ملف فاتح المدرس في السفير
بين قشرة الذكريات وبئر الدهشة
حبيب الراعي
« إن أخر ما يموت في غابة الدهشة هو اللون»
(فاتح المدرس)
لا يستوي الحديث عن فنان متنوع إشكالياً مثل فاتح المدرس إلا من خاصرة الذاكرة، ومن مخابئ الزمن الممزوج بالحزن والأسى، والمفعم بالترقب.
لم يكن فاتح المدرس مجرد فنان تشكيلي، بل كان فناناً في الحياة، يعلن في كل يوم وفي لحظة ومع كل نفس من سيجارته انتماءه للحياة وللآن، وربما كان هذا سر تألقه الجمالي الدائم، وسر تلك الدهشة التي كان يسعى لتوريطنا فيها، في كل لوحة، وفي كل خط، وفي كل لطخة لون.
كذلك يتطلب ذلك التناول محاولة التحرر من سطوة الاسم والشهرة وحضور الشخص، صورة وذكرى، لذا أراني غير متيقن أن ما رأيته هو ما أتذكره نفسه وما سأبوح به الآن، وهو ذاته ما أعلمه عنه، هل كل ذلك هي صورة المدرس، أم صورتي أنا فيه؟ أم صورنا جميعاً معجونة بحضور الزمن وغياب الجغرافيا؟؟
ولهذا لا أنوي وأنا أتحدث عن الفنان فاتح المدرس أن أقدم قراءة تشكيلية علمية لأعماله أو نقدية بقدر ما هي محاولة للتواصل الوجداني مع أعمال أستاذ وفنان كان له دور في صقل شخصية أجيال عدة في مراسم كلية الفنون الجميلة بشارع بغداد بالإضافة طبعاً إلى بقية أساتذتنا في ذلك الماضي الجميل: محمود حماد، نصير شورى، الياس زيات ونذير نبعة.
الهبوط إلى البئر:
بعد هبوطي لدرجات ثمانية في أسفل العمارة القريبة من ساحة النجمة بدمشق، أطرق باباً صغيراً مليئاً بأوراق وملاحظات وخربشات، يفتح المدرس أبواب عالمه السري لأفاجئ بحجم الدهشة الموجودة داخله، دهشة طالب في مقتبل الحلم يدخل صومعة أستاذه في زيارته الأولى لمرسمه.
لطالما كان المرسم جزءاً لا يتجزأ من الرسام، عالمه، وجهه الحقيقي، عريه، ذاته وهي متلبسة بحب الحياة والجمال.
تنتشر لوحات المدرس ككائنات حية، أوراق مبعثرة هنا وهناك، وأخرى معلقة كتب عليها أقوالاً وحكماً وأشعاراً مختارة له ولمن أحب، رسوم لأطفال، زجاجات فارغة، غبار، أعقاب سجائر، وعنكبوت يرقب من الأعلى لعبة المرسم وكائناته، مع طراوة ألوان الباليت الغارق بما احمر من الألوان وما ازرق، ورائحة التربنتين تغرق المكان بكيمياء الزمن.
يغطس المدرس في كرسيه، يبدأ دخانه يسري في عروق الفضاء، أراقبه بفضول وأندهش لطول حاجبيه وكأني أراهما للمرة الأولى، أستحضر صورة بيكاسو في مرسمه بـ«شورته» القصير ودخانه (الجيتان الفرنسي).
يسألني: أترى هذا اللون الأحمر مشيراً إلى إحدى لوحاته؟ هذا اللون لا يمكن أن تجده إلا على شفاه فتاة مراهقة، هذا لون الحياة والحب والشهوة.
وللأسف لم أكن وقتها قد خبرت ذلك اللون وتلك الفتاة ولا تلك الشفاه.
أتلمس الأحمر، أقلب ثناياه وأشتم ضوءه، وأسرح من جديد مع لوحات المدرس، أتيقن من هويتها، من مطابقتها لما رأيت منها في المعرض والمجلات والكتب الفنية، للوحات الفنان مذاق أخر في عقر دارها، وفي رحم أمها، هنا تخلق وهنا ترى النور، وهنا تشع ضياءً وحياة.
أسمع صوته المبحوح وأسرح مع تضاريس لوحاته، والتي تخفي تواطؤ ما بين لمسة فرشاته الفاضح ودسامة ألوانه الشهية والمثيرة، بدون نزق أو تطرف.
ملمسية اللون تؤكد مراراً وتكراراً ضرورة وحتمية إشراكك في وضع اللون بيديك وبعينيك، أنت لست مشاهداً! أنت متورط في صناعة الدهشة، وأنت مبدع هذه اللوحات، هذه خطوطك، وهذه ألوانك، وهذه مساحاتك، وهذه ظلالك، وآلامك ونفسكَ وشهيقك وزفيرك، وهذا دخان سجائرك، وهذا عرقك يسيل مع الألوان، ودمعاً يتغلغل بين مسامات القماش، وخطوط تحفر تضاريس الذكريات والأوجاع القديمة والحديثة.
أرتشف قهوته بمذاق البني في لوحاته، ومرارة البنفسجي، وبريق الذهب فيها، وأحاور مع شخوصه القادمة من أساطير قديمة وماضٍ سحيق، متلاحمة، متلاصقة، متينة، أبنية من طين ريف الشمال يسكنها الحلم والحزن العتيق.
لن تجديك الفصاحة ولن تسعفك اللغة، في حين يطاردك الهمس ويقلقك البوح، ولن تكون قادراً على الولوج إلى عوالم هذا الفنان بحيادية، دون أن تستحضر شخصية الرجل، ثقافته، وفكره، وتتلمس ضعفه وقوته، وتنغمس في أعماق ذاته ووجدانه.
لقد ساهم فاتح المدرس في إبراز صورة الفن التشكيلي السوري المعاصر المرتبط بمرجعيات محلية، سواء على صعيد التعبير والموضوع أو على صعيد الخامات وتفاعلاتها البصرية، تعبيراً يتسم بالبساطة والبلاغة بنفس الوقت، وقادراً على الالتصاق بالحالة الحضارية ببعدها السوري وتموضعها في بعدها الكوني العام.
كان فناناً شمولياً يعيش كيانه الحر ببدائية الفنان وثقافة منفلتة من أي إكراهات أو تلفيقات، يعبر عن كل ذلك بالرسم وبالشعر وبالقصة.
ولهذا جاءت أعماله كإرهاصات مفعمة بالحياة والتجدد، مسكونة بهاجس الأرض والتراب، وبنبض اللون والضوء.
حين يرسم لا يضع نصب عينيه ما ستؤول إليه الأمور ، إنه يقدم انطلاقة بدون مسبقات أو مركبات إنه يتقدم بعمله كمغامرة من خلال شبكة من المعادلات والتقاطعات الذهنية والمادية محورها ثلاثي الأبعاد: المادة واللون والتوازن الداخلي لفضائها.
تؤكد لوحات فاتح المدرس إنه إنسان طليق كطلاقة فرشاته وطلاقة قلمه وذهنه وتصوراته، ينطلق بذلك ليؤسس لوحة عصية على التصنيف متجددة متمردة ومغايرة، على إيقاع يدوزن نفاذ التصور واتساع الخيال يحضر بذلك في أركيولوجيا الشكل وكيمياء اللون ليستنبط ذلك الخفي أو السري في توتر وتوق إلى الوجود.
وهو بذلك لا يعيد إنتاج الواقعي بل منهجيته تعمد إلى تجاوزه من خلال عملية المواجهة والتي تنهل من خزان الذاكرة وتغوص عميقا ًفي أزمنة سحيقة تعود إلى قريته (حربكة ) في أقصى الشمال السوري، وبذلك فإن عملية استحضارها من قبل المدرس ما هي إلا عملية تحريرها عن مراجعها والقبض على أسرارها المكبوتة.
لوحة فاتح المدرس فضاء يحتشد بالحركة والثبات وبتضاداتهما التشكيلية، حشد من الهواجس والأحلام والخيالات… إفرازات الماضي في لحظة تعب وتجلي، ليعيد بعد كل ذلك صياغة خرائب ذكرياته معجونة بنضارة ألوانه، يؤكد فيها انتماءه للجغرافية والكيمياء.
لقد نجح «المدرس» في مزج عشقه للأرض والتراب ولملمس كل ما هو طبيعي مع كل ما هو حزين مرتبط بطفولة قاسية.
يقول (فاتح المدرس) محدثا ً (أدونيس): « بأنه يمر بمرحلتين في رسم لوحاته، «الأولى تبدأ كما لو أنني بستاني يلقي بذرة في أرض فارغة قدر الإمكان صالحة للإنبات، وأنسى الموضوع، وأنسى بأنني ألقيت ببذرة هذه الفكرة أو هذا التكوين، والغريب يا أدونيس أنه وفي لحظة معينة في زمن معين ومكان محدد مسبقا، وفي وضع سيكولوجي مسبق أتوجه إلى اللوحة وأبدأ كما لو أن عفريتا ً قبض علي من كتفي وساقني أمامه إلى هذه البذرة التي بدأت اخضرارها الصغير…».
وهذه البذرة لا شك تعود لذلك الشمال الحزين البعيد المفعم بغبار الماضي والمخضب بدماء الأساطير، والمشحون بشموس الحضارات، وحجارتها وأطيانها المتراصة في بناء يقاطع العمودي مع الأفقي، ورموز لا تحضر كشكل بقدر ما تحضر كملامح وخيالات وأطياف.
فاتح المدرس لا يسترجع صور بل لوحاته تعيد استرجاع الذكريات المدفونة في أعماق ذواتنا، مثل هذه المنهجية الإسترجاعية ما هي إلا محاولة لترميم الدهشة، ليحرر مشاهديه ويدعوهم للذهاب إلى أشكال أهم بكثير من مراجعها، ولذلك هي لا تسترجع الماضي ولا تنهل من مخزونه بقدر ما تدعولمواجهة الحاضر بذكريات الماضي، ومواجهة المرئي، ذلك السر الذي يستحضر المكبوت فينا، الحي أبدا ً.
الصعود إلى دمشق:
أنسل خارجا ًمن بئره، أصعد الدرجات الثمانية، اتجه يسارا ً نحو ضفاف بردى، الدخان الأسود يكسو الأفق، ومن خلاله تبرق راجمات الصواريخ، رعد يزلزل أركان المدينة…. وخبر عاجل ملقى على الرصيف: عدد الضحايا بلغ 100 ألف،أسمع صرخة (ادوارد مونش)، سماء دمشق حمراء، جسر فيكتوريا يزداد تقوساً، جبل قاسيون ينقض على المدينة، مياه بردى بلون الدم..
أبتسم تتحول الابتسامة إلى ضحكة، كيف لم أتحدث مع أستاذي حول كل هذا الزلزال؟ ولماذا لم أحاول استفزازه لأعرف رأيه وأفضح اصطفافه؟ وكيف ضيعت فرصة محاكمته؟…
استدركت الأمر وركضت عائداً أستنجد بأستاذي، سائلا ً إياه: ما الحقيقة؟
فأخبرني القصة التالية:
«مرة رأيت جنرالاً يأكل جثة ولم يبقي منها في صحنه سوى عينها فقلت له مشيرا ً إلى الصحن: وأين العين الأخرى أيها الجنرال ؟ أجابني ببراءة وهو يمسح فمه بكم قميصه: كل الحقائق ترى بعين واحدة».
ثم استدرك وقال لي: اسمع «غدا ً والعيون حشوها الرماد وكتاب جلده حي، وغاب، من زمان لحم النيئ، غدا ً، بلا قدم أو خد، والقلب سيشهد ويضمحل، شيئا ً فشيئاً، سنلتقي من جديد، من جديد».
أتوق الآن لو سمح الوقت لفاتح المدرس أن يشهد الثورة السورية، وهو التواق الدائم للحرية، والمنتمي للإنسان وأوجاعه، والانفلات من التأطير بالرغم من وقوعه المتكرر تحت سطوة الإغراءات المناصبية ليس أخرها ترشيح نفسه لمجلس الشعب، كيف كان سيغرد المدرس تحت سقف الوطن، أخشى بنفس الوقت من هذا التوق وأنا أتابع صديقه الروحي أدونيس الملتبس والحائر بين الثابت والمتحول!!
اعذرني أستاذي ليست محاكمة غيابية ولكنها محاولة للتوجع بصوت مرتفع في هذا الزمن السوري الصعب.
(كاتب سوري)
فاتح المدرّس: حضور طاغ وقوة روحية هائلة
عصام درويش
ولد فاتح المدرس في حلب العام 1922 وقد كتب في وقت ما:
« المكان: شاطئ في الشمال السوري
« الزمان: كنت في الثالثة أو الرابعة من عمري، رسمت السلحفاة المائية على الطمي المترسب على الشاطئ . رسمت بإصبعين، ثم رسمت سمكة كما أراها في النهر. وكنا نصطاد أسماكا فضية صغيرة. في الحقيقة كنت أريد رسم رائحتها رائحة النهر الجبلي البراق تحت أشعة الشمس الساعة السادسة صباحا …».
نلمح هنا شيئا من عالم المدرس الذي تختلط فيه المشاعر الجوانية مع انتقالات سريعة للحواس كما تحدث استبدالات في غاية الأهمية، وأيضا نلمح جزءا من منهجه في تصور وتصوير ما حوله وفي الخلط بين الواقعي والغرائبي بتعبيرية خاصة مستمدة من روح وأرض بلاده ومن لطف الإنسان وسخريته العميقة الهادئة في مواجهته ظرفه .
حين رسم فاتح المدرس لوحته الشهيرة «كفرجنة» كان قد مضى على رسم «بيكاسو» لوحته «آنسات آفينيون» 45 عاماً. ومع أن لا شيء يجمع بين العملين على صعيد الأسلوب، إلا أن تيار الحداثة، مع ذلك، كان قد تأخر طويلاً ليصل إلى سورية، وكان لا بد من الإقرار بوصوله على يد فاتح المدرس في لوحة ربما نجدها الآن متواضعة جدا، إلا أنها عينت، في وقتها، بأكثر من معنى، بداية دخول الحداثة إلى الفن التشكيلي السوري وربما بداية قبول هذه الحداثة على صعيد الجمهور والمختصين، إذ حازت اللوحة على الجائزة الأولى للمعرض الثالث للفنون التشكيلية في المتحف الوطني بدمشق. اسم اللوحة كان «كفرجنة «.
تصور «كفرجنة» واحدة من القرى الجارة لـ«حربتا « قرية طفولة فاتح التي تقف على تخوم الشمال السوري حيث الإنسان هناك شديد الالتصاق بالأرض الأم التي تحنو وتطعم وتمنح، كما سيصورها دائما، وكما ستبدو لاحقاً في غالبية أعمال المعلم: فلاحة تحمل شيئاً من محصول الأرض على رأسها، مشلوحة في الفراغ متعامدة مع شجرة تهيمن على المشهد، الشجرة وهي تلتحمان تماماً بالأرض.
لن نرى مستقبلاً نموذجاً ثانياً من «كفرجنة» المرسومة في العام 1952 والموجودة في المتحف الوطني السوري، لأن المدرس كان قد تمرد على نتاجه وما لبث أن سافر إلى روما للدراسة.
ولكن الأرض والإنسان سيظلان الموضوعَين المفضلَين لفاتح المدرس، وشيئاً فشيئاً سيندغمان في أعماله، وسنراهما في الكبيرة منها والمهمة، يأخذان القيمة نفسها في مقدمة اللوحة حيث سيختفي العمق تدريجياً وتجري الدراما في البعد الأول والوحيد. هنا سيلتقي المدرس بدراية تامة وببحث جدّي مع التراث السوري القديم، النحت التدمري والآلهة القديمة الصامتة بالهدوء والسكينة الفلسفية اللذين يلفانها، الفن الآشوري وفنون ما بين النهرين. لكن الأسطورة ستدخل عمله بعد تطويعها، ولن نلمح أبداً نقلاً حرفياً للرموز والأشكال الأسطورية، وسنجد في بعض الأعمال رموزاً وآلهة وحيوانات بدائية من صنعه هو شخصياً.
أم فاتح المدرس كردية من الشمال السوري، فلاحة تزوجها شاب غني من آل المدرس ودفع الثمن.
قتل عبد القادر المدرس والد فاتح عن ستة وعشرين عاماً، وهو لم يزل في الشهر الثاني والعشرين من عمره، ولذلك لم يتعرف على قيم الأب وسطوته كما يقول هو نفسه في ما بعد: «كانت الأم هي كل شيء… الحب العميق والأمومي. المطر والثلج. المبعدة التي عاشت شبابها تقف بصلابة وقوة أمام أهل زوجها الإقطاعيين»، الذين رفضوا وجودها في مجتمعهم، والمقاتلة التي حمت أولادها وربتهم وعاشت لأجلهم.
صَوَّرَ فاتح أمَّهُ العديدَ من المرات، أكثر واقعية في البداية ثم ما لبثت أن دخلت إلى مناخاته ذات التربيعات المبهمة هي وأهلها في السهول الحزينة والرائعة مع أشجار الجبال في خلفياته التي نشتم منها رائحة التراب المندى. وسنقرأ خلف لوحاته عناوين مثل: «أهل أمي من الشمال السوري» ، «قصص الجبال الشمالية»، «بنات كفرجنة»، «نازة وفائة خالات أمي»، «أمي عايشو»، «سيدة جبل الحص».
في آخر أيامه ذهب فاتح إلى بيته القديم متذكراً أرجوحة كانت تجمعه مع أمه في ليالي الصيف، قال لزوجته دون أن ينتظر تعليقاً، إنه يرغب في النوم على الأرجوحة. كان ذلك أواخر حزيران 1999، تماماً قبل أسبوع من رحيله.
سافر فاتح إلى روما للدراسة العام 1954 مصطحباً أمه وزوجته وابنة خالته الصغيرة للعناية بزوجته الحامل وهناك ولدت له «نجد» و «هيلفستيا».
«نجد» و «هلفستيا» سيشكلان منذ الولادة ألماً كبيراً للمدرس بسبب الإعاقة التي تمنع التواصل وحاجتهما الدائمة للرقابة، وسيتحول هذا الألم شيئاً فشيئاً إلى دراما لها تجلياتها الإبداعية. ولن نستطيع أن نفهم شخصياته التي تقف بمواجهتنا من دون حراك بأيد مضمومة ومتعثرة الظهور، متوازية وصامتة وتنضح بالألم دون معرفة القصة.
وهي قصة رواها هو بوضوح أحياناً، وبالتباس كبير أحياناً أخرى، وقد اختلط في الروايات مع مرور الوقت… وخصوصاً بعد رحيلهما ألم الفقد مع الحقيقة مع الحب مع ذكريات ابتعدت رويداً رويدا واتحدت بغبش الخيال.
شكّل مرسم المدرس طوال عقود من السنين مناخاً شديد الخصوصية على صعيد حضوره الفني والإبداعي وعبر اللقاءات والحوارات وجلسات الصفا التي تجمع الدنيوي إلى الفلسفي وعبق السهر. وقد جمع المرسم طوال تلك السنين أسماء لامعة ساهمت في حقول ثقافية مختلفة في النهضة السورية الحديثة والمعاصرة أيام أحلام التفتح والنهوض والحرية وتفاعلات الأفكار والفلسفات الكبرى وتصورات قرب زوال الفوارق الطبقية بين البشر وتحقيق العدالة الاجتماعية والظفر بالديموقراطية .
أذكر المرة الأولى التي دخلتُ فيها المرسم العام 1977. طرقت الباب وجاء صوته من الداخل: تفضل … قوياً وطويل المقطع تتراكم في الداخل لوحات بيضاء ولوحات قيد الرسم وشاسيهات وطاولات علت ظهورها الألوان الندية وأخرى جفت وعلاها غبار قديم، رسوم خفيفة على الجدران، رغيف خبز معلق رسم عليه وجه إنسان، رائحة رطوبة نفاذة وكتب على مكتبات حديدية وعلى المقاعد. يختلط الحي النابض بسديم الزمن الذي يتكاثف مثل قطرات جافة على الأشياء. تتوهج عينا المدرس دائما مثل مرايا كاشفة فتبدوان وسط ظلمة خفيفة تحيط بكل شيء بؤرة جذب مدهشة. يملك فاتح حضوراً طاغياً وقوة روحية هائلة تنتقل مباشرة إلى محدثه، رأيتها في المرة الأولى العام 1974 في قاعة كنا ندعوها: «المظلة» بكلية الفنون الجميلة القديمة بدمشق، دخل فجأة يمسك بيده قلم رصاص وخاطبنا، نحن طلاب السنة الأولى المقبولون في الكلية، وكأنه يكمل حديثاً سابقاً: كنتم تستخدمون هذا القلم للكتابة واللعب والخربشة وبدءاً من الآن سيكون عليكم استخدامه للرسم. كان وقتها خمسينياً ممتلئاً وقد رافقناه منذ تلك اللحظة التي توقفت وتأطرت في ذهني، وأستطيع أن أستعيدها كلما أمعن الزمن في اصطياد أيامنا وحتى لحظاته الأخيرة التي كانت فيها عيناه أيضاً وأيضاً تملكان تلك القوة الروحية نفسها التي تدل دائماً على مدى غنى الحياة وتنوع تجاربها وغوصه الذي لا يكل فيها.
يملك فاتح المدرس كفنان ميزتين رئيسيتين: الأولى حساسية مدهشة والثانية اهتمام بقضايا الإنسان. الميزة الأولى دون الثانية يمكن أن تساعد الفنانين الجيدين للمناظر الطبيعية، والطبيعة الصامتة والتجريديين المحضين ورسامي البورتريهات والمواضيع العامة والمجربين للمواد والتقنيات. أما الميزة الثانية دون الأولى فهي تساعد الفنانين غير المجيدين الذين جلبهم الهم العام فلم يلتفتوا إلى جماليات الفن ولعبة التقنيات وحساسيات التصوير أو أولئك المنتسبين للأحزاب العقائدية في الترويج لمبادئهم أو الترويح عن قادتهم أو تمجيدهم أو إنصاف المظلومين وأولي السبيل أو الظفر بمنصب أو منفعة أو ثناء ما.
ولكن اجتماع الميزتين ينتج فناً عظيماً إذ تملك الحساسية ترمومتراً لا يخطئ أو لنقل من الصعب أن يخطئ يمتد من الاهتمام بتقنيات التصوير والمواد إلى اللون، إلى اختراع التكوينات وهي تسهم إلى جانب الاهتمام بالإنسان إلى الدخول للجوهري واقتفاء الرائع في العادي.
أهمية فاتح أنه أدرك مبكراً جداً أن الفن نشاط ثقافي وليس عملاً حرفياً رغم البعد الحرفي فيه. وقد رأيته ينصب على لوحته انصباب الحرفي العنيد يكابدها وتكابده، ينشئ أشكالاً وخطوطاً لا تلبث أن تغيب تحت ضربات ريشة لاحقة. لا تستطيع أن تميز في لحظة الخلق تلك المدرس عن أي صانع حقيقي متقن لعمله، ولكن لتلك اللحظة امتداداً في عمق الذاكرة وربطاً لا يتزعزع مع كل ما كونه، كل ما قرأه، وكل ما آمن وكفر به، ولذلك تحمل لوحته ذلك الخلط المدهش بين البصري والتعبيري، البصري الممتع في تجليات اللون ولعب التكوين وحساسيات السطح، والتعبيري الذي يركز على وضع الإنسان في مواجهة الآخر ومواجهة مصيره في الكون والقدرة على طرح الأسئلة الكبرى المحيرة والمعقدة حول الوجود والعدم. يقع سحر المدرس في كل ما يلمسه، يزهو لديه الرمل مخلوطاً باللون متدرجاً من غنى في العجائن سميكة ومترعة وطازجة إلى تدرجات من لون واحد شحيح ومتصوف.
لم يفلح المدرس في رسم أي شيء حتى المنظر الطبيعي دون إدخالنا في مناخاته النفسية. تختزن ذاكرته فصول قرى الشمال الجبلية والسهول على مد البصر وجبال الحرمون المقدسة، ولكننا لن نراها كلوحات تزيينية في صالونات «الكيتش» الراقية بل كطبيعة من لحم ودم وطين، كتراب مجبول برائحـــة المطر والزعتر البري وهمــوم البشر.
(كاتب سوري)
في فيلم تسجيلي لأميرالاي وملص ومحمد..
لو كان المدرس هنا
راشد عيسى
«كأن سوريا كانت تعيش وراء بوابة حديدية أسطورية مقفلة، فُتحت فجأة، فخرجت منها جموع من البشر، الحيوانات، العربات، الجنود، الأطفال». هذه العبارة لم تقل في زمن الثورة السورية الراهنة، بل كانت فاتحة حديث التشكيلي السوري الراحل فاتح المدرس (1922- 1999) عما بعد فترة الاستقلال، لدى ظهوره في فيلم تسجيلي مشترك لعمر أميرالاي ومحمد ملص وأسامة محمد، حمل عنوان «المدرس». لكن يصعب أن يستمع المرء إلى كلمات المدرس هذه من دون أن يخطر في باله أنه كان ليقولها في الأحوال الراهنة.
ماذا لو كان المدرس هنا. ظلت العبارة تلازمني لدى مشاهدة الفيلم التسجيلي الأخاذ والمؤثر والمؤلم عن حياته وفنه. هذا السؤال الذي نريد جميعاً أن نسحبه على كل الراحلين الذين نحبهم. أي كلمات كانت ستقال، أي قصائد، أي لوحات تشكيلية، أية أفلام؟
يتابع المدرس «ما هذه المفارقة أن شعباً كان يعيش كل هذه الحال المزرية في ظل الحكم التركي، لتجد لديه فجأة شارع البارون (في حلب) كما لو أنه الشانزيليزيه!». ويضيف «بل إنك تجد في ذلك الزمان شاعراً سريالياً ورساماً سرياليا في مدينة حلب، ما يعني أننا في ذلك الوقت لم نكن خارج العالم. لم يكن الشعب السوري خارج حلم القرن العشرين».
