراق حتى ولو كانت مداخلها حسيّة. الروح المبدع يثير في الشعر حماسة دينية، ميتاحواسية». في شعر لوركا كما في شعر قباني غناء للعناصر، لكن العناصر التي يتشكل منها عالم روكا، تنفذ مباشرة من الظاهر إلى الباطن: «فوق شجرة الزيتون/ سماء مهدمة/ ومطر مظلم/ أشجار الزيتون مشحونة بصراخ».
إن حي البيازين الواقع في غرناطة، والذي غالباً ما يصفه لوركا، هو حي في واقع ضبابي غامض. والغناء عنده، كما عند نزار، يتنوع على كل مضارب الحس، لكنه غناء مجروح وأسطوري يلوح كأنه طالع من جوف ناووس. يضرب شعره، مثلاً، على البصر: «المركب في البحر/ والحصان على الجَبَل/ تحت القمر الغجري/ ترنو إليها الأشياء/ وهي لا ترى الأشياء»، ويضرب على حاسة الشمّ «هناك رائحة ملح ودم أنثى» وعلى الإحساس اللوني «عيناها خضراوان، صوتها بنفسجي» أو كقوله «خضراء/ هكذا أبداً أحبكِ خضراء/ الريح خضراء/ الغصون خضراء/ جلداً أخضر/ شعراً أخضر/ وعينين من فضة باردة». ويضرب على المؤثرات السمعية «ألف دفّ من البلّور جرحوا القمر». وتبرز لدى لوركا الصورة القارعة «تحت القمر الأسود/ صرخة وقرن نار/ مناقير الديكة تنقب باحثة عن الفجر»، وأكثر ما يتجلى هذا الحس القارع في إطار تشكيلي في ديوان «التماريث»: «أعطني حزن زنبق بارد/ لقلب من جصّ/ طوال الليل تسهر عيناي في البستان مثل كلبين صغيرين/ طوال الليل أطارد سفرجل السمّ/ يكون الهواء أحياناً من خوف/ خزامى مريضة».
وفي لوركا كما في قباني التصاق جسدي بعناصر الطبيعة، وربما وصل هذا الالتصاق أحياناً إلى ما يشبه المتعة الجنسية، ففي قصيدة «برسيوزا والريح» تتحول الريح إلى ذكر وبرسيوزا هي الأنثى «ترمي برسيوزا الطبل/ وتعدو دون أن تتوقف/ الريح ذكورية تطاردها». ونزار في مجمل شعره غالباً ما يؤنث الأشياء. مطالع لوركا مثيرة، آمرة ناهية «قل للقمر أن يتقدم/ لأني أريد أن أرى دم أغناثيو على الرمال» (مطلع قصيدة «الدم المنثال» في مصرع صديقه مصارع الثيران الأسباني أغناثيو سانثيث ميخاس).
^ مسافة شعرية
تلوح قصائد نزار قباني وكأنها تذكّر للرحم: المنزل العائلي في دمشق، الأم، الأب… العلاقة مع الأزهار والأشجار، الياسمين، القطط والطيور، الروائح كما لأول مرة. الجنس كما لأول مرة.
قصائد قباني في حقيقتها قصائد مهد. بل هي نداء للأماكن الأولى والناس الأولين. يقول في كتاب «دمشق نزار قباني»: «حبل مشيمتي لم يزل مشدوداً إلى رحم دمشق منذ 21 آذار 1923 (تاريخ ولادته)، إنها معجزة طبية أن يبقى طفل من الأطفال يبحث عن ثدي أمه سبعين عاماً» (منشورات نزار قباني شباط ـ فبراير 1999 ص 2). فالشعر عنده استذكار للشام. والشام رحم، مهد، أساس وقافية.
هل ثمة صلة بين علاقة نزار قباني بمدينته دمشق، باعتبارها المهد والرحم، وعلاقة غارسيا لوركا بمدينته غرناطة، واعتبارها أيضاً المهد والرحم؟ لا سيما أن ثمة تقاطعات بين الشاعرين والمدينتين. فدمشق هي الرحم الأموية لغرناطة الأسبانية.
يقول الدكتور بيدرو مونتابث عميد جامعة الأوتونوما (المستقلة) في مدريد وكبير المستشرقين المهتمين بما يسميه الشعر الغرناطي، «إن شعر لوركا يبحث دائماً عن الرحم والمنشأ» ويضيف أن «شعر لوركا لمس تلك الخصائص المميزة بين العرب والأسبان، فهناك من ناحية، وضوح وبساطة، لا جدال فيهما، وهناك من ناحية أخرى عمق وتآلف لا مثيل لهما في المشاعر اللاواعية» (تقديم ترجمة ناديا ظافر شعبان لمختارات من لوركا إلى العربية ـ المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت 1980).
إن غارسيا لوركا هو ابن غرناطة ويجري في عروقه حنين أكيد للدم العربي في الأندلس، حتى أن اسمه بالذات هو اسم عربي، فلوركا (LORCA)، ورقة هي واحدة من ثلاث مدن عربية في الأندلس: غرناطة ومرسية وورقة. ولوركا في شعره يبدو كأنه يستعيد الدم العربي الإسلامي، في أكثر من شكل، فهو يذكر معظم المدن في أسبانيا، ذات التأسيس الإسلامي، ومن بينها، إضافة لغرناطة، طليطلة وأشبيلية وقرطبة، ويذكر الأماكن بأسمائها العربية: الوادي الكبير، قصر الحمراء، ويصف غرناطة بالذات وكأنها مدينة استرخاء عربية، فهي مدينة المبادرات، لكنها لا تعمل، وهي مدينة الكسل والطمأنينة.
إذاً. هناك ذكريات عربية في كل الجهات. أقواس ضاربة إلى السواد، صدئة، بيوت، دهاليز محدودبة، نساء يبدو وكأنهن هاربات من الحريم، وهناك غموض في كل النظرات التي تبدو كأنها تحلم بأشياء ماضية، وتعب ثقيل. هذا الإحساس الشرقي بغرناطة، يظهر في قصائد لوركا غامضاً وحزيناً. يصفها في إحدى قصائده على انها «صندوق من أحجار ثمينة في أحفاء ذهب غامض» ويقول في مكان آخر إن «غرناطة هي الدم/ دم السماء المقدّس/ دم الأرض الجريمة بإبرة الساقية/ دم الريح الآتية من الجبل الخشن المخدوش/ دم البحر الهادئ/ دم البحيرة الغافية».. فما الذي يريد أن يستعيده لوركا من خلال لغته الغرناطية؟ هل يريد استعادة شمس حضارة غاربة؟ حضارة إسلامية بالتحديد؟ نقول إسلامية، تبعاً لتلميحات لوركا بالذات، ذكره على سبيل المثال لإمام الصلاة في مسجد غرناطة «أعمى من الزعفران/ يتلو الصلاة في سمطين من نساء ومن رجال»، وذكره لأسماء نساء مسلمات «تيمتني ثلاث حوريات: عائشة وفاطمة ومريم»، ويسعى لاستعادة الزمن العربي الآفل في كلمات ذات أصل عربي: الزهر، الفارس، الصخرة (سييرّا، ليمون، زيتون، زعفران، قرمز، قاض…).
هذا الاستدعاء الغامض للزمن الأندلسي تغالبه ذكرى الحب والموت، في سيولة غناء دائمة. في فوات دائم، في زوال. لكأنه شاعر الزوال العربي الكبير في أسبانيا. وهذا هو موضوع أهم دواوينه «قصائد غجرية» أو حكايات غجرية (ROMANORO GITANO)، حيث الحنجرة المطهرة للشعر… «آه يا حزن الغجر/ حزن نقي ووحيد أبداً/ آه يا حزناً سريّ المنبع وفجره بعيد/ …» وهذا الوجه المرتحل في رقص الغجر، وفي تنقلهم وغنائهم الشعبي، هو شكل الغياب الأندلسي الحزين في شعر لوركا، يستكمله شكل آخر للموت والعنف في مصارعة الثيران، حيث يبدو الماتادور في الحلبة، وحيداً أمام قرن الموت القاسي: «في الخامسة بعد الظهر/ كان ذلك في الخامسة تماماً بعد الظهر/ جاء طفل متلفعاً بملاءات بيضاء/ وكان ذلك في الخامسة/ لا شيء سوى الموت الموت الموت/ الموت المنتصر في النهاية/ والثور وحده جذلان القلب» (من قصيدة الجندلة والموت في رثاء المصارع الأسباني أغناثيو ميخاس).
ليس لدى نزار قباني (الدمشقي) هذه العذوبة الفائقة وهذا العمق المحيّر لعلاقة لوركا بغرناطة، أو لعلاقة نزار بغرناطة. يذكر قباني أسبانيا في قصيدة دونا ماريا، حيث يغرق في عينين واسعتين أوسع من بادية، وتذكره بمنزله في دمشق والبركة ورقص الظلال، وأشجار الليمون، والباب القديم الذي نقشت عليه حكاياته الأولى، ويصف شوارع غرناطة في الظهيرة على أنها «حقول من اللؤلؤ الأسود»، ودائماً، وهو في غرناطة، يرى دمشق في عيون امرأة، ومئذنات دمشق مصوّرة فوق كل ضفيرة. أما في قصيدة «أحزان الأندلس» فيلمّ دموعه مع بقايا العرب. وأعجب ما يقوله في قصيدته المسماة «غرناطة» التي يصف فيها لقاءه العابر بامرأة في مدخل الحمراء، حيث يتعارفان، وينتهي اللقاء بعناق بينهما يقول: «عانقت فيها عندما ودّعتها/ رجلاً يسمى طارق بن زياد».
لا تقل في نظري قضية لوركا في علاقته بغرناطة ورحمها دمشق الأموية، عن قضية نزار قباني في علاقته بدمشق وابنتها العجيبة غرناطة. لكن المسافة بين الاثنين مسافة شعرية. إن لوركا العظيم عقد شعره على علاقة الغناء بالموت، وفتح من خلاله باباً على الحكايات الشعبية وأغاني الغجر والغرابة. في حين أن نزار قباني عقد شعره على الرومانسية والايروتيكية. وقد افتقد البعد التراجيدي الضروري لكل شعر عظيم… واستهلكه الزخرف…
ومع ذلك، يبقى لهذه المقارنة، بعض ما يبررها.
يصعب تفادي المصير/ سحر مندور
يستقر الصديق السوري أمام كومبيوتره. يأكل، يشرب، ينام، أمامه. يكاد يشعر المرء بضرورة تدخّل جراحي للفصل بينه وبين جهازه الذي أضحى وجه بلده. منه يرى كل شيء فيها. لا يترك لأي خبر منه مفراً، سيلاحقه إلى قبره، سيعرفه، سينشره، سيبني عليه، وسيثبّت الموقف عبره. يحجز مساحته بين أصدقائه، وقد أضيفت إلى يومياتهم وجدانيات ما كانت لتحلّ في هذه السنّ بين هؤلاء الشبّان، تميل إلى البكاء حيناً، والغضب أحياناً. وجدانيات المُبعد عن بلاده جسدياً، بعدما أبعد فيها رمزياً لسنين طويلة صنعت حياته. وكلما غالبه الحزن، هو وأصدقاؤه، تسمع الماضي يفيض من أفواههم بالأيام، ذكريات أمنية في كل ناحية من نواحي الذاكرة، يصنعون منها النكات أحياناً، أحياناً فقط. ملابس عسكرية وانتسابات حزبية وعقابات ورشى واستباحات وحائط لا مفر من ملاصقته لتفادي المصير. ويصعب تفادي المصير. مهما فعلت، سيشقّ طريقه نحوك، يفرض نفسه عليك، ولو لمرة، لتلقاه وتراه فتتعلّم أن تخشاه.
يحكي عن سوريا. سوريا التي لا تمتلك إسم عائلة، ولكن فيها حفنة من العائلات تتصرّف وكأنها تمتلكها بناسها وذريتهم وتاريخهم وغدهم. هؤلاء، فرضوا أنفسهم على طفولته، ومراهقته، وشبابه الأول، حشروا أنوفهم في وجهه، منعوا عنه سماته، جعلوه يخبئها، يخفيها عن كل عين ومرآة، لتمتلئ العيون بملامحهم، سماتهم، فتتعلّم كفّ النظر. منتقمون بلا سبب من أشخاصٍ بلا ذنوب. هكذا، كالظلم.
يحكي الصديق عن سوريا كمن يوسّع مساحتها في غربته، يستحضرها إلى غرفته، يعيش في ربع من ربوعها ليس لها، لكنه له، وسوريا فيه، فهي هنا إذا، وأيضا. ممتلئون بسوريتهم، هؤلاء الشباب. ممتلئون بهويةٍ فعلية. وهي مكلفة، كالسواد الأعظم من هوياتنا العربية، لكنها ليست موضع مساءلة. ترى في السوري، كما في المصري، كما في البريطاني، معنى أن تكون «الجنسية» خارج الشكّ. مسلّم بها، لا ريح تحتها ولا هي على قلق، حتى وهم يسائلونها ويحكون عن تجزئتها. وهم يسائلونها ليس فقط لأن الدمّ حرّر السؤال وصار الواقع الجديد، ولكن أيضاً لأنه أباح المحرّمات. محرّمات كان عقاب المساس بها إحلال النهاية البشعة، فمن يحترمها يوم تضحي النهاية البشعة واقعةً كأسلوب حياة؟ فلتنزل المحرّمات على الأرض وتستباح كما استبيحت الحياة، يقول. ومعه حق. فالمحرّمات لم تولد كذلك، وإنما أضحت كذلك. ونحن لم نولد كذلك، وإنما أصبحنا كذلك. وإن لم يوضع كل شيء قيد المساءلة، لن يكون شيء صحيّاً بعد ذلك. لا حبّ ولا كره ولا حياة ولا انتماء.. لا شيء صحّيا داخل المحرّمات. فهي بالأساس قناعات وخيارات، إن فُرضت أضحت ديناً يستجلب الكفر به. وهو كافرٌ مؤمنٌ متجوّلٌ بين القناعات بعد انهيار المحرّمات. وتفيض من أيامه القصص.
قصصٌ من بلده، يخرجها منه ليراها من جديد، ليراها دائما. يخرجها من منع القول، من مخبئها، من الذاكرة المنصهرة بالحاضر، يريد للزمن أن يتقدّم، ولو نحو هاويةٍ أو أقل، إلى أي مكان، فليتقدّم! يحزن. يقع في وجعه. فتحتدّ العين من أجل السلاح تريد أن تنتشله من حزنه، فتدمع عينه في منتهى الحدّة، ويعلو صوته بجملة هدّامة، ثم يختنق الصوت بتكبّل اليدين. أي هدمٍ هذا الذي ستقدم عليه اليد، لو امتلكت حركتها؟ أشياء كثيرة كانت لتشيّدها هذه اليد، قبل أن تختار الهدم، لكنها قُطعت منذ يوم ولادتها، قُطعت وحُفظت في ثلاجة لتكون رقماً إن احتاجها أحد في التعداد.. تعداد الأيدي المقطوعة المحفوظة في ثلاجات الوطن، كبند غير فاعل في «توازن الرعب» مع إسرائيل مثلاً. يد غير فاعلة، لم تُفعّل، وكم امتلأت نفس الصديق على مرّ أعوام حياته بحماسة المواجهة، قبل أن تعلّمه مدرسة النظام أن الحماسة أيضاً معرّضة لدخول الثلاجة إن خرجت عن سكّتها. سكّة أكلها الصدأ، هي التي تختارها الأنظمة العربية لتسييل حماسة شعوبها.
كبطل تراجيدي، يتابع صديقي الأخبار والأفكار، وتحرقه كل كلمة منها. ينظر ملياً إلى صور الذين قضوا في تعذيبٍ أو تفجير أو قنصٍ أو سواها من وسائل الموت الكثيرة، ووسائل الموت فعلاً كثيرة. يقرأ في يومٍ أكثر مما فعل في سنواته المدرسية كلها. يعدّ الدم، ويخابر الأهل، وتؤلمه معدته، ويكثر من الشراب أو لا يفعل، يقلّ من الطعام أو يكثر، يتشاجر مع روحه وتخنقه حدود جسمه والبلاد، لا يخرج لا يدخل لا ينهض عن كومبيوتره، وينهار مراراً تحت الضغط، فيختنق، ويستمر.
كبطل تراجيدي، يكمل السوري حياته خارج بلده، منتظراً عودته إليها كمن يقف على الباب والباب سراب. كالمشرّد، كالتائه، ينظر إلى التهم الموجهة إليه وتهمه كثيرة.. تهمهم كثيرة، أعمارهم صغيرة، رموش عيونهم شابت، وأيديهم تتشنّج كلما فتحت باباً وخرجت منه. صديقي، بطل تراجيدي يحتاج باباً يقوده إلى الغد، سيفتحه بكل ما في ساعده من قوة، بكل ما في ذهنه من قوة، بكل ما في قلبه من قوة.. لكن، كيف السبيل إلى الباب!
إرفعوا أقدامكم عن دمشق/ شعبان يوسف
يكفي أن تذهب إلى دمشق وتلتقي مع أهلها، لتصبح عاشقا ومغرما وتواقا دائما للعودة إلى هناك، رغم صعوبات الحياة، ورغم الفزاعات الأمنية التي كنا نلاحظها هنا وهناك، ورغم الأصوات الهامسة التي كانت تنخفض عندما تريد أن تعلن رأيا سياسيا ضد الدولة والحكومة والنظام. أنا أحد عشاق الشام الكثيرين، واخترعت سلسلة من الحجج حتى أعود مرة وأخرى بعد زيارتي لها لأول مرة في عام 1993، والتحقت مراسلا بمجلة المدى عندما كان سعدي يوسف رئيس تحريرها، وكنت أذهب إلى المجلة لمقابلة الأصدقاء هناك فاضل السلطاني والراحلين ممدوح عدوان وميخائيل عيد، ولا يستطيع المرء أن ينسى تلك الملامح الحارة والحميمية التي تقفز على وجوه الأصدقاء وهم يرحبون بك. كانت المرة الأولى بمثابة التعرف على حبيبة ومعشوقة تسمع عنها، ولم ترها من قبل، وتكفل الأصدقاء رجب أبو سرية، وعلي الكردي الذي كان خارجا للتو من السجن بمهمة تعريفي بالشام، هما اللذان يسكنان في مخيم فلسطين، ويعملان في مجلة الهدف. كنت تواقا لزيارة مقر مجلة الهدف، هذه المجلة التي أنشأها غسان كنفاني في بيروت، ثم انتقلت إلى دمشق، ورسمت لها صورة أخرى غير التي فاجأتني، وزع رجب وعلي أوقاتهما لتعريفي بكل ما تعج به الشام من فعاليات ثقافية وسياسية، وتعرفت على الشاعر الذي يسكن في «درعا» راسم المدهون، وتعرفت على المخرج الدرزي غسان الجباعي، وذهبت مع صديقي رجب أبو سرية إلى سعدالله ونوس، كنت أحمل له رسالة من القاهرة، ومكثنا معه أكثر من ساعتين، وهو لا يكف عن الكلام، وكانت محنته المرضية ما زالت في أولها، ورغم هذه المحنة السرطانية التي أصابت حنجرته، إلا أنه كان يدخن، وعندما قلت له: لماذا تدخن وأنت مريض، لم يأبه بسؤالي، وظل يلاحقنا بالكلام والأسئلة، وتوترت الأسئلة عن القضية الفلسطينية خاصة أن ياسر عرفات كان سيوقع اتفاقية في كامب ديفيد في 13 أيلول/سبتمبر عام 1993 برعاية كارتر. كان سعدالله يصرخ: ماذا يريد ياسر عرفات؟ ويستكمل: ليتني أحيا حتى أرى إلى أين ستذهب هذه الأمة! لم يكن لقاؤنا بسعدالله المتكرر هو الحدث الوحيد، ولكن كانت سياحاتي في الشام هي الأهم مع الأصدقاء، وقد تعرفت فيها على سوق المرجة وباب توما وبيت النجار والصالحية وجبل قاسيون وبرامكة واللاترن حيث تغير اسمه إلى «القنديل» لتعريبه، وقضيت أياما بلياليها مع الشاعر فاضل السلطاني وزوجته غالية قباني. وبالطبع تعرفت على مطاعم الشام ومقاهيها، والأكلات الخاصة، وعرق الريان القاسي. كانت المرة الأولى التي قبلت فيها دمشق خطفا، كفيلة بأن تندهني مرة ومرة، وذهبت في العام التالي، حيث اتسع القوس وكنت في ضيافة الكاتب القاص ابراهيم صموئيل الذي لا أعرف أين ذهب الآن، وكان قد أحدث دويا بمجموعتيه «رائحة الخطو الثقيل» و«النحنحات»، وأجبرني على ترك الفندق والإقامة عنده حيث يسكن في «بيت النجار»، وكانت زوجته العظيمة ماري، وكان يطلق عليها «مرموش»، ونجليه أنس ورند. كان ابراهيم صموئيل مدينة عامرة بكل الثمار الانسانية الرحبة، ولأنني كنت أتابع بضعة لقاءات ثقافية وسياسية في دمشق، فاتفق صموئيل معي على أن النهار لي، أما الليل فله، وأعد لي برنامجا لمدة أسبوعين كاملين. كنت قد تورطت في علاقة عشقية كاملة مع هذه البلاد المقموعة والممنوعة من التقدم. كنت قد خلوت معها في سهرات خاصة جدا. وذهبنا معا إلى ريف دمشق الذي ينتظر خرابا مهولا على أيدي برابرة العالم الجدد. سهرنا وثملنا وَضِعْنا حتى وجدنا أنفسنا التائهة. كنت أتجول مع صموئيل، وكان يقول لي: هنا كان يسكن جميل حتمل، وهنا كنت ألتقي مع معلمنا شوقي بغدادي، وهنا كان يسكن منير الشعراني، حيث كان الكل هاربا من أعين وقبضة الشرطة. هنا كنا نأكل، وهنا كنا نشرب، وهنا كنا نرقص ونحب ونعشق ونصرخ ونصرخ ونصرخ.
أيتها الكلاب الهمجية الضالة والمتوحشة، هذه دمشق التي تحمل كل قلوب العرب، ارفعوا أقدامكم الثقيلة عن جسدها حتى تستطيع أن تتنفس. أيتها الذئاب الضارية والجريحة، لأن حضارتنا تجرحكم أحملوا أسلحتكم القاتلة واذهبوا، فلن تكون لكم حياة، ولن تكون لكم حضارة!
(شاعر وناقد مصري)
البحث عن معنى سوريا/ محمد فؤاد
حين هاتفني عباس بيضون طالباً الإجابة على سؤال ما الذي تعنيه سوريا لك. خشيت بعد حين أنه ربما التبس عليّ السؤال. وها أنا أحاول أن أستعيده. هل كان السؤال فعلاً ما الذي تعنيه سوريا لك؟ أم كان (سأفترض ربما) ما الذي يعنيه أن تكون سورياً؟. لا أدري .. لا أتذكر تماماً ما كان السؤال.ولا أعرف بالضبط لم شكّل لي حين بدأت محاولة الإجابة عليه معضلة ما. وكم بدا صعباً وغامضاً ما ظننته بمتناول الذهن والبداهة. وأي فرق بين صيغتي السؤال، إن كان ثمة؟ هل تتيح لي صيغة «ما الذي تعنيه سوريا لك» المسافة الكافية كي انظر إلى الأمر بموضوعية نسبية تعفيني من عواقب المشاعر والانفعالات التي تفرضها الصيغة الثانية؟ أم أن في الصيغة الأولى نافذة ضمنية للاختيار تلك التي تختفي في الصيغة الثانية حيث الافتراض المسبق أن هذا قدرك، وعليك أن تقبل به أولاً، تخضع له وتعترف به، ثم تالياً، أن تُسأل عن معناه.
إذن من البدهي والحال هكذا أنني سأجيب عن الصيغة الأخف وطأة والأكثر إتاحة لموضوعية مزعومة. ما الذي تعنيه سوريا لي؟.
وبرغم أنني لم أسأل عباس.. متى؟ هل سؤال المعنى هذا مرتبط بزمن ما؟ أي هل عليّ أن اجيب عن «ما الذي تعنيه لي» الآن أم في السابق؟ قبل آذار 2011 أم بعده؟ قبل النزوح من المكان أم في خضمه؟ في مطلق القول وانسراحه أم مرتبطاً بالحدث الحارق والمدمر الذي نكتوي به كل يوم؟ لكنني (على جاري عادة الافتراض التي يتيحها تساؤل غامض وملتبس كهذا من وجود عدة احتمالات للإجابة) افترضت مرة اخرى أنني مخير وأن السؤال مفتوح لانتقاء الوجهة التي أريد. ففكرت بالجواب الأبسط والأقرب إلي لسنين طويلة خلت: لا شيء. لا تعني شيئاً. أو بالأحرى لا تعني شيئاً محدداً وملموساً أقدر أن أصفه بدقة أو أن أقبض على مكنونه وجوهره.
سوريا التي يبدأ الالتباس من كتابة اسمها بالألف الممدودة أم بالتاء المربوطة، كانت خارج مجال الافتخار الوطني الذي هو – كما تقتضي الضرورة والتعليم والتلقين والتعود – معيار الفردي والشخصي، طالما تشير إلى القطر الصغير المؤطر بحدوده صنيعة المستعمر، الذي ما انفك منذ أن رسم له هذه الخطوط شبه المستقيمة يسعى جاهداً لأن يعزله عن محيطه الكبير: الوطن العربي، وشعبه: الأمة العربية.
سوريا (سورية؟) منذ طفولتي البعيدة كانت بلداً ضائعاً في اللفظ. لا يشبه ما كنا نسمعه من المصريين عن أمهم وأم الدنيا، مصر. ولا ما يفتخر اللبنانيون أينما حلوا وارتحلوا بـ (قطعة السما) ولا اليمنيون أو الخليجيون. نتردد في لفظ الإسم حين نسأل. يبدو غريباً في الأفواه، بعيداً عن السلاسة، متعثراً بحروفه. نرميه على عجل كمن ينوء بحمل، أو يخجل من الانكشاف. أفكر بسنوات المدرسة الابتدائية ثم الثانوية ثم الجامعة، وسنوات العمل اللاحقة، كان اسم البلد يرتبط برئيسه (سورية الأسد) أما السوريون، فبلدهم الحقيقي ليس في الحياة الدنيا هو في حلم الوطن العربي القادم، في الجنة الموعودة الآتية لا محالة، في الرسالة الخالدة التي علينا ان نحملها أمانة في الأعناق، وأن نورثها في جيناتنا إلى نسلنا الذي عليه أن يحمل الشعلة التي لا ينطفئ لهيبها، وأن يعطيها بدوره – بسيزيفية أبدية – إلى أجيال متتالية لن يهدأ لها بال حتى تتحقق كل تلك الغايات التي وجدت سوريا لها؛ الوحدة العربية وعودة الأجزاء المسلوبة. وإلا فما معنى لسوريا!. ما معنى لهذه البقعة الصغيرة التي لاتليق بالسوريين. سوريا المؤقتة هذه هي فقط لمؤسسها (باني سورية الحديثة) ولذا لا بد أن تكون (سورية الأسد) أما السوريون فلينتظروا مقبل الأيام وليعملوا العمل الصالح وليفنوا ذواتهم فما هي إلا متاع، وما هي إلا اختبار علينا ان نثبت أننا قادرون على اجتيازه، وما شظف العيش، ولا العزلة عن العالم، ولا الترفع عن مشاكله، أو الابتعاد عن الانغماس في متعه إلا اثبات منا بأننا جديرون بالشعارات التي نحملها. فنحن – السوريين – فدى المؤسس ونسله بالروح والدم، ونحن – السوريين – الصخرة الممانعة في وجه أي مؤامرة، المتمسكين بالثوابت التي لا تتغير ولا تفنى. نحن لسنا بشراً إلا بما يكفي لنحمل الصور ونهتف بالحناجر.
ربما هذا ما جعل محاولة استعادة سوريا – التي لا نعرفها بعد – يقابل بمثل هذه القسوة التي لا مثيل لها في التاريخ القريب، ربما هذا ما جعل لشعار (… أو نحرق البلد) ذلك البعد التراجيدي الخارج حتى عن معناه المخيف المباشر، والذي وصل في تحققه في مدن وبلدات كثيرة في سوريا درجة لا معقولة، درجة كنا نظنها أنها في الكتب فقط التي كانت تخبرنا عن استباحة مدن وحرقها وتشريد اهلها. في محاولة البحث عن معنى سوريا – التي لا نعرفها بعد – كانت سوريا تتكسر كقطع الجليد تحت وطأة الدبابات وتذوب بكل أنواع الأسلحة الحارقة والكمياوية.
