صفحات الرأي

منطق الغاب في “دولة الغيبوبة”/ ماجد الشيخ

 

 

… وتستمر مجازر القتل اليومي في كل من العراق وسورية، وفي كل المناطق التي يطمح «دواعشيو» عصرنا لاغتصاب السلطة السياسية والسيادية فيها، وفرض سلطة لهم عمياء لا دخل للقوانين والحقوق فيها، ومن خلالها انتهاك كل القيم والأخلاقيات وفرض أنماط من سلوكيات، لم تكن قد تفشت على نطاق واسع إلا في عصور الظلمات والانحطاط، التي سادت ردحاً طويلاً من الزمن، وهي تستمر الآن وتتواصل بالكيفية ذاتها، وبغيرها من كيفيات الإجرام، وفق «منطق الغـاب» الذي كرسته وتكرسه اليوم، سلطات تؤله نفسها، أو تزعم أنها تنطق باسم السماء، و «تتحرر» أو تحرر نفسها من أي شكل من أشكال الرقابة والمحاسبة، فلا تجد ما يجعلها ترتدع عن ممارسة مسلكيات، أقل ما يقال فيها أنها أقرب إلى التوحش والتغول الهيمني، وممارسة نفوذ متفلت من كل الشرائع والقوانين والأعراف التي درجت البشريـة عـلى تـهذيـب سلوك أفرادها ومجتمعاتها وجماعاتها وفقها، انطلاقاً من قيم إنسانية مشتركة، أضاءت وتضيئ على تجارب إنسانية، استرشدت بدورها بما لم يكن عابثاً من مسلكيات أفراد وجماعات، تركوا بصمات خــلاقة وإبداعيـة، في سرديات مسيرة شهـدت ثــورات سياسية واجتماعية وعلمية وثقافية وفلسفية، رغم الانقطاعات الاعتراضية التي شكلها مهووسون بالتعصب الديني والهويات القاتلة.

وها هم أشباه لأولئك المهووسين بالتدين الأعمى، وبتعصب أشد من القتل، يذهبون إلى القتل على الهوية، تحت مزاعم وذرائع وحجج لا تخضع للتثبت أو التحقق، وإنما الظن والاتهام الجاهز هما سيدا الأحكام، لدى «دواعش» عصرنا وأضرابهم ممن تشكل السلطة لديهم الغاية والمرتجى والمآل الذي عبره يكيفون فهماً للدين، لا يرتجى منه غير تحقيق استيهامات التسلط والتغول الاستبدادي، ونيل كل ما في النفس الأمارة بالسوء من شبق الرغائب والتمنيات والأماني الذاتية، البعيدة كل البعد عن مقاصد الدين ومعانيه ومبانيه، التي تدخل في أطر العبادة الصافية.

هي العادات إذاً، وقد طغت على العبادات، عادات التوحش التي تجعل من مناطق بعينها هيمن عليها «الدواعشيون» وأضرابهم، مسرحاً للذبح والسلخ، حتى بات العديد من مساحات بلادنا الشاسعة، مرشح للدخول في مسالخ يحكمها «رعاة التكفير والتقتيل» من أصحاب السوابق الجرمية، يحكمون بما يؤمرون، ويأمرون بالإفك والعدوان، والقتل والإجرام، ويطيب لهم متعة السلطة والسلطان، فيأمرون بما لا يفهمون، وهم لا يفقهون أصلاً من الدين، سوى ما تشير عليهم نوازعهم باتباعه، ولو كان مناقضاً للدين وأصوله ومقاصده.

ما أملناه وتمنيناه من الربيع العربي، للخلاص من الاستبداد السياسي، واستئناف مسيرة الحياة المدنية، وتطوير مجتمعاتنا وتحويلها، وتغيير أحوالها وانتقالها مما تردت فيه، إلى ما تفرضه الثورة من قيم ثورية، حوّله «الدواعشيون» إلى مآتم وحفلات زار ومزارات للقبور، ونكوص إلى الخلف، إلى ماض مضى واندثر، وها هم يحاولون إعادة «إحيائه» عبر إماتة الأحياء، وإحياء الأموات، فأي «أمة» هي هذه الأمة التي يجري اغتيالها وإماتتها مئات المرات، كلما حاول بعض أفرادها وجماعاتها النهوض من «سبات القرون»، وقرون التخلف والانحطاط؟.

إن أمة بلا دولة، هي مثل دولة بلا أمة، ودولة «الخلافة» هي كذلك؛ نشأت وستبقى مقطوعة الجذور، لا علاقة لها بأي أمة، على أن الأمة التي عشنا في أكنافها وعلى «أمجادها» طوال عقود هيمنة الثقافة والوعي القوموي، كانت أمة مفترضة لا دولة لها، وإذا لم يكن لنا دولة، فلن يكون لنا أمة تنهض من عثراتها التاريخية.

وفي كل الأحوال، إن علاقة جدلية متلازمة، تربط بين الأمة ودولتها والدولة وأمتها. لذلك ولأن اليهود لا يشكلون أمة، فإن الدولة القائمة في فلسطين ليست «دولة يهودية»، بقدر ما هي دولة عصابات فاشية استيطانية إحلالية، قامت بفعل الأمر الواقع، فهي ستبقى موقتة، ولا يمكنها أن تتحول مع الزمن إلى دولة «الدين اليهودي»، مهما جرى النفخ فيه كونه «ديناً وقومية» في الوقت ذاته، وهذه هي الاستحالة بعينها. وهذا ما ينطبق تماماً على «دولة الغيبوبة الدواعشية».

* كاتب فلسطيني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى