صفحات العالم

ملف “صفحات سورية” عن الانتخابات البلدية التركية الأخيرة وتأثيراتها على الساحة السورية

 

الانتخابات المحلية التركية: الخلفية والنتائج والدلالات

 مركز الجزيرة للدراسات

ملخص

عُقدت الانتخابات البلدية التركية يوم الأحد 30 مارس/آذار 2014  في ظل أجواء سياسية عاصفة. هذه هي الانتخابات المحلية الثالثة التي يخوضها حزب العدالة والتنمية منذ توليه الحكم في نهاية 2002، وهي الانتخابات المحلية الأهم والأكثر دلالة. وربما يمكن القول: إنها الانتخابات المحلية الأهم في تاريخ تركيا منذ بدأت التعددية السياسية في 1945، ليس فقط للفوز الكبير الذي حققه حزب العدالة والتنمية، بل أيضًا لأن عددًا كبيرًا من الأطراف التركية والإقليمية والدولية اعتبرها استفتاء على جدارة حزب العدالة والتنمية وبقاء رئيسه.

وبما أن احتمالات ترشح أردوغان لرئاسة الجمهورية باتت هي الأرجح، فليس من المستبعد أن تستمر حالة القلق التي تعيشها البلاد، وإن بحدة أقل عما كانت عليه في الشهور القليلة الماضية، إلى أغسطس/آب المقبل واتضاح هوية رئيس الجمهورية الجديد. مهما كان الأمر، فإن هناك تحديات، بغض النظر عن الخطوات التي ستتخذها الحكومة، ستواجه أردوغان مثل مناخ الاستقطاب السياسي الحاد، سيما أن منصب رئيس الجمهورية الذي سيسعى إليه يمثل في التقاليد التركية موقعًا قوميًا جامعًا، يعلو على التدافعات الحزبية.

مقدمة

عُقدت الانتخابات البلدية التركية يوم الأحد 30 مارس/آذار 2014  في ظل أجواء سياسية عاصفة. هذه هي الانتخابات المحلية الثالثة التي يخوضها حزب العدالة والتنمية منذ توليه الحكم في نهاية 2002، وهي الانتخابات المحلية الأهم والأكثر دلالة. وربما يمكن القول: إنها الانتخابات المحلية الأهم في تاريخ تركيا منذ بدأت التعددية السياسية في 1945، ليس فقط للفوز الكبير الذي حققه حزب العدالة والتنمية، بل أيضًا لأن عددًا كبيرًا من الأطراف التركية والإقليمية والدولية اعتبرها استفتاء على جدارة حزب العدالة والتنمية وبقاء رئيسه.

هذه قراءة للخلفية السياسية التي ألقت بظلالها على هذه الانتخابات، لنتائجها، ولدلالاتها الأبعد.

تفاقم الصراع السياسي

في صورة مشابهة لشهور عدنان مندريس الأخيرة في رئاسة الحكومة (حكم: 1950-1960)، عندما انتاب خصومه اليأس من إمكانية الإطاحة به عبر صندوق الاقتراع، ساد شعور في تركيا السياسية خلال 2013 بأن رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان غير قابل للهزيمة الانتخابية. وبالنظر إلى أن معظم التوقعات أشارت إلى أن رئيس الحكومة لما يقارب 12 عامًا سيخوض الانتخابات على رئاسة الجمهورية في أغسطس/آب المقبل، تحركت القوى المتخوفة من إمكانية تولي أردوغان رئاسة الجمهورية عشر سنوات إضافية، للإطاحة به بأية وسيلة ممكنة، بما في ذلك استخدام أشرطة تنصت واتهامات من كافة الأصناف. ومنذ 17 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وحتى يوم الاقتراع، عاشت تركيا مناخًا غير مسبوق من الاستقطاب السياسي، بحيث تحولت الانتخابات المحلية، التي كان يجب أن تدور حول مسائل التنمية والتنظيم المحلية البحتة، إلى اقتراع حول مستقبل الدولة والبلاد ونظام الحكم.

ولأن جماعة فتح الله غولن، الإسلامية المحافظة، التي كانت حتى سنوات قليلة حليفًا بارزًا لحزب العدالة والتنمية، لعبت الدور الرئيس في محاولة الإطاحة بأردوغان، مستخدمة نفوذها الواسع في أجهزة النيابة والقضاء والبوليس وأجهزة الدولة الأخرى؛ فقد شهدت الشهور القليلة السابقة على هذه الانتخابات تحالفات سياسية تكتيكية جديدة، لم تكن في الحسبان من قبل. وجهت جماعة غولن في كافة المقاطعات التركية الواحدة والثمانين أنصارها للتصويت للمنافس الرئيس لمرشح العدالة والتنمية، بغضّ النظر عن الحزب الذي ينتمي إليه، وتبنى حزب الشعب الجمهوري، حارس القيم والمواريث العلمانية في البلاد خطابًا تصالحيًا مع جماعة غولن، الذي اعتاد الجمهوريون توجيه أشد الانتقادات لنفوذها المتزايد. في الوقت نفسه، لم يتردد رجب طيب أردوغان، رئيس الحكومة ورئيس حزب العدالة والتنمية، خلال الحملة الانتخابية، في اتهام جماعة غولن بتشكيل دولة موازية داخل الدولة، وتهديد أمن البلاد وسلامة الدولة التركية.

بيد أن أحدًا قبل يوم الاقتراع لم يستطع أن يقدر على وجه اليقين ما إن كان لحالة التدافع بين العدالة والتنمية وجماعة غولن، أو للاتهامات التي وُجّهت لرجال أعمال قريبين من الحزب الحاكم، أو حتى لوزراء سابقين وأبنائهم، أن تترك أثرًا على نمط التصويت في مختلف مقاطعات البلاد. ما كان واضحًا أن أحزاب المعارضة خاضت الانتخابات باعتبارها تصويتًا على حق العدالة والتنمية في الاستمرار في الحكم، وحق أردوغان في الترشح للانتخابات الرئاسية في الصيف المقبل؛ بينما خاض العدالة والتنمية الانتخابات مستندًا إلى سجله الاقتصادي وإنجازاته، وباعتبارها تصويتًا على استقرار البلاد وسلامة الدولة. وما كان واضحًا أيضًا، أن الأنظار لم تعد موجهة إلى نمط انقسام الأصوات بين الأحزاب الأربعة الرئيسية، بل بصورة أساسية إلى ما إن كان حزب العدالة والتنمية سيحقق نسبة أصوات أقل أو أكثر من النسبة التي حققها في المحلية الماضية، وبأي حجم من الانخفاض أو الزيادة.

فوز استثنائي وتغلغل واسع

تنقسم تركيا إلى 81 مقاطعة، وبالتالي إلى 81 بلدية، بينها 30 مدينة تُوسم بالمتروبول، أي المدينة الكبيرة. لم تكن هذه الأخيرة سوى 16 متروبول في الانتخابات المحلية السابقة في مارس/آذار 2009، ولكن تشريعًا برلمانيًا رفع عددها إلى ثلاثين. ويصل عدد من يحق لهم التصويت 52 مليونًا. في الانتخابات المحلية الماضية، حصل العدالة والتنمية على 38.8 بالمائة من الأصوات، وحقق الفوز في 47 بلدية، بما في ذلك بلدية إسطنبول الكبرى والعاصمة أنقرة، أكبر مدينتين في البلاد. ولكن العدالة والتنمية، بالرغم من جهود انتخابية كبيرة، لم يستطع الفوز ببلدية إزمير، قلعة حزب الشعب الجمهوري، وثالث أكبر مدن البلاد، وخسر يومها بلدية أنطاليا لصالح مرشح الشعب الجمهوري. ويمكن القول: إن الصورة التي تبلورت في 2009 أوضحت أن حزب الشعب الجمهوري لم يزل يسيطر على بلديات مدن الساحل، وأن حزب الحركة القومية يتمتع بنفوذ في مناطق متفرقة من الشرق والشمال والساحل، وأن حزب السلم والديمقراطية، قريب الصلة بحزب العمال الكردستاني، أصبح المنافس الرئيس للعدالة والتنمية في مدن الأغلبية الكردية، التي سيطر فيها على مدينتي ديار بكر وفان، ولكن العدالة والتنمية ظل الحزب الوحيد القادر على الفوز في مختلف مناطق البلاد.

خاض العدالة والتنمية ثلاث انتخابات برلمانية منذ جاء إلى الحكم في نهاية 2002، وجولتي انتخابات محلية، فاز فيها جميعًا، ولكن نصيبه من الأصوات في المحليات كان دائمًا أقل مما حققه في البرلمانيات، نظرًا للطبيعة المحلية لاختيارات الناخبين والدور الذي تلعبه العوامل الجهوية وشخصيات المرشحين في المحليات. في تصريحاتهم الإعلامية، أكد قادة الحزب دائمًا على أن فوز الحزب بأية نسبة من الأصوات تفوق 38.8 بالمائة التي حققها في المحليات السابقة سيعتبر نصرًا، ولكن الحقيقة أن العدالة والتنمية كان يأمل بتحقيق ما هو أكثر من 42 بالمائة من الأصوات، ليستطيع أن يقول بصورة قاطعة وواضحة إن الحملة التي استهدفت الحزب وقادته ورئيسه من ديسمبر/كانون الأول 2013 قد فشلت، وإن الشعب التركي جدّد الثقة بالفعل في الحزب ورئيسه. واستهدف العدالة والتنمية، من جهة أخرى، الفوز بأكثر من نصف بلديات المتروبول الثلاثين، وأن يرفع بالتالي عدد البلديات التي يسيطر عليها، بين الـ 81 التي تمثل مجموع البلديات في البلاد، إلى ما هو أعلى من 47 بلدية التي حازها في 2009. وبالرغم من أن فوز العدالة والتنمية ببلدية إزمير لم يزل بعيد المنال؛ فقد عملت آلة الحزب الانتخابية على كسر سيطرة حزب الشعب الجمهوري على مدن الساحل، سواء بالفوز في مدينة مانسيا، أو استرداد أنطاليا.

مع فجر 31 مارس/آذار، وبعد فرز 98% من صناديق الاقتراع، وبالرغم من عدم توفر إعلان رسمي نهائي بعد، جاءت النتائج كالتالي:

فاز العدالة والتنمية بزهاء 46 بالمائة، والشعب الجمهوري بـ 28 بالمائة، وحزب الحركة القومية بـ 15 بالمائة، وحزب السلم والديمقراطية الكردي بـ 6 بالمائة من الأصوات. تشير هذه النتيجة إلى أن العدالة والتنمية قفز بما يقارب عشر نقاط بالمائة عن نصيبه من الأصوات في انتخابات 2009، كما ارتفع نصيب حزب الشعب بحوالي أربع نقاط، بينما تراجع نصيب كل من حزب الحركة القومية وحزب السلم والديمقراطية قليلاً. لم يحدث، منذ بداية التعددية الحزبية في 1950 أن حقّق حزب تركي 46 بالمائة من الأصوات إلا مرة واحدة في ستينات القرن الماضي؛ ولكن الفارق أن نسبة من أدلوا بأصواتهم في ذلك الوقت لم تتجاوز 40% ممن يحق لهم التصويت، بينما أدلى أكثر من 80% من الأتراك بأصواتهم هذه المرة. المسألة المهمة الأخرى أن حزب السلم والديمقراطية، الذي كان يسعى لتقليص نفوذ العدالة والتنمية بين الأكراد، فشل فشلاً ملموسًا في تحقيق هدفه.

منحت الانتخابات العدالة والتنمية السيطرة على 49 بلدية من بلديات البلاد الواحدة والثمانين، وأكثر من نصف المتروبول الثلاثين، بما في ذلك إسطنبول وأنقرة؛ بينما سيطر الشعب الجمهوري على 13 بلدية، والحركة القومية على 8، والسلم والديمقراطية على 9، وذهبت بلدية ماردين لمرشح قومي كردي مستقل؛ حيث خسر مرشح العدالة والتنمية لصالح الشخصية الكردية المحبوبة شعبيًا، أحمد ترك. ولكن العدالة والتنمية حقق النصر في عدد ملموس من محافظات الأغلبية الكردية، وبات مسيطرًا على بلدية موش للمرة الأولى. من ناحية أخرى، حافظ الشعب الجمهوري على معقله الرئيس في إزمير، ولكن العدالة والتنمية استعاد منه أنطاليا، ليكسر بذلك سيطرة الشعب الجمهوري على بلديات ساحل المتوسط وإيجه؛ كما حقق الفوز في أوردو الشمالية للمرة الأولى. ويمكن القول: إن الشعب الجمهوري سقط نهائيًا من خارطة البلديات التركية في الشرق والجنوب الشرقي. وكان مدهشًا أن يخسر الشعب الجمهوري تونجلي، مسقط رأس زعيم الحزب، لصالح السلم والديمقراطية. وبالرغم من رواج توقعات بأن تذهب أغلبية أصوات أرضروم، مدينة فتح الله غولن، لمرشح الشعب الجمهوري، فقد حقق العدالة والتنمية فوزًا كبيرًا ومريحًا في المدينة الأناضولية المحافظة.

دلالات المديين القصير والمتوسط

كان خطأ أحزاب المعارضة وجماعة غولن الرئيس أنها حولت هذه المناسبة من انتخابات محلية روتينية إلى معركة حول هوية البلاد ومستقبل الدولة. بذلك، استفز الناخب التركي العادي للدفاع عن الدولة والاستقرار، ومنح أردوغان نصرًا غير مسبوق في أية انتخابات محلية. ولم يكن خافيًا أن أردوغان وقادة حزبه رأوا في النتيجة تجديد ثقة بالحزب وسياسات الحكومة، وليست محصورة في مباركة الحصيلة أو الوعود في البلديات التي فازوا فيها. وهذا ما سيجعل لهذه الانتخابات أثرًا بالغًا على الوضع السياسي التركي في الأسابيع والشهور المقبلة.

الأرجح أن حكومة أردوغان ستسرع من وتيرة تخليص الدولة مما أطلق عليه وصف “الدولة الموازية”، مشيرًا بذلك إلى نفوذ  جماعة غولن الواسع في أجهزة الدولة.  كما ستتخذ الحكومة مزيدًا من الخطوات التشريعية باتجاه إعادة بناء أجهزة الدولة، وإلغاء بعضها، وإعادة تحديد العلاقة بين مؤسساتها وأذرعها المختلفة. طوال سنوات، تصورت حكومة العدالة والتنمية أن مشكلتها تتعلق بإخضاع النخبة البيروقراطية والعسكرية الأتاتوركية، التي اعتقدت دائمًا أنها تملك الدولة والبلاد معًا. ولكن أزمة الشهور القليلة الماضية على الانتخابات، أوضحت المدى الذي يمكن أن تصل إليه جماعة منظمة في التحكم ببعض من أقوى أذرع الدولة، واستخدامها في إعاقة عمل الحكومة. وهذا بالتأكيد هو التحدي الذي تواجهه الحكومة خلال الأشهر القليلة المقبلة، التي تفصل البلاد عن الانتخابات الرئاسية.

من جهة أخرى، بات من المؤكد الآن أن رجب طيب أردوغان سيخوض معركة الانتخابات الرئاسية في أغسطس/آب المقبل. كان معظم المقربين من رئيس الحكومة يرى أن خسارة الانتخابات البلدية هي فقط من سيوقف ذهاب أردوغان إلى الرئاسيات (وهذا ما راهنت عليه جماعة غولن وأحزاب المعارضة، بالطبع). والمرجح أن يُعقد قريبًا لقاء بين أردوغان وعبد الله غول، يتم خلاله التفاهم على مستقبل كليهما، وعلى من سيتولى رئاسة الحكومة بصورة مؤقتة خلال الفترة التي تبدأ باستقالة أردوغان من البرلمان والحكومة، وعقد الانتخابات البرلمانية المقبلة، التي ستأتي برئيس حكومة منتخب جديد.

وبما أن احتمالات ترشح أردوغان لرئاسة الجمهورية باتت هي الأرجح، فليس من المستبعد أن تستمر حالة القلق التي تعيشها البلاد، وإن بحدة أقل عما كانت عليه في الشهور القليلة الماضية، إلى أغسطس/آب المقبل واتضاح هوية رئيس الجمهورية الجديد. مهما كان الأمر، فإن هناك تحديات، بغض النظر عن الخطوات التي ستتخذها الحكومة، ستواجه أردوغان مثل مناخ الاستقطاب السياسي الحاد، سيما أن منصب رئيس الجمهورية الذي سيسعى إليه يمثل في التقاليد التركية موقعًا قوميًا جامعًا، يعلو على التدافعات الحزبية.

أخيرًا، وكما أن المراهنات الداخلية على نتيجة هذه الانتخابات كانت كبيرة، كذلك كانت المراهنات الإقليمية والدولية. فوز أردوغان الحاسم والواضح يعني لدول مثل السعودية والإمارات وإسرائيل وإيران، ولقوى دولية مثل أميركا وروسيا وألمانيا، أن تعيد الحسابات التي وضعتها على أساس أن تصبح تركيا بلا أردوغان.

تركيا: الصراع بين الدولة والمجتمع/ إبراهيم غرايبة

 ثمة ملاحظات مركزية في التفاعلات الجارية في تركيا، تؤشر على أن جوهر الأزمة يقع في تنظيم العلاقة بين المجتمع والدولة؛ محاولة الدولة أن تُلحق بها الدين والإعلام، ومحاولة الحركات الاجتماعية التأثير على القضاء والأمن.

 وسواء كان صحيحا أم خاطئا القول إن الحركات الاجتماعية (جماعة “الخدمة” التابعة لفتح الله غولن) حاولت التأثير على القضاء والأمن في تركيا، فإنها تظل الذريعة الأساسية التي تستخدمها الدولة (رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان) للهيمنة على الدين والإعلام.

 وبالطبع، فإنه من نافلة القول إن المجتمعات يجب أن تناضل دائما لأجل استقلال الدين والثقافة والإعلام؛ فهذا حقها وجوهر استقلالها وقدرتها على إدارة مصالحها وعلاقاتها مع الدولة والسوق. ومن حقها ومن واجبها أيضا أن تخوض هذا النضال. ولكن، يجب ألا تسمح بالعمل والتأثير في البيئة القضائية والأمنية، سواء كان ذلك بحسن نية أو لأهداف إصلاحية، أو حتى عملا فرديا مستقلا عن الجماعات والحركات الاجتماعية والدعوية.

 الأزمة في تركيا (الأزمة بين الدولة والمجتمع، أو بين الاجتماعي والسياسي) تستحضر الدين على نحو يزيد الصراع قوة وتماسكا. فجماعة “الخدمة” بقيادة غولن، والمعارضة اليوم لأردوغان، تستند إلى التأثير الديني، وتبني على هذا التأييد تشكيلات اقتصادية واجتماعية وإعلامية، وتستقطب تأييد الملايين في تركيا. وحزب العدالة والتنمية يستحضر الدين أيضا في استقطاب المؤيدين السياسيين والناخبين. ويتحول الصراع، أو هكذا يبدو، إلى صراع ديني! ولكنه في الحقيقة صراع بين الاجتماعي والسياسي على الدين، أو على حدود التأثير الديني واستخدامه.

مصادر جماعة “الخدمة” تؤكد أنها تعمل في إطار قوانين وتقاليد المجتمع المدني، وأنها لا تتدخل في السياسة وإن كانت تؤثر فيها. وإذا كان بعض القضاة ورجال الشرطة من مؤيدي “الخدمة”، فلا يعني ذلك وجودا منظما ومنسقا للجماعة؛ فهؤلاء يعملون بصفتهم أفرادا ومواطنين! وبالطبع، فإنه لا يمكن الفصل بين سلوك ومواقف الجماعة وأعضائها، وتتحمل الجماعات دائما ما يقوم به أفرادها، وفي أحيان كثيرة يُستدرجون أو يُزرعون في الجماعات!

أردوغان يبدو اليوم منتصرا، رسخ نفوذه وقوته. لكنه انتصار الدولة على المجتمع! والأزمة سوف تظل ما دامت العلاقة بين المجتمعات والدول غير قادرة على القبول بمجالاتها وحدودها. فالدولة تدخل في صراع خاسر عندما تضيق بالإعلام ومنظمات المجتمع المدني والمساجد والعمل المجتمعي؛ والحركة المجتمعية تعمل ضد نفسها عندما تمتد إلى الجيش والأمن والقضاء، مهما كانت النوايا حسنة، وبغض النظر عن هدفها الإصلاحي. فالإصلاح الحقيقي هو في استقلال المجتمعات عن الدولة، وفي حماية المجتمعات والأفراد من الدولة، وتحديد دور الدولة وحدود تدخلها، والمجالات التي لا يجوز أن يشاركها فيها أحد!

الغد

الفوز الكبير والطريق إلى “تشنقايا”/ خورشيد دلي

انتخابات غير مسبوقة

لماذا فاز “العدالة والتنمية”؟

أردوغان والفوز

لم تكن الانتخابات المحلية التركية مجرد انتخابات محلية جرى التصويت فيها على أساس الكفاءات والمشاريع الخدمية والعمرانية والبرامج الإنمائية بقدر ما كانت انتخابات سياسية ومصيرية للحكومة والمعارضة معا، فكل طرف اتجه إلى هذه الانتخابات على أساس أنها معركة إسقاط الخصم السياسي، والفوز والانطلاق من صناديق الاقتراع لتأكيد مشروعيته ونهجه السياسي.

ومع أن نتائج هذه الانتخابات لن تغير من المشهد السياسي الحالي في البلاد إلا أنها تشكل المؤشر الأساسي الذي سيبني عليه الجميع حساباتهم السياسية في المرحلة المقبلة، حيث الانتخابات الرئاسية على الأبواب ومن بعدها البرلمانية.

انتخابات غير مسبوقة

لعل أكثر ما ميز هذه الانتخابات هو التنافس غير المسبوق بين الأحزاب الكبرى، ولا سيما بين حزب العدالة والتنمية الحاكم وحزب الشعب الجمهوري المعارض في البلديات الكبرى وتحديدا في أنقرة وإسطنبول وأزمير، وبدرجة أقل بين حزب العدالة والتنمية وحزب السلام والديمقراطي الكردي في ديار بكر معقل أكراد تركيا.

كل طرف قدم أفضل المرشحين لديه، وحاول أن ينسج تحالفات سياسية حتى مع المختلفين أيديولوجيا بغية تحقيق الفوز المنشود إلى درجة أن حزب الشعب الجمهوري العلماني تحالف مع حركة الداعية فتح الله غولن التي تمثل الإسلام الصوفي تاريخيا، والاجتماعي حاليا.

 وإلى جانب التنافس الشديد تميزت هذه الانتخابات بحملات إعلامية واسعة سخرت لها كل الساحات ووسائل الاعلام، ويكفي القول هنا إن رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان زار قبيل الانتخابات قرابة ثمانين مدينة وبلدة، واتبع سياسة الحشد والتعبئة في الساحات إلى درجة أنه قبيل يومين من موعد الانتخابات فقد صوته نهائيا، وهو ما اضطره لاحقا إلى إلغاء فعاليات كانت مقررة.

الأمر الثالث أن هذه الانتخابات جرت على وقع تداعيات فضيحة الفساد التي تفجرت في 17 يناير/كانون الثاني الماضي، وعلى وقع التسجيلات المسربة المنسوبة للعديد من المسؤولين الأتراك، وكذا على وقع إجراءات أردوغان ضد مواقع التواصل الاجتماعي والجدل المحتدم في البلاد على خلفية هذه القضايا مجتمعة.

وكل ما سبق أضفى حرارة غير مسبوقة على الانتخابات تجسدت في نسبة المشاركة الكبيرة والتي تجاوزت 90% وهذه أكبر نسبة مشاركة في تاريخ الانتخابات التي جرت في البلاد.

لماذا فاز “العدالة والتنمية”؟

ربما لم يكن أردوغان نفسه يتوقع هذه النسبة الكبيرة من الأصوات التي حصل عليها حزبه، إذ إنها فاقت نسبة الأصوات التي حصل عليها الحزب في انتخابات 2009 (38:8)، بل إن استطلاعات الرأي التي جرت خلال الفترة التي سبقت الانتخابات أعطت 45% كأعلى نسبة لحزب العدالة والتنمية.

وعليه، فإن نسبة 48% التي حصل عليها الحزب -طبقا لنتائج مؤقتة وغير رسمية- جاءت بمثابة الجواب القاطع من قبل الناخب التركي عن كل الأسئلة المثارة في الشارع التركي.

ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو: لماذا فاز حزب العدالة والتنمية بهذه النسبة الكبيرة من الأصوات؟

في محاولة للإجابة عن هذا السؤال لا بد من التوقف عند ما يلي:

1- النهوض الاقتصادي الذي حققه حزب العدالة والتنمية خلال العقد الماضي، وانعكاسه على مجمل نواحي الحياة المعيشية للمواطن التركي من سكن وتوفير فرص عمل ومؤشرات اقتصادية انصبا في خانة الإنجازات التي يرغب المواطن في المزيد منها.

2- حجم المشاريع العمرانية والتجارية والسياحية التي نفذت خلال حكم حزب العدالة والتنمية والتي كان آخرها تشييد نفق تحت الماء في البوسفور وجملة مشاريع سياحية في المناطق القديمة من إسطنبول، وهو الأمر الذي جعل من إسطنبول بشكل خاص وتركيا بشكل عام قبلة للسياحة.

3- إن تركيا التي عانت من الانقسامات والصراعات بين الإسلاميين والعلمانيين كانت دوما تحس بالحاجة إلى زعيم كاريزما، ورغم كل الانتقادات التي وجهت لأردوغان وسلوكياته وممارساته فإنه بقي يجسد هذا الرمز في الأوساط التركية التي رأت في عهده حالة من الإحساس بالدور التركي في السياسة الخارجية، والقدرة على إعادة صياغة تركيا في الداخل.

4- الحملة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية والتي قادها أردوغان بنفسه، إذ إنه زار في المتوسط خلال اليوم الواحد ثلاث مدن أو بلدات، ومارس سياسة التعبئة والحشد في الساحات، وهو ما أدى عمليا إلى الحفاظ على القاعدة الشعبية العريضة لحزب العدالة والتنمية، وكذلك على وحدة قيادة الحزب التي اهتزت بعد فضيحة الفساد.

5- إستراتيجية الهجوم التي اتبعها أردوغان في مواجهة الخصوم وتحويله فضيحة الفساد إلى معركة حقيقية ضدهم عبر إجراءات سياسية وقانونية حالت دون تداعيات كبيرة على حزب العدالة.

ولعل ما ساعد أردوغان على هذا الأمر هو أن الشارع التركي يعرف حجم الفساد داخل الدولة التركية منذ القدم، وقناعته بأن تفجر قضية الفساد على هذا النحو وفي هذا التوقيت له علاقة بالصراعات والخلافات الحزبية أكثر من قضية مكافحة الفساد.

6- ضعف أحزاب المعارضة وافتقارها إلى برامج حقيقية على المستوى الوطني، وقناعة قطاعات واسعة من الشعب بأن التحالفات التي حصلت بين أطراف هذه المعارضة -ولا سيما بين حزب الشعب الجمهوري العلماني وحركة غولن الإسلامية- لم تكن لأسباب مقنعة وحقيقية بقدر ما كانت نكاية بأردوغان ومحاولة لإسقاطه في صناديق الاقتراع.

7- إن الناخب التركي أكثر ما يهمه في هذه المرحلة هو الحفاظ على استقرار البلاد، ويبدو أنه على قناعة بأن الحزب الأقدر على تحقيق مثل هذا الهدف هو حزب العدالة والتنمية الذي يسيطر على الرئاسات الثلاث (البرلمان، الحكومة، الرئاسة)، فضلا عن امتلاكه الأغلبية في البرلمان، بما يعني كل ذلك من وجود دولة قوية قادرة على إدارة البلاد وتجنب الانقسامات التي باتت تلوح في الشارع التركي.

في الواقع، هذه العوامل وغيرها هي التي تقف وراء الفوز الكبير لحزب العدالة والتنمية، مع الإشارة إلى أن الخريطة السياسية الحزبية من الناحيتين الجغرافية والاجتماعية حافظت على توزعها القديم  وعززته.

ولعل خير من جسد هذه القاعدة هو الحالة الكردية في الشرق والجنوب، والحركة القومية وسط الأناضول، والعلمانية في المناطق البحرية ولا سيما أزمير، فيما حافظ حزب العدالة والتنمية على المدن الكبرى والريف في الوسط والغرب.

أردوغان والفوز

لعل أكثر شخص سعد بهذا الفوز هو رجب طيب أردوغان، فالرجل الذي هدد بالانسحاب من الحياة السياسية إذا خسر حزبه في الانتخابات يستطيع أن يقول اليوم إن شرعيته فوق كل شيء، وإن صوت الناخب التركي كان الرد الديمقراطي على كل الاتهامات التي وجهت له بالتورط في الفساد وممارسة الدكتاتورية، وإن ما جرى يعطيه الأحقية في التخطيط لقيادة تركيا بالمرحلة المقبلة كما خطط لها إلى عام 2024.

وعلى المستوى الشخصي، فإن أردوغان يرى أن الطريق إلى قصر تشنقايا الرئاسي بات مفروشا أمامه بصوت الناخب التركي الذي سينتخب بشكل مباشر لأول مرة رئيسا له بعد أن كان يتم انتخابه من قبل  في البرلمان، وعليه فإن أردوغان لن يتردد بعد اليوم لحظة في الترشح للانتخابات الرئاسية.

وأمام هذا الواقع السار لأردوغان وحزبه، والمر للمعارضة بكافة مشاربها السياسية فإن الأسئلة التي يطرحها الجميع في تركيا، هي: كيف سيكون أردوغان في المرحلة المقبلة؟ وكيف سيتعامل مع المعارضة؟ وهل سيستفيد من الوضع الجديد في محاربة خصومه السياسيين، ولا سيما الداعية فتح الله غولن، أم سينتهج سياسة تصالحية حفاظا على الوحدة الاجتماعية والسياسية للبلاد؟ وهل بعد هذا الفوز والنتائج الجيدة التي حققها حزب السلام والديمقراطية الكردي سيتشجع أردوغان على مقاربة حقيقة وعملية لحل القضية الكردية سلميا بعد أن تعثر هذا الحل في المرحلة الماضية على الرغم من كل الجهود التي بذلت والوعود التي أطلقت؟

لقد أنقذ أردوغان نفسه وحزبه من هزيمة توقعها كثيرون، وهو بفوزه في هذه الانتخابات نقل قيادته للبلاد إلى مرحلة جديدة مليئة بالتحديات والتطلعات معا.

جميع حقوق النشر محفوظة، الجزيرة

                      2014

الجزيرة نت

أنباء غير سارة/ امين قمورية

الأنباء الواردة من انقرة لن تسر المقيمين في قصر المهاجرين بدمشق ولا المشير الذي يستعد للاقامة بقصر الاتحادية بالقاهرة ولا آخرين في عواصم كثيرة. أردوغان خيب توقعات المحللين ومنجمي السياسة والاعلام بالفوز الكبير لحزبه في الانتخابات البلدية. كان الجميع يتكهّنون بحجم الخسارة التي سيمنى بها في هذا الاستحقاق المفصلي. صار السؤال ما هي الخطوة التالية لشاغل تركيا والاقليم منذ عشر سنين: رئاسة الجمهورية بصلاحيات واسعة، أم تعديل دستوري يتيح له ولاية رابعة في رئاسة الوزراء؟ وما هي خططه لمعارك مقبلة؟

الشرق الاوسط، نبع مفاجآت لم يتوقف منذ ثلاث سنوات. من تداعي حكم مبارك وبن علي والقذافي وعلي صالح، الى العزل المبكر لمرسي والصعود السريع للسيسي والفوز المدوي لروحاني والبقاء المديد للاسد، يضيف اردوغان مفاجأة جديدة الى السبحة الطويلة من المفاجآت. ومع كل مفاجأة يتغير معطى وتنقلب معادلة ويرتسم مشهد سياسي مغاير لما كان اعتيادياً.

بعد “الصفعة العثمانية” التي وجهها الى معارضيه، بات اردوغان طليق اليدين في الداخل والخارج بفضل ما يعتبره تفويضاً شعبياً له ولسياساته. بعض رفاقه الذين كانوا يضمرون سقوطه من اجل وراثة الحزب والزعامة الاسلامية في تركيا سيعودون اليوم الى بيت الطاعة مكسوري الجناح، والمعارضة العلمانية التي تبخرت من يدها فرصة استعادة السلطة في ذروة حرب الفضائح التي فتحت على الحكومة، لا بد لها ان تجهد كثيراً للملمة صفوفها قبل الاستحقاقين الانتخابيين التاليين. فالتعبئة المذهبية التي سعّر نارها حزب اردوغان في اللحظات الحرجة كانت أشد وقعاً في نفوس الناخبين من روائح الفساد والرشى. مع العلم ان هذا التحريض سيف ذو حدين، فقد دفع النافخون فيه اثماناً باهظة عندما ارتد عليهم لاحقا وخصوصاً في جوار تركيا من العراق الى سوريا الى لبنان.

عودة اردوغان مزهواً الى الساحة السياسية، تعطي جرعة تفاؤل لأنصار الاسلام السياسي بعد النكبة التي حلت بـ”الاخوان” بعزل مرسي صديق اردوغان ورديفه المصري وقد تجلب متاعب اضافية للسيسي الطامح الى حكم بلاد النيل. اما نظام دمشق فيكبر قلقه بعد المكاسب التي حققتها المعارضة في كسب وريف اللاذقية المحاذيين لتركيا وبدعم واضح من انقرة واصرار منها على مواصلة الحرب.

الزعيم العثماني المجدد له يخوض حروبه المقبلة في الداخل والخارج متسلحاً بتفويضين: الاول شعبي محلي، والثاني اميركي اوروبي أملته ضرورات ازمة القرم بين روسيا والغرب، ذلك ان تركيا التي تتحكم بالبحر الاسود خروجاً ودخولاً هي الدولة الوحيدة التي يمكنها التحكم بقدرة روسيا على الوصول الى البحر الابيض.

ما هي المفاجأة التالية وفي اي عاصمة ستدوي؟ الارجح ان الجواب قريب تبعاً للعادة الجديدة في الشرق الاوسط!

النهار

إعلان حرب على سوريا؟/ موناليزا فريحة

ما بدأ تسريبات وتلميحات صار التزاماً واضحاً بعد خطاب النصر لرئيس الوزراء رجب طيب أردوغان. مباشرة وبلا مواربة، أعلن الزعيم التركي الحرب على سوريا بحجة أنها تهدد طائراته وتقتل أبناءه، محذرا اياها من أن أي تعرض لقبر سليمان شاه، الجد الأكبر لمؤسس السلطنة العثمانية، هو تعرض لتركيا كلها.

في السنة الاخيرة، بدا اردوغان ضعيفا. الاحتجاجات على حكمه بلغت مستوى لا سابق لها. الغولنيون (نسبة الى انصار الداعية فتح الله غولن) الذين دبروا فضائح الفساد التي طاولت الكثير من حلفائه زعزعوا سلطته.”الدولة العميقة” التي تعمل من داخل حكومته نالت من هيبته. بدا وضعه هشاً الى درجة أنه لم يعد قادرا على تحمل حملات “يوتيوب” و”تويتر”. اما وقد جاءت نتائج الانتخابات البلدية لتثبت واقعا مختلفاً، فلن يتوانى أردوغان عن استغلاله لتصفية حساباته مع خصومه في الداخل والخارج تعزيزا لموقعه في الانتخابات الرئاسية المقررة في آب والتي يتوقع ان يترشح لها.

خطاب النصر الذي ألقاه أردوغان ينذر بموجة جديدة من الاضطرابات السياسية وتقييد الحريات في تركيا، بعدما سمى خصومه بوضوح. الا أنه يدل أيضا على عودة تركية قوية ، بعد انكفاء، الى ميدان الحرب السورية.

منذ فتحت المعارضة السورية فجأة جبهة الشمال الغربي في 21 آذار، كثرت الشبهات في ضلوع تركي مباشر في المعركة التي تستهدف مسقط النظام ويمكن أن توفر ممراً بحرياً للمعارضة. والى الحديث عن تنسيق تركي – قطري أتاح لمئات المقاتلين اجتياز الحدود التركية في اتجاه قرى ريف اللاذقية، يؤكد مراقبون أن هجوما كهذا لا يمكن أن ينجح من دون دعم لوجيستي وخط إمداد وعمق مساند.

ومع ذلك، ليست انتصارات المعارضة في معركة الساحل حاسمة حتى الآن. طرد القوات النظامية وقوات الدفاع الوطني من بلدة كسب الحدودية ومعبرها الحدودي مع تركيا، ومن بلدة السمرا التي هي بمثابة ممر جبلي مع منفذ على البحر وبعض المناطق المجاورة ، ليس تقدما استراتيجيا، وإن يكن ينطوي على رسالة واضحة للنظام ، بعد استعادته منطقة يبرود والمناطق المحيطة بها.

من الواضح أن توسيع الهجوم الساحلي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالقرار التركي وما اذا كانت أنقرة قررت فعلاً خوض المعركة حتى النهاية، وخصوصاً في ظل الحساسيات العلوية في تلك المنطقة وما يمكن أن ينعكس اضطرابات على أراضيها. خطاب النصر يوحي بأن أردوغان حسم أمره وقرر أن الطريق الى قصر جنقايا الرئاسي يمر باللاذقية. لكن اعلان حرب في ليلة نصر لا يكفي وحده لا للوصول الى القصر ولا لتغيير موازين القوى في سوريا.

النهار

عن فوز أردوغان.. وموقع غولين.. والخيارات الرئاسية/ محمد نور الدين

تركيا: أسئلة ما بعد الانتخابات

انتهت الانتخابات البلدية في تركيا باستمرار «حزب العدالة والتنمية» الحزب الأقوى ورئيس الحكومة رجب طيب اردوغان الزعيم الأول فيها. ولقد كانت النتائج غنية بأسئلتها وبدلالاتها وباحتمالات المرحلة المقبلة على أكثر من صعيد.

1- لماذا نال اردوغان 45 في المئة، واعتبر فائزا رغم تراجع أصواته عن الانتخابات النيابية؟

الإجابة ليست صعبة بل فائقة السهولة. أولا، إن 40 في المئة من الأتراك يعرّفون أنفسهم بأنهم متدينون، وهم لا يريدون أن يروا العلمانيين يعودون إلى السلطة وينكلون بهم من جديد كما حدث على امتداد العهد الجمهوري. وهم سيصوتون لأردوغان لأنه، أيضا، لا بديل إسلاميا له، إذ ان فتح الله غولين ليس زعيما سياسيا، وليس له حزب ولا مرشحون، وبالتالي فإن الناخب المتدين افتقد البديل عن أردوغان، وكان مضطرا للتصويت له حتى لو كان سارقاً او فاسداً او قاتلاً او دكتاتورياً.

ومن هنا الجواب عن سبب عدم تأثير فضائح الفساد في شعبية اردوغان بالنسبة التي كان خصومه يأملون بها. وبالتالي فإن اردوغان ينطلق مسبقاً من كتلة انتخابية تقارب الأربعين في المئة، وهي كافية ليبقى الحزب الأول في تركيا، وبفارق كبير وفي كل الانتخابات النيابية والبلدية.

لكن هذه القضية تطرح، في المقابل، مشكلة أخلاقية لدى الناخب المتدين، وهي: كيف يمكن للقيم الدينية والأخلاقية أن تحمي الفساد والرشوة ومصادرة الحريات؟

أما السبب الثاني لفوز اردوغان فهو أن بعض الفئات غير المتدينة وغير الحزبية استفادت من الانجازات الاقتصادية، ومن اقتصاد المكرمات والصدقات التي كان يوزعها «العدالة والتنمية» ونجح بها في استمالة بعض الفئات غير الحزبية، وغير المتدينة، ولو كانت بحدود 3-5 في المئة، والمستعدة للتصويت لمن يخدمها بمعزل عن انتمائه السياسي أو الإيديولوجي، وهي فئة تمثل نسبة، مهما كانت قليلة، قادرة على إحداث فارق في النتائج لمصلحة هذا أو ذاك في ظل احتدام الصراع.

والسبب الثالث هو الخطاب التخويفي لأردوغان من انه إذا خسر فسوف تنهار تركيا وتتراجع التنمية. ولم يكن المترددون وغير الحزبيين مستعدين لذلك، فوقعوا في دائرة الخوف على المكاسب.

والسبب الرابع والأهم في فوز اردوغان هو انقسام المعارضة على نفسها، وعدم دخولها في أي تحالفات أو تبادل أصوات، ولا في اي مدينة، ولو فعلت ذلك ولو بين حزبي «الحركة القومية» و«الشعب الجمهوري» لخسر اردوغان معظم المدن الرئيسية، وفي مقدمها اسطنبول وأنقرة وأنطاليا وغيرها، ولكانت وجهت ضربة قاتلة له. وهذا درس يجب أن تتعلمه المعارضة، فتغادر أنانياتها وحساسياتها إذا كانت تريد أن تتحرر من حكم اردوغان.

2- هل نجاح أردوغان هو هزيمة لجماعة فتح الله غولين؟

في المبدأ يمكن الإيجاب بنعم. لكن الأصوات التي خسرها اردوغان عن انتخابات العام 2011 بلغت خمسة في المئة، ويمكن أن تعكس قوة غولين. لكن غولين في النهاية ليس حالة سياسية وليس حزباً، ولا يوجد مرشحون له، وهو يمثل حالة نخبوية مؤثرة معنوياً، وفي الإعلام ليس أكثر. ومع ذلك كان يمكن لتأثير غولين أن يكون أكبر لو كان البديل الإسلامي لأردوغان موجوداً.

والناخب المتدين الذي كان يمكن أن يكون تأثر بغولين ربما لا يصوت لأردوغان، لكن من الصعب عليه أن يصوت لـ«حزب الشعب الجمهوري» العلماني، وبالتالي فإن تأثير غولين كان محدودا، لكن هذا لا يعني انتهاء الحالة التي يمثلها، لأنه يخوض معركة أساسها الأخلاقي متين، وهو محاربة الفساد ولا يمكن أن يوصف بأنه حليف للعلمانيين والعسكر، لأنه هو نفسه خاض أكبر المعارك ضدهم، وكان سابقا من أكبر ضحاياهم، بينما أردوغان نفسه يعيد حبك التحالفات مع العسكر، وأطلق سراح الجنرالات، وهو الذي كان سجنهم، وبالتالي فإن معركة غولين الأخلاقية أقوى بكثير من معركة اردوغان، الذي لم يحقق حتى الآن بقضايا الفساد رغم مرور حوالي أربعة أشهر على انفضاحها ومحاولته طمسها.

3- هل نتائج الانتخابات ستدفع اردوغان للترشح إلى رئاسة الجمهورية، وما هي حظوظ فوزه بها في حال الترشح؟

لقد تراجعت أصوات اردوغان من 50 إلى 45 في المئة في الانتخابات، لكنها كانت كافية ليقول انه مرشح قوي جدا لرئاسة الجمهورية. ولكن في حساب بسيط لأرقام النتائج فإن اردوغان نال في نتائج الانتخابات البلدية 45 في المئة، بينما لم يصوت له 55 في المئة. فإذا اجتمعت المعارضة على مرشح واحد ضد اردوغان فبإمكانها هزيمته.

لكن الشك كبير في توحد المعارضة على مرشح واحد. وهنا يبرز دور الكتلة الكردية المؤيدة لزعيم «حزب العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان في ترجيح هذا المرشح أو ذاك، فمجموع أصوات حزبي المعارضة «الشعب الجمهوري» و«الحركة القومية» هو على التوالي 29 و15 في المئة، أي 44 في المئة، أي ما يعادل النسبة التي نالها اردوغان. وهنا سيكون للحزبين الكرديين، اللذين مثّلا أوجلان في الانتخابات، الدور المرجح لفوز إما اردوغان أو مرشح المعارضة، في حال اتفق «الشعب الجمهوري» و«الحركة القومية» على مرشح واحد. فقد فاز الحزبان الكرديان، «السلام والديموقراطية» و«الشعوب الديموقراطي»، بمجموع يقارب السبعة في المئة قادرة على ترجيح كفة هذا أو ذاك.

لكن السؤال هل يمكن للأكراد أن يصوتوا لمرشح دعمه حزب «الحركة القومية» المتشدد أو حتى «الشعب الجمهوري» الذي لا يحظي بشعبية في الوسط الكردي؟ الجواب بالنفي. وبين اردوغان أو مرشح القوميين والأتاتوركيين فإن الأكراد قد لا يختارون حتى المقاطعة، لأن هدفهم الأساسي منع وصول مرشح معاد للأكراد إلى سدة الرئاسة، لكن ذلك لا يعني أنهم سيصوتون لأردوغان من دون ثمن مهم.

لقد اعتبر الأكراد أنهم صوتوا في الانتخابات البلدية للحكم الذاتي، كما أعلن مرشحوهم. وستدفع هذه النتائج إلى تسريع حسم المشكلة الكردية، إما باتجاه الحل السلمي ولو جزئيا، حيث قد يكون اردوغان مضطرا لإعطاء بعض التنازلات للأكراد، وهي في النهاية ليست عطاء بل حق لهم، أو أن يرفض تقديم تنازلات فيعود الأكراد من جديد الى العمل المسلح، متسلحين هذه المرة بتفويض نتائج الانتخابات البلدية. وهنا سيجد اردوغان نفسه بين خيارات مُرة: إما تقديم تنازلات للأكراد والمخاطرة بخسارة أصوات قومية، أو تغليب نزعته القومية، وربما التحالف الضمني مع «حزب الحركة القومية» فيضمن الرئاسة من دون تقديم أي تنازل للأكراد، مع المغامرة بإدخال البلاد في مرحلة حرب أهلية مسلحة مع الأكراد.

وقد يحاول أردوغان السير على البيض، فيرضي الأكراد ببعض القشور ويرضي القوميين بقشور أخرى. وبالتالي فإن حسابات المعركة الرئاسية معقدة، وإن كان اردوغان يمسك بخيوط اللعبة ومفاتيح الفوز إلى حد كبير.

محمد نور الدين

السفير

ربيع أردوغان وخريف غولن!/  هوشنك أوسي

قبل ما يزيد على شهرين، وفي شريط فيديو لحليف رجب طيب أردوغان السابق، فتح الله غولن، نشر على مواقع التواصل الاجتماعي، ظهر غولن دامع العينين، وهو يغمز من قناة حكومة حزب العدالة والتنمية ورئيسها أردوغان، بحرقة ومرارة، من دون أن يشير إليهما بالإسم. جاء ذلك في سياق الصراع على السلطة بين جماعة غولن والحزب الحاكم في تركيا، وإشهار الجماعة ملفات فساد في وجهة حكومة اردوغان، بغية إسقاطه، وردّ الأخير بحملة واسعة النطاق لمكافحة أنصار غولن في مؤسسات الدولة، الأمنيّة والقضائيّة والإعلاميّة، مع حظر المدارس والمعاهد الدينيّة التابعة له. وعليه، بعد 11 سنة من التحالف الاستراتيجي بين غولن وأردوغان، واستفادة واحدهما من الآخر، حان وقت انفضاض الشراكة، وتحوّل الوئام بينهما إلى خصام، ثم إلى صدام حاد وصل بأردوغان إلى اتهام غولن بالخيانة، ووصف جماعته بـ «الخونة والارهابيين»، وبـ «الدولة الموازية، داخل الدولة».

لكنّ أردوغان ردّ على غولن عبر صناديق الاقتراع أيضاً يوم 30 من الشهر الماضي، وحقق نصراً كبيراً، وسط اشتداد تهم الفساد التي طاولته ونجله وحكومته. وأقلّ ما يمكن قوله في نتائج الانتخابات المحليّة، أنها أظهرت بأن دعاء غولن على أردوغان وحزبه، المذكور آنفاً، لم يكن مستجاباً!

لقد خدم غولن أردوغان وحكومته طيلة 11 سنة. وحتّى أثناء فض الشراكة بينهما، وانزلاقهما إلى العداوة، خدم غولن أردوغان من حيث لا يحتسب. ذلك أن حزب العدالة والتنمية، وبعد عقدٍ ونيّف من الحكم والانجازات الاقتصاديّة والمشاريع التنمويّة، دخل مرحلة الاطمئنان على المستقبل، الى درجة الخمول. وأتت فضيحة الفساد التي أشهرتها جماعة غولن في وجه أردوغان وحكومته، ومسلسل التسجيلات الصوتيّة المسرّبة، لتنبّه وتنشّط الحزب، وتفتح عيني أردوغان على مَن يحفر له من تحت قدميه، وتكشف أعداءه الداخليين. هكذا انقضّ عليهم، بشكل سريع ومباغت وشرس، دونما اكتراث بالانتقادات الموجّهة إليه وإلى سلوكه، بحيث أصبح صراعهما مسألة «أكون أو لا أكون».