الفيلم سينتقل مع المدرس للحديث عن قصص مؤثرة من حياته، خصوصاً حكاية ولد وبنت قضيا في حادثتين مؤلمتين في روما، الولد يسقط على رأسه من فوق سياج الحديقة، فيصمت ثم يموت بعد ذلك بوقت قصير، والبنت التي تسقط عن أرجوحتها البدائية لتعيش بلا حركة أو كلام خمسة عشر عاماً، ثم ينفجر قلبها.
يقول فاتح «كانت خمسة عشر عاماً من الصمت الداخلي، المغلف بالعمل والسفر والقبول بصبر وصمت». لكنه حين يتحدث عن أمه يروح يتحدث بفرح عن تلك المرأة الجميلة، التي عاقبته ذات مرة «بعضّات كانت الأجمل في حياتي». كذلك يقول إن الأم «كانت قطعة من المكان. أتذكر نفسي ولداًَ في حقل ألم البرقوق الأحمر وهي بقربي جزء من الصورة، أتذكر الشمس وهي تسقط على الجدار الأسود، وهي كذلك جزء من الصورة».
كان الفيلم مليئاً بالعتم، وحدها لوحاته كانت تضيء بلون أصفر أو أحمر من هذه الزاوية أو تلك. الكاميرا كانت تقريباً لا تفارق وجه المدرس، إلا لتمضي إلى لوحة، من الواضح أنه كان فيلماً وداعياً (الفيلم من إنتاج العام 1995)، ويبدو أن المدرس نفسه كان يحمل شعوراً باقتراب الموت، فجاء الختام تلويحة يد قريبة، ملوحة باستمرار كما لو أنه يغادر للتو.
الفيلم هادئ، وبطيء الإيقاع، بطء حركة المدرس الذي كان يتحدث للكاميرا وهو يتابع الرسم، لكن العالم الذي رسم الإخراج يدفع المرء للإنصات أكثر لصوت هذا العجوز الراحل بعد وقت قصير، ولا بد أن لا تفوته كلمة واحدة.
الفيلم أيضاً راح يلتقط كل ما يصدر عن المبدع الراحل، كل حركة أو همسة، وكذلك صوت فرشاة الرسم. لا شك بأنه من الأصوات الأثيرة لديه. لكنه يتحدث عن صوت يبدو أنه الأجمل لديه «الأصوات الأقوى التي أرحب فيها دائماً هو صوت الريح، صوت الريح على المادة، إن كان هناك أعمدة، صوت الريح على الأعمدة، أو الأشجار العالية، أو على عيدان صغيرة يابسة يعطي معها صوت صفير. هذا الصوت هو الوحيد الذي يؤثر بي، وأنام عليه. صوت العاصفة المدمرة هو أجمل أنواع الموسيقى. ربما لأنني قضيت وقتاً طويلاً من طفولتي في البرية».
إحساس غامض وحزين ينتابني في كل مرة أشاهد الفيلم، خصوصاً تلك الحكاية المؤثرة حول فقد المدرس لولدين، والصمت الطويل الذي لف منزل العائلة، لكن هذه المرة بالذات تتضاعف هذه المشاعر، إذ كيف كان مبدع برهافة المدرس سيشعر لو كان بيننا اليوم. ثم هناك شعورنا نحن بالخسارة الفادحة لعلامة إبداعية بقامة المدرس، خسارة وفقد وكأنه بات جزءاً من خسارات استثنائية، إذ ما الذي سنقوله الآن، لقد خسرت حلب مبدعاً وفناناً كبيرا؟ ماذا سنقول وحلب كلها باتت في مهب الريح، أسواقها وخاناتها وعماراتها وكتبها وناسها.
كذلك فإن صوتاً آخر يزيد الخسارة فداحة. صوت يطل بعبارة، أو سؤال واحد فقط، هو صوت عمر أميرالاي المسموع في ختام الفيلم. كل تلك الخسارات؟ ماذا تبقى للسوريين إذاً؟ يا لنكبة السوريين.
(كاتب سوري)