في البحث عن معنى سوريا، أجد روحي وذاكرتي ما زالتا تجولان في أمكنة أفتقدها وروائح تتلاشى وتتبدد وأشخاص اختفوا عن مشهد يومي حميم وكأنهم لم يكونوا أبداً. أجدني مهجوساً بنوستالجيا مرضية ربما أركبها في ذهني وأصدقها، فقط كي امنح المعنى لخمسين سنة مرت. أجدني، في البحث عن معنى سوريا جديدة، أجلس في مطعم «العندليب» في حلب مع صحبة تقادمت حتى كأنها من اصل المكان، وندل يشاركون الزبائن طاولاتهم. في البحث عن معنى سوريا الجديدة أجدني افكر في تفاصيل صغيرة، أفكر مثلاً في «مصبنة الزنابيلي» التي لم تتوقف منذ 1200 عام عن انتاج الصابون. المصبنة التي عبرت زمناً مر به وفيه وعليه مغول وغزاة ومماليك وطغاة ومثيرو حروب وجلادون وأدعياء وأنصاف آلهة وأكوام عسكر وقتلة عابرون وقتلة ظنوا أنهم باقون.. لكن الصابون.. صابون حلب لا يزال برغم كل هذا الدم.. يفوح برائحة الغار.
في البحث عن معنى سوريا الجديدة أجدني أفكر في طوابير النساء اللواتي كن يقفن على باب المعهد العربي للموسيقى في «حي السبيل» ينتظرن أن ينتهي الأطفال من حصة «العود» و«التشيللو». المعهد المهترئ الأبواب حيث تعبر منها الأصوات المرتبكة في نوتاتها، لكن الأمهات ينتظرن، يبدلن ساقاً بساق من تعب الوقوف لكنهن ينتظرن.
في البحث عن معنى سوريا الجديدة أجدني أفكر بالعبارة الأولى، العبارة التي ما زلت كلما استعدتها أرتعش من الانفعال «الشعب السوري ما بينذل». كيف نامت هذه العبارة سنوات طويلة طويلة ثم ظهرت طازجة وفتية وقوية في حي الحريقة، وكأن اسم هذا الحي وجد لتظهر فيه هذه العبارة أو كأن روائياً اختار اسماً رمزياً للمكان الذي على أبطاله أن يبدأوا حياتهم الجديدة منه.
(كاتب سوري)
التوأم/ عباس بيضون
البلدان التوأم (لبنان سوريا) لم تكن لأحدهما حياة مستقلة عن الآخر. كان هناك تاريخ أعم تلابسا فيه واختلطا وتداخلا بحيث لم يكن لهما تاريخ. تلابسا في الزمان والمكان ولم يكن لأيهما زمان ومكان إلا في المجرد وفي الفرض. حين خرجا من بعضهما البعض واستوى كل إزاء الآخر.
كان هناك التوأم الأصغر والأكبر، التوأم القوي والضعيف. لكنها ليست حكاية اثنين. انها حكاية كثار طال اختلاطهم ولما افترقوا كان في كل واحد شيء من الآخر بحيث لم يستطع أن يعرف نفسه. انها حكاية كثيرين اضطربوا وقد صاروا لأنفسهم من تلك اللائحة الغريبة في وجوههم وفي أجسادهم. كثيرون كانوا غرباء عن أنفسهم وطالما وجدوها ملفقة مصطنعة ليس فيها أمارات من الآخرين فحسب وإنما شيء من إرادة الذي أخرجهم من بعضهم ورسم الحدود بينهم. لقد صاروا هكذا بهذه الإرادة الغربية وهذه الإرادة تدمغ وجودهم. إنهم أبناؤها وهي سمتهم ووسمهم. أبناء وربما لقطاء تدبير خارج عنهم. كرهوا أنفسهم التي وجدوها عليهم أكثر مما هي لهم. وجدوها مبثوثة فيهم من قوة استعبدتهم وتركت شارتها على كيانهم.
لم يكونوا بلدانا، كانوا أجزاء وأقساماً وفي تجزئتهم وتقسيمهم وعلى حدودهم الجديدة نفسها لم يكن هناك سوى السحر الاستعماري. سوى المؤامرة على الكيان كله. كان الاستعمار هو اللعنة وهو الرصد وهو السحر، كان قوة فوق بشرية فوق أرضية تستمر في دمائهم وفي أنسجتهم وفي ترابهم. وتجعلها عليهم وضدهم. كانت النتيجة أن مقتوا حدودهم وترابهم ودمهم نفسه. كانوا يستنهضون من تراثهم ذكريات أكيدة، وغير أكيدة. يستنهضون زمنا حقيقيا وغير حقيقي، يعودون إلى ماض سحري وغير سحري، ماض كامل ناصع لا شائبة فيه ولا حدود كليّ مطلق، يعودون إلى فطرة لم تستدخل بعد غريباً عليها ولم تستبطن سماً من خارجها.
كانت الفكرة آنذاك ان الأمم كالدين، تتنزل مرة واحدة، وتتنزل كاملة وكلية. وتتنزل بإرادة قدسية وبوحي لا يماري، وتبقى أصلاً لا يستدخل شيئاً إلا من جنسه ومن سليقته ومن فطرته. أصل هو وراء النفس ووراء العقل ووراء الروح. كانوا في لحظتهم المكروهة يرهبون حدودهم ويغضون عنها ويظنون انها تشربت لعنة وانها قفص لهم ومانع لحريتهم، وينظرون بحزن إلى الحدود الأخرى التي ينتظرون متى تنقلب عليهم وتتحول أيضاً إلى دم ولعنة.
كان لا بد من وقت طويل للتعامل مع هذه الحدود الكاذبة المكذوبة. وقت طويل للتعامل مع هذا التراب، وقت طويل للتعامل بين أفراد هذه الرقعة البشرية التي وجدت هكذا على هذا التراب، وقت طويل للرضا بهذا الحاضر المتقزم الذي لا أصل له ولا فطرة وإنما صنع بالتلاعب والعبث وتدبير الغير. وقت طويل ودموي غالباً للشعور بأن ثمة زمناً أنفق على هذا التراب وداخل تلك الحدود وان ثمة بنى قامت وارتفعت هنا. وثمة تقاليد وأنماط حياة وأذواق اشترك فيها الناس. ان تعبا بذل وجهداً ومشقة على هذه الأرض، وان ثمة ذكريات تستدعي ذكريات وأشخاصاً صارت من حصتنا على هذا التراب. كان لا بد من وقت طويل لتتأسس اتجاهات ومذاهب وسياسات وليوجد مخاض أفكار وصراعات. ورغم أن الأصل القدسي ما زال قائماً، إلا انه أخذ يرتفع أكثر فأكثر في السماء ويقل وحيه وتنزيله.
لنعد إلى حكاية التوأمين. كلاهما الآن راض بحدوده التي امتلأت دماً. كلاهما الآن راض بترابه الذي جبله بعرقه ومشقته وأحياناً بماء قلبه وشرايينه، لكن التوأمين منذ افترقا صار لكل مساره. التوأم الأقوى والأكبر ورث الأسطورة الأولى، الأصل المتنزل، الوحي القديم. التوأم الأصغر لم يرث شيئاً من هذه التركة الذهبية لذا بقي مباحاً لرياح الشرق والغرب. فصل بين التاريخ (أي تاريخ) والجغرافيا، فصل بين السياسة والاقتصاد.
هكذا كان يتحايل على ضعفه وعلى ضآلته. بينما كان التوأم الأكبر يغلي ضد من جرحوا كيانه بهذه الحدود ويتحفز للثأر ممن سرقوا جزءاً غالياً من تراب الأجداد، ويتحضر دائماً لحرب تاريخية اقتضت منه أن يسلم السلطة للعسكريين، وأن يجعل من المجتمع جيشاً، كما هو الجيش، ينصاع أولاً ويطيع ويأتمر. لقد كان هنا حلم الدولة القومية التي ما كانت لتتأسس إلا على الحروب القومية وعلى الجيش القومي. كان المجتمع كله راضخاً لهذه المخيلة البسماركية. الثأر والوحدة يحتاجان للقوة وبالقوة وحدها يتحققان، القوة أولاً والقوة لا تكون إلا بالانضباط وبالاتفاق والرأي الواحد. هنا كانت المخيلة السياسية لا تفرق بين الشعب والجيش، ولا تفرق بين الحرب والحياة المدنية، ولا تفرق بين السياسة والحرب.
التوأم الأصغر اتجه في مسار آخر. لم تكن حكايته عن الأصل التاريخي سوى حكايات يعرف انها لا تلزم بشيء، لقد كان غير مدين لشيء ولأي ماض حقيقي أم متخيل. لم تثقل عليه ذكريات حقيقية أم متخيلة، لذا بات بلا أي مقاومة حيال ما يأتيه من العالم. لم يدافع عن شيء ولم يمانع شيئاً، كان غير متحصّن بلغة ولا بتاريخ قريب أم بعيد، لذا كان مفتوحاً لكل شيء، قابلاً للتغير على أي وجه، وللتحول إلى أي صفة. كان ابن حاضره أكثر مما هو ابن ماضيه. لذا كان مساره هو ما سمي في ما بعد بالتحديث. بيد أن التوأم الأصغر عانى كثيراً كونه الأصغر، وحاول باستمرار ان تكون لعبته التاريخية أكبر منه، لذا دخل هو الآخر في كل الحروب التي فاتته وكان هذا، بطبيعة الحال، نهاية التحديث.
التوأم الأكبر الذي طالما سخر من التوأم الأصغر الذي بلا تراث لم يفهم ان الخيال الحربي لا ينتج جيشاً وان الحرب بمجتمعها وبزمنها هذا وبزمن هذا المجتمع أيضاً، لذا انتهت حروبه إلى بوار.
حكاية التوأمين ليست خاصة جداً. انها نهاية وسقوط حلمين: التحديث والدولة القومية.
السفير