وعشيّة الانتخابات البلديّة، قدّمت جماعة غولن خدمة كبرى وعظيمة لأردوغان وحزبه، بارتكاب خطأ فادح، عبر تسريب شريط لاجتماع سرّي جمع وزير الخارجيّة ومدير المخابرات ونائب رئيس هيئة الأركان، للتباحث في احتمال تدخّل عسكري في سورية. تسريب هذا الشريط استثمره أردوغان الى حدود قصوى كتجسس وإفشاء لأسرار الدولة، وانه لا يستهدف حكومته بل الأمن القومي لتركيا. ونجح بهذا عبر العزف على الوتر القومي ودغدغة الغرائز القوميّة. هكذا قلب الطاولة ليس فقط على جماعة غولن، بل على المعارضة أيضاً، من دون أن ننسى أنه بتسريب ذلك الشريط او من دونه، كان حزب العدالة والتنمية سيحقق فوزاً مريحاً. على أن التسريب أتى يصبّ الزيت على نار الخصومة ويقدم مبرراً قوياً للحكومة كي تجعل مرحلة ما بعد الانتخابات المحليّة مرحلة للثأر من كل من أساء لأردوغان وحكومته، وفي مقدّمهم غولن وجماعته! ظهر ذلك جليّاً في خطاب الشرفة أو خطاب النصر الذي ألقاه أردوغان من شرفة مقرّ حزبه في أنقرة، وجاء خليطاً من التشفّي بالمعارضة، والتهديد والوعيد لغولن، ووصف جماعته بـ «الخونة» وأنهم «سيدفعون الثمن».

نتائج الانتخابات الأخيرة، زد على كونها المنصّة التي سيقف عليها أردوغان لاعتلاء «عرش» سلطنته – سلطته بالوصول إلى رئاسة الجمهوريّة، كرّست انزلاق تركيا نحو المزيد من نظام الحزب الواحد، لأجل غير مسمّى. ما يعني أن الربيع الحقيقي لأردوغان سيبدأ في آب (أغسطس) المقبل، حين يفوز برئاسة الجمهوريّة، بعد زيادة صلاحيّات هذا المنصب، بحيث يصبح النظام السياسي رئاسيّاً على شاكلة ما هو موجود في أميركا، فيما سيقضي غولن بقية حياته ملاحقاً، مطارداً من أردوغان، خصوصاً حين يتم إعلان جماعته منظمة إرهابيّة، ومطالبة أميركا وأوروبا بتسليمه للسلطات التركيّة. أمّا بخصوص التحقيقات المتعلقّة بفضيحة الفساد التي طاولت وزراء في حكومة أردوغان، ووصلت إلى نجله بلال، فسيُصار إلى «لفلفتها» واعتبارها باطلة وكيديّة.

* كاتب كردي

الحياة

الانتخابات التركية: هل قفز أردوغان من المقلاة… إلى النار؟/ صبحي حديدي

خليط عجيب متنوّع، متطابق أو متنافر، تركيّ محليّ، أو سوريّ جار، أو عربي وإقليمي، أو آسيوي ودولي، مسلم أوّلاً ثمّ مسيحي أو يهودي… راقب نتائج الانتخابات البلدية التي شهدتها تركيا مؤخراً؛ بأعين حصيفة تارة، وبأخرى منحازة طوراً، ليس دون مقادير غير مألوفة من النبوءات والتقديرات والاستنتاجات؛ وكأنها أمّ الانتخابات التركية جمعاء، تشريعية ورئاسية، وليست بلدية صرفة في نهاية المطاف! ولم يكن عسيراً على المرء أن يلمس مؤشرات الترقب الحادة، كما عكستها المواقف في دمشق أو الضاحية الجنوبية أو بغداد أو طهران أو القدس المحتلة أو القاهرة أو الرياض، فضلاً عن واشنطن وبروكسيل وموسكو وبرلين، وربما كييف أيضاً؛ ليس على صعيد الأنظمة والأجهزة والحكومات والمؤسسات، سياسة واقتصاداً وأمناً، فحسب؛ بل كذلك، والأهمّ، على مستوى الأفراد والجماعات والشعوب…

الأسباب كثيرة، بالطبع، ومتشعبة متداخلة على شاكلة الخليط المراقِب؛ لعلّ أوّلها، وأبرزها، أنّ تركيا ـ في عهد ‘حزب العدالة والتنمية’ عموماً، ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان خصوصاً ـ لعبت، وما تزال، سلسلة أدوار محورية في موازنات ‘الربيع العربي’؛ وهذه هي الانتخابات الأولى للأتراك منذ انطلاق الانتفاضات العربية، وثمة بالتالي جملة حيثيات تجعل صندوق الاقتراع حَكَماً حول السياسة التركية إزاء تلك الانتفاضات، وفي المنطقة إجمالاً. ومن المدهش أنّ المعارضة التركية، وخاصة ممثلها الأكبر ‘حزب الشعب الجمهوري’، سقط في فخّ من صنع المعارضة ذاتها: أي تحويل الانتخابات البلدية إلى تصويت على عدم شرعية، وربما عدم أهلية، أردوغان وحزبه؛ ليس استناداً إلى فضائح الفساد وأشرطة التنصّت وكمّ الأفواه وحظر مواقع التواصل الاجتماعي، أو شؤون وشجون الملفات البلدية المحلية في المدن والأرياف؛ بل حول ‘الدولة الموازية’ التي يديرها فتح الله غولن (وذلك تكتيك انتخابي اعتمده ‘حزب العدالة والتنمية’، وانزلقت إليه المعارضة راغبة سعيدة، وحمقاء أيضاً!)، وحول مواقف أردوغان المناهضة لنظام بشار الأسد، أو المتعاطفة مع الإخوان المسلمين في مصر، أو الفاترة مع إسرائيل…

وحتى لو صحّ بعض ما يُنسب إلى غولن وأنصاره (وهم، للإنصاف، أفضل ارتكازاً في مؤسسات الشرطة والقضاء، وأعمق توغلاً في أنظمة التعليم الديني والإسلام الشعبي العريض)، فإنّ المعارضة هي آخر المستفيدين من أيّ تناطح بين أردوغان وغولن، وأية مناورات مضادة يمكن أن تلجأ إليها ‘الدولة الموازية’. فالأخير ظلّ حليفاً للأوّل طيلة سنوات، وحركته امتداد طبيعي، وقد يجوز اعتبارها وليداً شرعياً، للإسلام السياسي التركي، منذ نجم الدين أربكان وحتى ما بعد المنفى الاختياري الذي فرضه غولن على نفسه؛ وليست الشروط الوطنية الراهنة، وخاصة ازدهار تركيا الاقتصادي، بالسياقات الأنسب لقطف ثمار أيّة خصومة مع ‘حزب العدالة والتنمية’، أو مع شخص أردوغان في شعبيته الحالية التي لا يلوح أنّ الفضائح أتت على الكثير من معدّلاتها العالية.

‘لقد قفز أردوغان من المقلاة، ولكن إلى النار’، يكتب هنري باركي، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة ليهاين بنسلفينيا، وأحد الذين راهنوا وتنبأوا بضربة موجعة لأردوغان وحزبه؛ دون أن يراهن، في المقابل، على فوز المعارضة أو أنها ستتعلّم أيّ درس مفيد من هذه الانتخابات، خاصة لجهة تجديد دمائها، أو إدخال عناصر شابة إلى قياداتها. لماذا، إذاً، نجا أردوغان من المقلاة، ليسقط في نيران من طراز آخر؟ إنها الانتخابات الرئاسية، في شهر آب (أغسطس) القادم، حيث سيتعيّن على أردوغان أن يتجاوز ثلاث عقبات، دفعة واحدة، إذا فكّر في الترشيح لهذا المنصب: تحييد عبد الله غل، رفيق دربه والرئيس الحالي؛ والحصــول على نسبة تتجاوز الـ50′، كشرط لا غنى عنه للفوز؛ وكسب ودّ الأكراد، وحزبهم الأبرز ‘السلام والديمقراطية’، إذْ يصعب حيازة النسبة المطلوبة دون انضمام هؤلاء.

مساجلة منطقية تماماً، ما خلا أنّ باركي يتناسى ملابسات الاستفتاء على التعديلات الدستورية، والذي شهدته تركيا في خريف 2010، حين بدا أنّ الشارع الشعبي التركي قد قطع خطوة ملموسة، نوعية تماماً وفارقة، على درب النموذج الديمقراطي التركي؛ في طبعاته الكمالية الكلاسيكية، أو في تحوّلاته التي قد يصحّ نسبها إلى الإسلام التركي المستنير. لقد أسفر التصويت عن نسبة 58′ لصالح التعديلات، من أصل نسبة مشاركة بلغت 77′؛ كما اتضح أنّ خطوط التصويت كانت عابرة للانقسامات الحزبية أو السياسية أو الإثنية أو الدينية، فأعطت بالتالي إشارات ديمقراطية بليغة لا تقبل التأويل المضاد، ولا الاختزال أو التبخيس.

موقف أكراد تركيا، على سبيل المثال الأبرز، حمل دلالة كبرى في هذا السياق. فبالرغم من دعوة ‘السلام والديمقراطية’ إلى مقاطعة الاستفتاء، لسبب وجيه في الواقع هو أنّ التعديلات لم تلحظ ردّ المظالم الكثيرة التي لحقت وتلحق بالأكراد؛ فإنّ فئات واسعة من الجماهير الكردية سارعت إلى المشاركة والتصويت لصالح التعديلات، من منطلق تمكين القوى الشعبية على حساب المؤسسات البيروقراطية والعسكرتاريا التي تناهض تقديم أيّ تنازل يدعم الهوية القومية الكردية. وكان مدهشاً أن تؤيد التعديلات نسبة عالية من المشاركين في الاستفتاء، على امتداد المناطق الشرقية ذات الأغلبية الكردية الطاغية.

وذلك الاستفتاء، بالغ الأهمية، أدخل تركيا في مرحلة جديدة على طريق تقويض نظام الوصاية العسكري الذي أرسته الفلسفة الأتاتوركية منذ مطلع عشرينيات القرن الماضي؛ رغم أنه لم يمسّ روحية المادّتَيْن 35 و85 من النظام الداخلي للجيش، حيث تُناط بالمؤسسة العسكرية مهامّ الحفاظ على النظام العلماني، والعمل على حمايته بكلّ الوسائل، بما في ذلك تجريد السلاح. ذلك يعيدنا إلى ما نستعرضه عادة من سلسلة أسباب، تاريخية واجتماعية وثقافية، كانت وتظلّ وراء إيمان العسكر بأنّ إعلاء كلمة الجيش فوق الدستور والديمقراطية إنما هو في صالح المجتمع والبلاد. أهمّ هذه الأسباب أنّ الكمالية، التي أسسها أتاتورك كإيديولوجية رسمية ثمّ طوّرها عبر سلسلة مؤتمرات لـ’الحزب الجمهوري الشعبي’ بين عام 1927 و1935، تُسند إلى العسكر وظيفة ‘الحارس′ على الأمن الإيديولوجي للأمّة التركية، لا سيما حين يُصنّف هذا الطراز المحدّد من الأمن في خانة أبرز فروع الأمن القومي العام.

ولقد مرّ زمن طويل شهد امتداد صلاحيات مجلس الأمن القومي إلى إبداء التوصيات، ذات الأولوية دائماً، في المسائل الحساسة التالية: تحديد المناهج التربوية للمدارس، تنظيم أقنية التلفزة والإذاعة والإشراف عليها، رفع الحصانة البرلمانية عن الأعضاء الأكراد، التدخل في التعيينات الإدارية لموظفي الدرجة الأولى في مناطق محددة من الوطن التركي، تمديد فترات الخدمة الإلزامية لفئات معينة من المواطنين، اقتراح صياغات للتحالفات البرلمانية إثر كل انتخابات تشريعية، تحديد جوهر مشاريع القوانين المتعلقة بمكافحة الإرهاب قبل تقديمها إلى البرلمان، تحديد النظام الداخلي والمناهج التربوية للمدارس الإسلامية الخاصة، وتحديد حجم ونطاق الساعات المخصصة لتدريس اللغة العربية كلغة ثانية في المدارس…

ومضى زمن شهد ترنّح الديمقراطية الأتاتوركية تحت الضربات المتلاحقة التي لم يتردد جنرالات الجيش، أنفسهم، في تسديدها إلى قلب التجربة. وفعل الجنرالات هذا مراراً وتكراراً، كلما تعيّن أن يشهروا المسدّسات استناداً إلى تقديرات مجلس الأمن القومي التركي، بوصفه الحارس الساهر على العلمانية، والفريق الوحيد الذي يمتلك الحقّ في الاجتهاد العلماني، وتحويل محتوى الاجتهاد إلى قرارات ملزمة للمجتمع. وكان يستوي، هنا، أن يطوّع الجيش القانون (المحكمة الدستورية، وحلّ الأحزاب: 24 مرّة)؛ أو أن ينصب حبل المشنقة (كما في مثال عدنان مندريس، أوّل زعيم سياسي منتخب ديمقراطياً في تاريخ تركيا الحديث، ورئيس الوزراء خلال فترة 1950 ـ 1960)؛ أو أن يلجأ إلى الإنقلاب العسكري، بوصفه ذروة العلاج بالكيّ.

كذلك مرّت عقود شهدت مهازل القضاء التركي ضدّ الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرّيات العامة، ولم يكن النواب الأكراد (العلمانيون تماماً، الماركسيون أو اليساريون أو الليبراليون غالباً)، هم وحدهم ضحايا هذه العربدة الدستورية. وفي صفّ الساسة، لم يكن أربكان، الزعيم السابق لحزب ‘الرفاه’ الإسلامي المنحلّ، هو الوحيد الذي طُرد من باب السياسة ليعود ثانية من نافذتها، إذْ يبدو السجلّ طريفاً وحافلاً. فالحزب الذي لجأت المحكمة الدستورية إلى حلّه سنة 1997، كان الثــالث الذي أسّسه أربكان خلال نحو ربع قرن: الأوّل كان ‘حزب النظام الوطني’ وتأسس في العام 1970، لكي يتعرّض للحلّ على يد الطغمة العسكرية التي قادت انقلاب عام 1971؛ والثاني كان ‘حزب الإنقاذ’، وتأسس بعد وقت قصير من انسحاب العسكر إلى الثكنات، لكي يُحلّ مرة ثانية إثر الإنقلاب العسكري لعام 1980!

صحيح، بالطبع، وكما قيل مراراً، أنّ الديمقراطية التركية في خلاصتها، وديمقراطية ‘العدالة والتنمية’ جزء لا يتجزأ من عمارتها، تعاني من معضلات بنيوية شتى؛ بينها التمييز ضدّ الهويات الثقافية والإثنية والدينية (الكرد، وفئات العلويين، والطوائف المسيحية)، مقابل إعلاء شأن الهوية التركية؛ وأنّ الأنظمة الحزبية والانتخابية توطّد شبكات الولاء والهيمنة، عن طريق توظيف المال والأعمال والإعلام بصفة خاصة، على حساب التمثيل البرلماني الأكثر أمانة للشرائح الشعبية؛ وأنّ أردوغان يمارس، شخصياً، نفوذاً واسع النطاق، سلطانيّ الصبغة، وليس البتة ديمقراطياً وتشاورياً دائمـــاً، داخل مؤسسات حزبه. ولكن… أيّة ديمقراطــيــة هي الكاملة، في أيّ بلد، وأيّ زمن؟

وهكذا فإنّ بقاء الديمقراطية التركية برهان على أنّ المجتمعات المسلمة ليست قاتلة العلمانية، بالتعريف الجامع المانع، وعلى نحو مسبق مطلق؛ وأنّ المسافة بين التركي المسلم العابد في مسجده، والقاضي المسلم العلماني في دار المحكمة، ليست بالضرورة درب تفكك وخصام وآلام. ليس من الإجحاف القول بأنّ هذه الديمقراطية ترزح، اليوم، تحت وطأة شخص أردوغان، الذي أخذ يفقد صوابه السياسي، وصار يضرب ذات اليمين والشمال؛ فينقضّ تارة على الصحافة، التركية والعالمية، وطوراً على الـ’تويتر’ والـ’يوتيوب’؛ وقبل هذا وذاك، يخسر حلفاء الأمس القريب، أو يكسب المزيد من الخصوم. وفي المقابل، ثمة إجحاف بالغ بحقّ هذه الديمقراطية، إذا رُبطت هكذا، على نحو أوتوماتيكي جامد، بشخص أردوغان أوّلاً، وجوهرياً، وفردياً.

وأن يقفز رئيس الوزراء التركي من المقلاة اليوم، أمر يفتح مستقبل الانتخابات الرئاسية القادمة على احتمالات شتى، بل على الاحتمالات كافة في الواقع؛ وليس على ذلك السيناريو الوحيد، الذي يستبدل الرمضاء بالنار، فقط وحصرياً!

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

سقوط السلطان التركي!/ راجح الخوري

ربح رجب طيب اردوغان الانتخابات البلدية ومن المؤكد انه سيفوز في الانتخابات الرئاسية، ولأنه هدد بانزال اشد العقوبات بمعارضيه الذين اتهموه بالفساد يتساءل البعض: ماذا سيفعل، هل سيلقي بمعارضيه من سطوح الابنية على ما فعل رفاقه “الاخوان المسلمون” في مصر، وخصوصاً بعدما وصفهم بالحشرات والخساسة؟

اردوغان المتربع على الحكم في تركيا منذ ١١ عاماً، بدا اخيراً كنسخة من الباب العالي العثماني، فهو يتصرف بفوقية السلاطين المفعمة باستعراضية نافرة، بما يناقض صورته السابقة التي اثارت الاعجاب في الغرب، وقدمته كنموذج جديد ومقنع عن اسلام سياسي حليق الذقن يضع رباط العنق ويسلك مساراً تصالحياً في ظل شعار “صفر مشاكل مع الجيران” الذي واكب صعوده في الحكم!

لقد انكشف زيف هذا الشعار، سواء في الداخل حيث لم يقدر على تحمّل انتقادات معارضيه فاعتبرهم من المأجورين، وسواء في الخارج حيث لا تبدو علاقاته مع الجيران مرتاحة، وخصوصاً بعد انهيار مشروع “أخونة” المنطقة الذي ظهرت حقائقه السلبية في مصر. ومن الغريب ان يكيل اردوغان الاتهامات لعبد الفتاح السيسي الذي لم يمنع “الاخوان” من التظاهر ولم يوقف “تويتر” و”يوتيوب”، كما فعل هو عندما منع الاتراك من التعبير عن آرائهم، الأمر الذي قدّم عنه صورة بشعة.

ربما يكون نجاحه في ترويض الجنرالات والمؤسسة العسكرية القوية المدججة بخلفيتها الاتاتوركية التي شكّلت دائماً ركائز الدولة العميقة في تركيا، هو الذي جعله يتصرف بعقلية السلاطين ويقترف اخطاءهم ايضاً، فمنذ احداث ساحة تقسيم الى اليوم ضاعف عدد مناوئيه واظهر ميلاً واضحاً الى التسلّط، وان كان لا يزال يملك شعبية واسعة كما اظهرت الانتخابات البلدية!

فوز اردوغان في الانتخابات لا يستحق الزهو لأن سمعته الخارجية في الحضيض، وخصوصاً بعد تسريب تقرير من ٣٠٠ صفحة وضعه الادعاء العام التركي، وفيه طوفان من الاتهامات التي تؤكد تورط حكومته في عمليات الفساد والتزوير وتبييض الأموال، وفق برنامج واسع ساعد ايران على الالتفاف على العقوبات الدولية المفروضة عليها!

مجلة “فورين بوليسي” تقول انطلاقاً من هذا التقرير ان تركيا كانت البلد المفضّل عند ايران للالتفاف على العقوبات، وان شركات وهمية وسماسرة نافذين لدى الحكومة في انحاء تركيا شاركوا، بمساعدة كيانات مالية في دبي والصين، في تبييض عائدات النفط والغاز وتحويلها الى ايران انتهاكاً للعقوبات، وان “بنك خلق” التركي لعب دوراً بارزاً في هذا، كما ان تركيا اجرت صفقات مقايضة غير قانونية بالذهب قيمتها عشرات المليارات من الدولارات لمصلحة ايران، ولهذا قامت اميركا بادراج تركيا ضمن الدول التي تشكل خطراً على النظام المالي العالمي، وهذا كفيل بتدمير صورة اردوغان في الخارج والداخل!

النهار

انتقام أردوغان/ وحيد عبدالمجيد

  مازال رئيس الوزراء التركى رجب طيب أردوغان مصاباً بعصبية مفرطة رغم أن الفوز الذى حققه حزبه (العدالة والتنمية) فى الانتخابات البلدية الأسبوع الماضى كان مفترضاً أن يساعد فى تهدئته، هدد أردوغان وتوعد واستخدم خطاباً انتقامياً اقصائياً يفيض بالكراهية.

كما لجأ إلى «لغة» لابد أن تثير قلقاً شديداً على المستوى الإقليمى، وليس فقط لدى خصومه فى تركيا، عندما هدد بما أسماه «صفعة عثمانية».

إنه الانتقام إذن. يظن أردوغان أن حشد أنصاره فى الانتخابات يكفى لتبرئته من قضايا الفساد المتهم فيها عدد من أركان نظامه. وهو يخلط بين عملية انتخابية تتأثر بمعطيات متغيرة، وأخرى قضائية لا يصح أن تتأثر إلا بقواعد القانون ومعايير العدالة.

ومع ذلك تثير نتائج الانتخابات البلدية سؤالاً ملحاً عن كيفية فوز حزب ارتكب زعيمه أخطاء كبرى متوالية على مدى أكثر من عام، غير أن صناديق الاقتراع ليست هى عنوان الصواب دائماً. فكثيراً ما يسئ الناخبون الاختيار. ولكن إساءة خصوم أردوغان استخدام أدواتهم فى الحملة عليه أدت إلى نتائج عكسية، فقد أفرطوا فى الهجوم عليه، وبث روايات عن فساد حكمه بصورة مبالغ فيها على نحو أتاح له فرصة لإقناع قطاع يُعتد به ممن صدمهم هذا الفساد بأنه ضحية مؤامرة مستنداً إلى ضخامة الحملة عليه.

فقد نجح فى ترويج زعمه أن حملة بهذا الحجم لابد أن تكون مدبرة، وبالتالى تشكيك من أساءهم فساده وأغضبهم غروره السلطوى فى سلامة الاتهامات الموجهة ضده، كما أن ضخامة الحملة عليه وَّحدت حزبه تحت قيادته بعد أن كانت قطاعات متزايدة من أعضائه تتجه إلى مراجعة موقفها.

ولذلك لا يُعد فوز أردوغان دليل قوة بخلاف ما يظنه ويدفعه إلى التهديد بالويل والثبور، وربما يعجل هذا الفوز ببدء العد التنازلى لسلطته بخلاف ما يبدو على السطح حتى الآن، لأن غرور السلطة الذى انتابه فى العامين الأخيرين بصفة خاصة سيتنامى، وسيؤدى ذلك إلى مزيد من التوتر والاحتقان، فما اتعسهم الحكام الذين يستبد بهم غرور السلطة حين يطول بقاؤهم فيها، وما أشقاها البلاد التى لا يتعظ من يحكمونها بما حدث لمن أغوتهم السلطة قبلهم فكانت نهاياتهم مؤلمة.

الاهرام

حزب الشعب العلماني رشح محجبة وابن شقيق اربكان في حي الفاتح باسطنبول

الانتخابات التركية تكشف مدى تأثير الانتماءات الطائفية والعرقية في توجيه اصوات الناخبين

انطاكيا ـ ‘القدس العربي’ من وائل عصام:اظهرت نتائج الانتخابات التركية مدى سطوة الانتماءات العرقية والطائفية على الناخب التركي ، وبقاءها كعامل مؤثر في توجيه الولاءات السياسية الحزبية.

ويمكن لمن يشاهد خارطة تركيا موضحا عليها بالالوان الاحزاب الفائزة بالانتخابات الاخيرة ان يلحظ ارتباط النفوذ بين كل حزب سياسي وبين لون سكاني معين في تركيا.

بحيث شكل الاتراك السنة الكلتة الانتخابية الاكبر لحزب العدالة والتنمية ، والعلويين الاتراك والعرب الكتلة الاساسية الاكبر لحزب الشعب الاتاتوركي ، والاكراد في شرق البلاد الكتلة الاساسية لحزب السلام الديمقراطي، بينما حصل حزب الشعب القومي على اصواته من السنة الذين لم ينتخبوا حزب العدالة.

وهو ما يؤشر قوة “الانتماءات العميقة” وتجذر الهوية الاثنية في المجتمع التركي وغلبتها على التحزب السياسي ، تماما كما هو معظم بلدان المشرق العربي حيث باتت المقولة الرائجة في وصف انتماءات المجتمع: لا صوت يعلو فوق صوت الطائفة او القبيلة.

ويوافق الباحث التركي زاهد غول على هذه الرؤية عموما ويشير الى انها تلعب دورا حاسما في الانتخابات، ويضيف عليها العامل العائلي والعشائري موضحا انه في محافظات كاضنة ومردين لا مجال لفوز اي حزب دون التحالفات مع كبرى العائلات “اينما كبار القادة العشائريون سينتخبونهم الناس، سواء كانوا مع هذا الحزب او ذاك”.

وبينما تتوزع اصوات السنة بين حزب اردوغان ( وهم الاغلبية) وحزب الشعب القومي فان العلويين يمنحون اصواتهم باغلبية كبيرة لحزب الشعب الاتاتوركي..لكن ايضا هناك نسبة من السنة تمنح اصواتها لحزب الشعب الاتاتوركي وهم العلمانيون او اليساريون المتعصبون والذين ارتبطت عائلاتهم بالمشروع الاتاتاوركي والمؤسسة العسكرية بعد انهيار الحكم العثماني.

ويعلق زاهد غول موضحا لـ”القدس العربي”، “حتى في اسطنبول صوتت الاحياء ذات النسبة الكبيرة من العلويين لصالح حزب الشعب وباغلبية ساحقة ، فاحياء ارتوكوي وبشكتاش وقاضي كوي حصلت على نسب تفوق الـ 70 بالمائة لحزب ال GHP وكذلك الامر في انقرة كحي شانكنيا.

ايضا علينا ان نتذكر ان نخبة العلمانيين الاتاتوكيين من السنة ايضا تقيم في هذه الاحياء، واتاتورك نفسه كان يقيم في بشكتاش.

ولكن الباحث الاكاديمي والاعلامي التركي د عمر فاروق ينبه في حديثه لـ”القدس العربي”، الى الى ان هذه الرؤية “لا يمكن تعميمها بشكل مطلق في تركيا”.

ويوضح “من الناحية المبدأية هناك نسبة من الصحة في هذا الكلام، لكن ايضا لا يمكن ان تعتبرها قاعدة مطلقة، بل ان هناك مدن فيها نسبة كبيرة من العلويبن انتخبت حزب العدالة مثل سايسون وغيرها، وهناك بعض العلويين اليساريين المتعصبين يعتبرون انفسهم (علويون بلا علي) هؤلاء مختلفون عن العلويين المتدينين”.

وفي محاولة من حزب الشعب الاتاتوركي لخرق الحاضنات الشعبية السنية المحافظة لحزب اردوغان قام الحزب العلماني بترشيح سيدة محجبة لرئاسة احدى البلديات بالوزويو في مفارقة نادرة، من الحزب الذي طالما حارب قوانين لصالح المحجبات في تركيا، طبعا خسرت المرشحة المحجبة امام مرشح حزبزالعدالة ،ً لانها حسب تعليق البعض مازحا “محجبة اتاتوركية”.

كما قام الحزب الاتاوركي بترشيح ابن شقيق الزعيم الاسلامي اربكان في بلدية الفاتح معقل اردوغان في اسطنبول، وهي ايضا مفارقة لا تقل عن المرشحة المحجبة.

ايضا خسر قريب اربكان امام مرشح العدالة والتنمية ولكنه حقق نتائج طيبة تجاوزت ثلث الاصوات لحزب ال GHP في منطقة الفاتح.

ولعل ما يدفع المناطق التي تعتبر ذات كثافة سكانية للعلويين للتصويت وباغلبية ساحقة لحزب الشعب الاتاتوركي هو نظرة العلويين لحزب اتاتورك انه “مخلصهم” التاريخي من الامبراطورية العثمانية التي يتهمونها بارتكاب مجازر ضدهم في انطاكيا في القرون الوسطى، اضافة الى تحسس العلويين عموما من اي مشروع سياسي ذو مرجعية اسلامية سنية ابتداء من الخلافة العثمانية وصولا لحزب العدالة والتنمية.

وتشير الارقام الصادرة عن حزب الشعب الجمهوري في الانتخابات العامة السابقة الى ان 83 بالمائة من العلويين في تركيا اعطوا اصواتهم لحزب الشعب الاتاتوركي.

اما العلويون العرب في انطاكيا الذين يعلنون تاييدهم صراحة للرئيس السوري الاسد فهم اكثر عداء لحزب العدالة ورئيسه اردوغان وتمكنوا من حشد اصواتهم وتحشيدها ليفوز حزب الشعل الاتاوركي بالمركز الاول في محافظة هاتاي ( انطاكيا) رغم انه لا يمثلون سوى 40 بالمائة من السكان في المحافظة ، الا ان السنة في هاتاي تفرقت اصواتهم بين حزب العدالة 40% وحزب الشعب القومي 15%.

وصوتت المدن ذات الغاليية الساحقة من العلويين في هاتاي بنسبة تفوق 80 بالمائة لحزب ال GHP ولم يحصل حزب اردوغان الا على كسور من المائة كان بعضها من الاقلية السنية هناك كما حصل في بلدة سمندغ ( السويدية) التي يقال ان جد الرئيس السوري الاسد ينتمي اليها.

وفي المحافظات الشرقية ذات الاغلبية الكردية حصل حزب السلام الكردي على المركز الاول في جميع المحافظات الكردية.

لكن الملفت ايضا ان حزب العدالة حصل على نسب تصويت هي الاعلى منذ سنوات في المحافظات الكردية.. بفضل التقارب الذي احدثته حكومة اردوغان مع الاكراد وجهود المصالحة مع الزعيم الكردي اوجلان واقرار قوانين تعطي للاكراد حقوقا سياسية وثقافية في الدستور التركي.

القدس العربي

أردوغان يوجه “صفعة عثمانية” للمعارضة التركية/ عمر كوش

صفعة عثمانية

أسباب الفوز

سر النجاح

أسفرت الانتخابات المحلية في تركيا عن فوز عريض لحزب العدالة والتنمية، بحصوله على نسبة كبيرة من أصوات الناخبين الأتراك، زادت على ما توقعته بعض استطلاعات الرأي.

وتزيد النسبة التي حاز عليها الحزب على 45%، فيما لم يحصل حزب الشعب الجمهوري -وهو أكبر حزب معارض- إلا على نسبة 27.91%، أما حزب الحركة القومية، فقد حصل على نسبة 15.16%، وحزب السلام والديمقراطية حصل على نسبة 4.02%، وتقاسمت بقية الأحزاب نسبة الـ7.36% المتبقية من الأصوات.

وكانت آخر انتخابات بلدية شهدتها تركيا، قد أجريت في العام 2009، وفاز فيها الحزب الحاكم بنحو 38.8% من الأصوات، فيما حصل حزب الشعب الجمهوري على نحو 24.69%، وحزب الحركة القومية حصل على 16.49% أما بقية الأحزاب الأخرى فحصلت على 20.17%.

واللافت هو الاهتمام الكبير عربيا ودوليا بهذه الانتخابات، بالرغم من كونها انتخابات محلية تركية.

ولعلها المرة الأولى في تاريخ تركيا، وربما في تاريخ منطقة الشرق الأوسط كلها، التي تحظى فيها انتخابات محلية، باهتمام عربي ودولي واسع، الأمر الذي يعكس دور ومكانة تركيا، التي تمتد مساحتها على 780 ألف كم2، ويعيش فيها 77 مليون نسمة.

صفعة عثمانية

أخذت الانتخابات البلدية التركية، شكل صراع سياسي مفتوح، بل ومعركة “كسر عظم”، بين رجب طيب أردوغان ومعه حزب العدالة والتنمية الحاكم، والداعية الإسلامي “فتح الله غولن”، المقيم في بنسلفانيا الأميركية، ومعه جماعته، التي تتهم بالسعي إلى تشكيل “دولة موازية”، فضلا عن التجاذبات والتنافس بين أحزاب المعارضة التركية، وفي مقدمتهم حزب الشعب الجمهوري وحزب العدالة والتنمية.

ورغم تسريبات فضائح الفساد، وتداعيات إغلاق موقعي تويتر ويوتيوب، والحرب المعلنة مع جماعة الداعية، فتح الله غولن، فإن الفوز الكبير في الانتخابات، جعل رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، يعلن النصر الحاسم، من مقر حزب العدالة والتنمية في العاصمة أنقرة.

واعتبر أن نتائج الانتخابات، هي إعلان انتصار الديمقراطية في تركيا، وأن المعارضة التركية تلقت “صفعة عثمانية”، من صناديق الانتخابات، وهدد خصومه بأن الوقت حان للقضاء عليهم، وأنه لن يسمح بأن تكون هناك دولة داخل الدولة.

وأظهرت نتائج الانتخابات، أن شعبية أردوغان لم تتأثر، بأزمة “غزي بارك” وسواها، بل ازدادت، بالنظر إلى أن التصويت كان تصويتا سياسيا، بالرغم من أن الانتخابات محلية الطابع، تخص الجانب الخدمي، الأمر الذي قد يمهد لبقاء أردوغان في الحكم في المستقبل المنظور، فيما لم تتمكن أحزاب المعارضة من تحقيق اختراقات تذكر في هيمنة حزب العدالة والتنمية، الذي فاز في كل الانتخابات التي أجريت منذ وصوله للسلطة عام 2002.

ويعتبر الفوز -الذي حققه حزب العدالة والتنمية في هذه الانتخابات- بمثابة استفتاء على سنوات حكم أردوغان، وتشجعه نتائجها على السعي للاستمرار في الحكم، سواء عن طريق الترشح لرئاسة تركيا في الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في أغسطس/آب المقبل، أو تغيير قوانين حزبه، كي يتمكن من تولي منصب رئاسة الوزراء للمرة الرابعة.

ويعزز هذا السعي مسيرة أردوغان، الذي بدأ قبل نحو عشرين عاما كرئيس لبلدية إسطنبول في العام 1994، ثم قاد حزبه إلى سدة الحكم في 2002، ثم فاز في جميع الانتخابات التي خاضها خلال فترتي توليه رئاسة الوزراء التركية، وأثبت أنه المعلم السياسي الأكثر نجاحا في تركيا.

أسباب الفوز

يرى محللون اقتصاديون، أنَّ ما حققه حزب العدالة والتنمية التركي من استقرار اقتصادي، واستقرار مالي، منذ استلامه للسلطة عام 2002، كان السبب الرئيسي وراء نجاحه في الانتخابات المحلية، أي إن التقدم الذي حققه حزب العدالة والتنمية في الانتخابات، كان بسبب قصة النجاح التي كتبها على مدار 12 عاما، من إدارة الحزب للبلاد.

وتتجلى قصة النجاح تلك في مضاعفة دخل الفرد التركي، وانخفاض نسبة البطالة، وارتفاع مستويات المعيشة، والاستقرار الاقتصادي، والسياسة المشجعة للاستثمار الأجنبي، وبالتالي فإن نتائج الانتخابات، ستكون لها انعكاسات كبيرة على عالم المال والأعمال في تركيا، وعلى ارتفاع أسعار صرف الليرة التركية، وزيادة الاستثمارات الأجنبية، بسبب الاستقرار السياسي، الذي سيعقب الانتخابات.

ولا شك في أن نجاح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات، يكمن وراءه النمو الاقتصادي، حيث تشير الأرقام الصادرة عن هيئة الإحصاء التركية، إلى أنَّ الاقتصاد التركي نما بنسبة 4% عام 2013، مقارنة بعام 2012، وأنَّ حجم الصادرات التركية بين شهري فبراير/شباط 2013 وفبراير/شباط 2014، حققت زيادة بلغت نسبتها 6.2%، مقارنة بنفس الفترة من العام الذي قبله.

يضاف إلى ذلك العديد من الإنجازات والمشاريع الاقتصادية الكبرى، ليس آخرها مشاريع عملاقة، تتجاوز ميزانية 21 مشروعا اقتصاديا منها مجموع ميزانيات 130 دولة في العالم.

وهي مشاريع تتنوع بين مجالات المواصلات، والطاقة، والبنية التحتية، والدفاع، وأهمها مفاعل “سنوب” النووي، الذي تبلغ ميزانيته 22 مليار دولار، ومفاعل “أق كويو” النووي الذي تبلغ ميزانيته عشرين مليار دولار، وقنال إسطنبول التي تبلغ ميزانيتها 15 مليار دولار، ومطار إسطنبول الثالث الذي تبلغ ميزانيته عشرة مليارات دولار، ومشروع “مارماراي” الذي تبلغ ميزانيته خمسة مليارات دولار، ومشروع جسر إسطنبول المعلق الثالث الذي تبلغ ميزانيته 3.5 مليارات دولار، ومشروع إنتاج طائرات هليكوبتر “أتاك” الحربية الذي تبلغ ميزانيته 3.3 مليارات دولار.

ولعل الأهم هو أن حزب العدالة والتنمية عمل على تحقيق المبدأ الأساس في الاقتصاد، القاضي بتحقيق المعادلة الاقتصادية ما بين الواردات والمصروفات، بشكل يؤمن وفرة مالية للمواطن وللدولة والخزينة العامة، ولا يلحق الضرر بها، ولا يضطرها إلى اللجوء إلى الديون الداخلية ولا الخارجية، ويجعلها دولة قوية في ذاتها، وقوية في اقتصادها، وقوية في معاملاتها مع السوق العالمي.

إضافة إلى توفير مناخ سليم للإنتاج والاستثمار، باعتبار أن القدرات الإنتاجية، التي يمكنها الدخول في المنافسة الدولية لها أهمية كبيرة في تحقيق الاستقرار الاقتصادي، وتطبيق السياسات الاقتصادية الناجحة، وبشكل يفضي إلى زيادة الإنتاج والتوظيف والتصدير، بوصفها أسس السياسات الاقتصاديات الناجحة. وهو أمر يتطلب من الدولة أن تقوم بتوفير البنية التحتية اللازمة، من أجل الإنتاج والحث عليه.

سر النجاح

يكمن سرّ نجاح التجربة في أن حزب العدالة والتنمية وضع مناهجه، وأطلق وعوده للشعب التركي، كي تكون أهدافا مشتركة للحزب والمعارضة معا، نظرا لأن منطلقه كان هو العمل مع الشعب التركي، بكافة مكوناته القومية، وتياراته الفكرية، وتلاوينه السياسية.

ولو لم يحقق ما وعد به في الفوز الأول أمام الشعب التركي كله، في الانتخابات البرلمانية عام 2002، لما انتخب أعضاؤه في سائر الانتخابات، ولما زاد عدد أنصاره والمؤيدين له في الفوز الثاني في الانتخابات البرلمانية عام 2007، كما أنه لو لم يحقق ما وعد به في الحملة الانتخابية الثانية، لما فاز في الانتخابات للمرة الثالثة عام 2011، وبفوز أكبر من الفوز الثاني أيضا.

وفي جانب علاقة الدين بالدولة، تمكن حزب العدالة والتنمية من حل إشكالية صراع الدولة مع رجال الدين، التي تجسدت في محاربة الدين والمتدينين، التي أدخلها أتاتورك إلى الساحة التركية، وبدلا من ذلك سار الحزب في طريق التفاهم معهم أو احترام معتقداتهم، الأمر الذي جعل تركيا تحظى بصورة إيجابية لدى جمهور واسع من العرب والمسلمين في سائر أنحاء العالم.

وجاء حل إشكالية الدين مع الدولة، بعد قطيعة ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية، استمرت لما يقارب الثمانية عقود، مع الماضي الإسلامي العثماني، وامتدت إلى حاضر تركيا، وعنت تلك القطيعة إقحام الشعب التركي في نموذج حياة جديدة غريبة عنه، من غير أن يكون هو صاحب القرار الفكري والثقافي والاجتماعي فيها، فضلا عن أن يكون صاحب القرار السياسي.

يبقى أن حزب العدالة والتنمية مطالب بحل إشكاليات عديدة، منها ما يتصل بالحريات الفردية والعامة، خاصة بعد حجب موقعي تويتر ويوتيوب، الذي أثار ردود فعل وتجاذبات عديدة، داخل تركيا وخارجها.

ولا يكفي تبرير الحكومة التركية ما تسميه “عرقلة الوصول إلى تويتر”، بعدم امتثال القائمين عليهما لطلبات قضائية تركية، وإغلاق صفحات تنتهك الحريات الشخصية، وتمس أمن الدولة، لأن ذلك يمس الحريات في تركيا.

ولا يتماشى التضييق على الحريات مع مقومات وممارسات الدولة الديمقراطية، بل يجهز عليها، خاصة وأن الشباب يشكلون النسبة الغالبة من مستخدمي تويتر ويوتيوب.

جميع حقوق النشر محفوظة، الجزيرة

                      2014

الجزيرة نت

تركيا “العربية” والإسلام السياسي/ محمود الريماوي

بدا، في العامين الماضيين، أن العالم العربي يفقد شيئاً فشيئاً، وأكثر فأكثر، كل علاقة مميزة مع تركيا، جرى بناؤها لبنة لبنة، في عقد من حكم حزب العدالة والتنمية. وبينما بدت أنقرة، مع ظهور أولى بوادر الربيع العربي، من أكثر الدول في الإقليم وخارجه، تجاوباً مع هذا التحول، قوبل هذا الموقف للدولة “الإسلامية” الجارة، بترحاب شعبي عربي ملحوظ، غير أَنه قوبل، على المستويات الرسمية العربية، بقدرٍ من اللامبالاة والتجاهل، يستند إِلى الحذر من موجة الربيع العربي، وما يمكن أن تؤول إليه، وبقيت العلاقات الودية مع أنقرة على حالها، بانتظار ما تسفر عنه “التطورات”.

من الصحيح، الآن، بل من الإنصاف التذكير بأن أنقرة وقفت مع موجة الربيع العربي،  من حيث المبدأ، مبدأ حق الشعوب في الحرية والكرامة، وهو شعار بسيط وجوهري، رفعت هذه الموجة لواءَه في القاهرة وتونس وصنعاء وبنغازي ودمشق، وعواصم وحواضر عربية أخرى، وأن هذا الموقف لم يكن، في الأساس، انحيازاً إلى الإسلام السياسي الذي صعد في الانتخابات البرلمانية في تونس، والانتخابات البرلمانية والرئاسية في مصر. من الشواهد على ذلك، أَن أنقرة لم تنسج، قبل موجة الربيع العربي، علاقاتٍ خاصةً ومميزةً مع تيارات الإسلام السياسي العربية، باستثناء علاقة مع حركة حماس، لم تكن على حساب السلطة الوطنية الفلسطينية، أو بديلاً عنها. وكانت علاقةً قريبة الشبه بعلاقاتٍ عربية، نشأت ونمت مع الحركة الإسلامية الفلسطينية، في ظروف الانقسام الفلسطيني، وتحوله إلى أمر واقع. وباستثناء حماس، كانت جماعة الإخوان المسلمين في مصر والأردن تنظر بحذر إِلى تجربة حزب العدالة والتنمية التركي، و”ممالأته” العلمانية في بلاده. وكان الليبراليون العرب يأخذون على الإسلام السياسي العربي أنه لا يُحسن الاستفادة من تجربة الحزب ذي الجذور الإسلامية، لجهة جمعه بين الإسلام والعصرنة، بين الإسلام والانفتاح على أوروبا، حيث ظل الحزب حريصاً على انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، بأكثر مما يفعل قوميون أتراك، ذوو نزعة علمانية.

المقصود بهذا الاستطراد، الإشارة إلى أن حكومة رجب طيب أردوعان لم تكن معنيةً ببناء علاقات خاصة مع الإسلام السياسي، أَو المراهنة عليه لبناء علاقات أوثق مع العالم العربي. وإذا كان الأمر يتعلق بالإسلام السياسي السني، فإن أنقرة، فيما أقامت علاقات مع حركة حماس، ظلت علاقتها، آنذاك، (قبل موجة الربيع العربي) جيدة جداً مع حزب الله، ودانت بشدة الحرب الإسرائيلية على الحزب، وعلى لبنان، في العام 2006. ومع حرصٍ مماثل، بل مواكبٍ، على بناء علاقاتٍ طيبة مع الدولة اللبنانية.

 يسوق المرء ذلك كله، لتبيان أَن حزب العدالة والتنمية لم يعقد صفقاتٍ سياسية، ولا نسج علاقات خاصة مع الإسلام السياسي، من وراء ظهر الأنظمة، أَو على حساب التيارات الديموقراطية العربية، أَو بالتنسيق مع الولايات المتحدة، خلافاً لما تصوره كتاباتٌ سياسية عربية في هذا الصدد، مولعةٌ بالبحث عن خصوم، وحتى اختراعهم. ما جعل أَردوغان قريباً من الرأي العام العربي، وما مكّن تركيا من أَن تصبح، بعض الوقت، عضواً مراقباً في جامعة الدول العربية. ولما كانت تركيا ترأس منظمة التعاون الإسلامي، فقد بدا أَن هذا البلد بات يتبوأ مركزاً متصدراً في العالمين العربي والإسلامي، والحديث يدور هنا عن الفترة بين 2005 و2011، والتي شهدت القرصنة الإسرائيلية ضد سفينة مرمرة التي حملت ناشطين أتراكاً، توجهوا، عبر البحر المتوسط، إلى ميناء غزة، وتعرضوا لعدوان إسرائيليٍّ، أودى بتسعة منهم، فتدهورت العلاقات الإسرائيلية التركية، وكانت تشهد، قبل ذلك، تراجعاً متواصلا، بسبب الاعتراض التركي على حصار قطاع غزة.

ليس ما تقدم من باب المنافحة عن حزب بعينه، أَو حكومةٍ بذاتها، أو زعيم سياسي إقليمي، ولا، بالطبع، عن الإسلام السياسي العربي، فكاتب هذه السطور أَقرب إلى التيار العلماني/ الليبرالي العربي العريض. ومنطلق الحديث، هنا، هو مقتضيات المصلحة العربية القومية، مصلحة كسب الأصدقاء، والحفاظ على صداقتهم في الإقليم، مصلحة كسب الرأي العام التركي، ومن دون التصاقٍ بحزب العدالة والتنمية دون سواه، بل، بإزجاء الثناء والتقدير لمواقف هذا الحزب، المنصفة تجاه القضايا العربية، على أَمل أَن تحذو أَحزاب وتيارات تركية أخرى الموقف نفسه، راهناً ومستقبلا، بما يحسّن ميزان القوى السياسي الإقليمي، ليصب في مصلحة الحقوق العربية، وفي صالح الجيران الأتراك، وتمتين علاقاتهم المتشعبة مع العالم العربي.

وفي القناعة، أَن المرحلة التي سبقت نتائج الانتخابات في كل مصر وتونس هي ما يستحق استلهامها، والبناء عليها والانطلاق منها، وتعظيم مخرجاتها. ولا يحسب المرء أَنها مرحلة مضت وانقضت، على الرغم من تطوراتٍ دراماتيكيةٍ في المواقف طرأت بعدئذ. فما زالت طريةً في الأذهان، ولم تبتعد بنا الشقة الزمنية طويلاً عنها. وليس من مصلحتنا بث رسائل إِلى الرأي العام التركي بأننا لم نحافظ على الصداقة التي نشأت، ولم نلاق اليد التركية الممدودة، بما تستحق من ترحاب.

صادفنا، أَول مرة، مع الدولة التركية، (أَول دولة مسلمة تعترف بإسرائيل)، صداقة متينة، قوامها مقاربةٌ مشتركةٌ للتحديات الإقليمية، ترى تل أبيب وسياستها الاحتلالية التوسعية باعتبارها تشكل أكبر المخاطر على الإقليم. وشهدنا تراجع التعاون العسكري التركي مع تل أَبيب، فيما كان هذا التعاون، لعقود، يبدو كما لو أَنه جزءٌ من العقيدة العسكرية التركية. والسؤال، الآن، كيف انحرفت العلاقات العربية التركية عن مسارها، وأَين يكمن الخلل؟

جميع حقوق النشر محفوظة 2014

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى