منطق المؤرِّخ” للمزوغي يُعرّي سلفيّة هشام جعيّط/ عبد الدائم السلامي
أصدر الباحث التونسي المقيم في روما، محمد المزوغي، كتاب “منطق المؤرِّخ” بعنوان فرعي: “هشام جعيّط: الدولة المدنية والصحوة الإسلامية”(منشورات الجمل)، وقد قسّم كتابه إلى فصلين: أولهما موسوم بـ”الإطار النظري”، وثانيهما بعنوان “الاستتباعات العملية”. وهما فصلان يقشّر فيهما الباحث مظاهر سلفيّة فكر هشام جعيّط، ورفضه لمدنية الدولة ودعوته إلى الخلافة، وذلك بالحجّة التأولية وبالدليل المنقول من كتبه، على غرار كتب “تاريخية الدعوة المحمدية” و”الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي” و”أوروبا والإسلام” و”أزمة الثقافة الإسلامية” وغيرها من الكتب والمقالات.
والحقّ إن كتاب “منطق المؤرِّخ” عمل علميّ أكاديمي وجريء معًا، وقراءته تُخلخل كثيرا من تصوّرات القارئ العربي المتصلة بالمفكّر التونسي هشام جعيّط، والتي تمّ التسويق لها في الكثير من المقالات والدراسات والحوارات التي أجريت معه. وصورةُ ذلك أن جعيّط بدا فيها مفكّرا تنويرياً وحداثياً وعلمانياً وعقلانياً. غير أن كتاب الباحث محمد المزوغي يَنسف كلّ تلك التصوّرات عبر سبيل الحجّة والدليل، ويَكشف عمّا يتخفّى في فكر هشام جعيّط من مظاهر سلفية أفصحت عنها كتاباته حيناً، وأضمرتها حينا آخر. وهو ما يعني بالنسبة إلى المزوغي أن “جعيّط إسلاموي في تفكيره ومحكوم بالنظرة الدينية للأشياء”. بل هو إسلاموي “جمع بعضاً من الخصال السلبية التي يتميّز بها الإسلاميّون: التناقض، السخرية، والتبرير اللاتاريخي لمعتقده الدّيني”.
فبالنسبة إلى الحداثة والعلمانية، فإنهما في رأي هشام جعيّط جالبتان للأمراض النفسية الحادة، بل هو لا يرى في الحداثة إلا “وجهها التضليلي،… وإرهاق البشر نفسياً من جراء العلم والتكنولوجيا”. وفي هذا الشأن نلفي جعيّط يسجّل بغبطة كبيرة ظهور تيارات الإسلام السياسي التي تبشّر بالصحوة الدينية وذلك في قوله: “في كل مكان يسود الشعور بعودة الروح والتطلّع إلى الروحي في عالَم فقد سحريتَه،… ويدخل الإسلام في هذا البحث، على الصعيد العلمي، وخارج المنطقة الإسلامية”.
ولعلنا واجدون في قوله: “الإسلام والحمد لله دين عظيم يمكن بحق أن نفخر به… ولن أبالي هنا بالنقد التاريخي ولا بالتاريخانية ولا بالعقل الجاف والعقلانية، فإن السلطة الخفية التي هي إحدى أعمدة الدين تنقذنا من الذبذبة لأنها إقرار بالماضي وإقرار بالتضامن واحتقار الأنا”، تأكيداً منه لعمق المنحى اللاعقلاني والمعادي للحداثة الذي يتحرّك فيه. فالعقلانية في فهم جعيّط تبقى “عرضية ومعدومة القيمة في حدّ ذاتها”، على حدّ قول المزوغي الذي يرى أن “أكثر ما يثبت إسلاموية جعيّط هو نقده القاسي للعلمانية وتهجّمه المستمرّ على معالمها”، لأن النهضة الإسلامية لا تتحقّق إلا بتجاوز “الخطاب التحديثي الأبله”. لا بل إن هذا المفكّر يبشّر بأن العامل “الدينيّ المطرود (بعد ظهور العلمانية) يسترجع قوّته لأنه غدا نداء أمل جنوني”. وهو شاهد وجد فيه المزوغي سخرية جعيّط من المثقّفين العقلانيّين العرب والغربيّين، فيتساءل: “كيف لا يسخر هشام جعيّط من العقلانية وهو الذي أكّد منذ خمسين سنة أن المهمة المستقبلية للمثقّفين هي “إعلاء كلمة الدّين والتغلّب على العقلانية المعاصرة”؟
ومن الملاحظات الجريئة التي يسجّلها كتاب “منطق المؤرِّخ” تشديده على أن خطاب هشام جعيّط “سلفي كان قد كتبه في السبعينات من القرن المنصرم، وبقي مقتنعاً به ويردّده باستمرار، رغم الشهرة التي اكتسبها من أنه مفكّر حداثوي مجدِّد وتنويري. خطاب ديني لا يختلف عما يروّج له في تلك الفترة سيّد قطب”.
ويذكر الباحث “أنّ خطاب جعيّط لم يكن مجرّد خاطرة عابرة أو اقتراح طوباوي، بل قناعة راسخة منذ عقود، فهو يتحسّر على انقراض الخلافة الإسلامية ويستذكر رأي الأفغاني المتشبّث بفكرة المحافظة على تلك المؤسّسة حتى وإن كانت عجلة التاريخ قد تجاوزتها”. ويورد في هذا الشأن قول جعيّط أدلى به في الستينات من القرن الماضي: “أنا أدعو إلى تكوين سلطة إسلامية روحية يكون لها، القول الفصل في الأمور الدينية، يكون على رأسها خليفة ديني منتخب وحوله عناصر دينية… بحيث يكون الخليفة وأعضاده رعاة الإسلام العالمي”. ويضرب جعيّط مثالاً على أن إسقاط إيديولوجيا دينية على شعوب تتوق إلى مدنية الدولة، ممكن جداًن بل وربما هو أمر محمود وناجح، حيث يقول في هذا الشأن: “في إيران مثلاً، حصل إسقاط للإيديولوجيا الإسلامية على المجتمع، إنها [تجربة] تعتبر ناجحة إلى حدّ الآن”.
ولعلّ ما يؤكّد ما ذهب إليه الباحث محمد المزوغي من إقراره بسلفية هشام جعيط، مباركةَ هذا الأخير لظهور حركة النهضة في المشهد السياسي التونسي بعد أحداث 14 يناير 2011، إذ يقول: “أنا لا أخاف من الإسلام السياسي أن يأخذ الحكم في أيّ قطر من الأقطار المغاربية… إن هناك بوارق أمل ترتسم في الأفق”. ولعلّ في هذه البوارق من الأمل بتمكّن الإسلاميّين من حكم تونس ما جعل حكومة النهضة تعمد إلى تحقيق البرنامج المرجو: تقويض الإرث البورقيبي.
يُذكر أن محمد المزوغي هو أكاديمي وباحث تونسي مقيم بإيطاليا، أستاذ الفلسفة بالمعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية بروما. من مؤلفاته “نيتشه، هايدغر، فوكو. تفكيك ونقد” دار المعرفة، تونس 2004؛ “عمانويل كانط: الدين في حدود العقل أو التنوير الناقص” (دار الساقي، بيروت 2007)؛ “العقل بين التاريخ والوحي: حول العدمية النظرية في إسلاميات محمد أركون” (منشورات الجمل، بيروت 2007)؛ “نقد ما بعد الحداثة” في جزأين (دار كارم الشريف، تونس 2010)؛ “تحقيق ما للإلحاد من مقولة” و”منطق المؤرخ، هشام جعيط: الدولة المدنية والصحوة الإسلامية” وكلاهما صادر عن منشورات الجمل 2014.
المدن