صفحات الناسفاطمة ياسين

مليشيا الديار.. عليكم سلام/ فاطمة ياسين

 

 

ينكمش النظام السوري بسرعة، كحلزون رُشَّ فوقه الملح، لكنه لا يعتبر خروجه السريع من المدن الكبيرة هزيمة عسكرية، فهو يلملم نفسه، ويَحمل ما غلا ثمنُه وخف وزنه، ويتراجع بسرعة إلى رقع جديدة، من دون أن يدافع، ولو بالحد الأدنى، عن المناطق التي كان يسيطر عليها، ويترك وراءه أزلامه ومناصريه يواجهون مصيرهم المحتوم. إدلب، ثم جسر الشغور، ثم تدمر، تهوي كأحجار الدومينو، وليس بين الانسحاب والذي يليه إلا تنهدات المناصرين على “فيسبوك” التي يتردد صداها في كل الأروقة.

يظهر الجيش النظامي، على الرغم من الأيقونات التي صنعها ولمّعها وتناقلها عبر وسائط إعلامه، كأساطير قادرة على تحويل الهزائم إلى انتصارات، وكأنه عربة متآكلة يجرها حصان عجوز، يستحق رصاصة رحمة تريحه من مزيد من “الشحططة”.

تبتلع وسائط إعلام النظام التراجعات الكثيرة تحت عناوين عديدة، لكن الحقيقة التي يدركها الجميع أن النقطة التي يخليها الجيش اليوم لن يعود إليها مطلقاً، وهو لا يحاول ذلك، على الرغم من خطابات رأس النظام، فلم تكن معركة المستشفى الوطني في جسر الشغور محاولة استعادة، بل كانت هجوماً يائساً حاول النظام تخليص العالقين فيه الذين تبين أنهم مجموعة كبيرة من الضباط ذوي الرتب الرفيعة، لكن الهجوم الذي أريد له أن يكون العَظْمة التي يرميها الإعلام لمناصريه تَحَوَّلَ إلى كابوس بمقتل معظم من كان مختبئاً فيه، ودخول جيش الفتح إلى المستشفى، بعد أن باتت جسر الشغور خالصة له.

يتكرر السيناريو في تدمر لصالح تنظيم الدولة الإسلامية الذي تقدم كمن يتنزه، وسرعان ما اخترق شوارع المدينة الأثرية، ليرفع علمه فوق قلعتها، ويدخل متحفها الوطني، ويفتح أبواب سجنها الشهير الذي حوّله النظام إلى أسطورة من أساطير الرعب، فكان الدخول سهلاً وسلساً، أدهش المهاجمين أنفسهم، حيث أصبحوا في قلب تدمر بلا مواجهة، بعد أن أخلى الجنود مواقعهم على عجل، وانتقلوا إلى نقاط جديدة بعيدة عن المدينة.

بات الانسحاب سلوكاً نموذجياً لجيش النظام، فعند محاولتك رسم خطوط التراجع، تجد أنها تشكل كونتواراً جغرافياً حَلَقياً، يطوق شيئاً فشيئاً مناطق النظام الساحلية، ويضيق المنحنى من ناحية الشمال، لأن محافظة إدلب وريفها أصبحا خارج السيطرة بشكل كامل. وتبقى أريحا المدينة الأخيرة التي ما زال النظام فيها، وقد باتت قاب قوسين أو أدنى من السقوط، ليكتمل الضلع الأول من الصندوق الذي يحيق بمناطق النظام، وليلاقي ببطء الضلع الثاني الذي تم إنشاؤه بسقوط تدمر، وبدأ بالتمدد شرقاً، ليلامس ريف حمص، مقترباً من الضلع الذي يهبط سريعاً من الشمال.

يتراجع النظام وظهره للخلف، وكأنه يحاول تأخير المعركة التي أصبح واثقاً من أنه سيخوضها على “أرضه”، فلا يلتحم بشكل مباشر مع خصومه، ويترك لهم أرضاً تميد تحته، لفظه أهلُها، وأصبح جسداً غريباً فيها، موفراً ما يستطيعه من رصاص يعرف أنه في حاجة إلى كل ذرة بارود منه.

يتحول جيش النظام في تراجعه الملهوف والمتسرع إلى شكله الطائفي الخام، تاركاً وراءه الأرض التي كان يتغنى بأنه يدافع عنها، مخلياً الديار التي يدعي نشيدُه الخاص أنه حاميها الوحيد، ليركض إلى حيث خرج خروجه الأول، ويعود خائفاً لائذاً بالجدران، طارداً من أمام ناظريه آلاف الجثث ومستنقعات الدماء التي خاضها.

كشفت المعارك الأخيرة بنية هذا الجيش الذي لا تعرف خططُه “الهجوم المعاكس”، وبينت أنه جيش وليد اللحظة، ذو سبطانة رخوة، مفهومه للوطن مشوه، وعقيدته العسكرية ذات طبيعة مليشياوية، ليس مستعداً أن يدافع، قبل أن يتأكد من أن “القمع والتشفي” عملية تالية للدفاع، ولا يهجم إلا إذا كانت “الغنائم والأسلاب” ضمن قائمة أهدافه، لم يتم تشكيله، بل تم “تنجيره” على مقاس محدد، ليلائم مزاجاً بعينه. لم يخض حتى اللحظة معركة وطنية واحدة، وربما يعتقد أنه على موعد قريب معها على رمال شواطئ اللاذقية.

ربما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى