منمنمات دمشقية: دمشق وأسطورة السائح
محمد العطار ونبراس شحيّد
تنسب إحدى الأساطير المنسية تأسيس مدينة دمشق إلى ديونيزيوس. إنه “الإله” السائح الذي قتلت غيرةُ “الإلهة” هيرا أمَّه، فأخرجه زيوس من أحشائها وزرعه في فخذه جنيناً لينبعث منه إلى الحياة بعد ثلاثة أشهر. اضطر الصغير أن يتنكر في زي الفتيات لكي يختبئ من غيرة هيرا. بعدها أُجبر على الرحيل إلى بلادٍ بعيدة، وهام على وجهه يجوب أصقاع الأرض مع نايه وشغفه وموسيقاه. لذا، وإن كان اسم “الإله” هذا مرتبطاً بالعيد والرقص والمسرح، فسيبقى ديونيزوس متألماً غريباً يمضي الوقت في الترحال، فيظهر حيناً ويختفي أحياناً، ليخلق عند محبّيه دهشةً ووجداً عظيماً.
روح ديونيزوس، يقول الفيلسوف نيتشه، هي “تجاوزٌ لما هو عادي في المجتمع والواقع، وهي تخطي هوّة الزوال… هي الإذعان الواجد (من الوجد) لما يجعل الحياة واحدةً على الرغم من تقلباتها، قويّةً، ساحرةً. هي الرغبة الأبدية في الولادة والخصوبة والعودة”. هذه هي روح مؤسس دمشق، تقول الأسطورة المنسية: روحٌ تعيش من شغف اللحظة، وتولد من جديد! روح “المؤسس” الغريب التي تشربها المدينة هي روح الدهشة، روح الترحال والحركة التي لا تعرف التوقف، روح المذكّر والمؤنث، وروح الصراع الدائم مع الموت. هذه روح دمشق التي لا يمكنها أن تكون دمشق إن لم تبن حجارتها من دهشة أبنائها على الرغم من آلامهم.
مدينةٌ حجارتها من دهشة
روح ديونيزوس عششت في دمشق متجاوزةً الحقب، لتحملها متظاهرةٌ دمشقية في لافتةٍ كتبت عليها: “ليتني متُّ ألف مرة قبل أن أرى قاسيون يقصف دمشقه”! ليس حزن الفتاة هذه إلا دهشةً ترغب في تكذيب ما ترى من دون أن تجد إلى ذلك سبيلاً! لا يصدّق السوريون ما تبصر عيونهم، فقاسيون لم يعد لهم، وكذلك المدينة! إنه الجبل يقصف دمشقه! لا يصدّق السوريون ما يشاهدون، فإخوانهم في الوطن لا يترددون في إمطار أحيائهم بالقذائف. لا يمكن السوريين أن يصدّقوا ما يرون، فإخوانهم يدمرون البيوت على رؤوس ساكنيها! إنهم يجتثّون الآثار والذكريات ويحرقون ما بقي من الغابات من دون أن يرفّ لهم جفن! إخوانهم في الوطن!
يفجع سكان دمشق بواقع قاسيونهم الجديد، على رغم أنهم راقبوا كل الإشارات التي مهّدت إلى ذلك، لتمتزج دهشتهم المتألمة بمصاب جميع السوريين حين يرفضون تصديق ما يشاهدون: إخوةٌ يقتلون إخوتهم، وجيشٌ يقصف بلده! ليست الدهشة المتكررة هذه إلا التعبير الأصدق عن إيمان السوريين بمستقبلهم، فهم يصرّون على أنهم سيعيشون معاً مهما طالت دروب الألم! الدهشة هذه هي تعبيرهم العفوي عن رفض الانصياع إلى رغبة الطغاة في الاستسلام إلى الكراهية والحقد واليأس، إنها خط الدفاع الأخير من أجل المحافظة على الإنسان فينا. الدهشة الأسطورية القديمة، الدهشة التي صدّقت ما رأت من جمال الحياة فأسست دمشق، والدهشة الجديدة، الدهشة التي ترغب ألا تصدّق ما ترى من تشويهٍ للحياة، ستحميان المدينة من تراكم الأحقاد، لأن الدهشة تقدر وحدها أن ترى ما في الحلم من حقيقة!
جبلٌ بوجهين ومدينةٌ صارت غريبة
مريعٌ منظر الجبل حين تُقصَف منه المدينة، لكن الدمشقيين يقاومون قسوة الجبل بجمال ماضيه، فلقاسيون على الرغم من جفائه سحرٌ مدهش في ذاكرة مريديه. أهي تلك المخاتلة في رؤية المدينة التي ترقد عند سفحه وتمدّ أحياءها بمثابرة مزعجة حتى قمته؟ ربما. فالدمشقيون كانوا يصعدون الجبل المهيب لينظروا إلى مدينتهم بدهشة، كأنها عروسٌ يتعرّفونها للمرة الأولى. للإطلالة من قاسيون طعم مختلف، فالمدينة من فوق تواري ندوبها لتتساوى شوارعها المترفة بعشوائياتها. سحر قاسيون جذب فقراء دمشق وأغنياءها إليه، حين يخفي الليلُ بحكمته الفوارق الاجتماعية، فيستمتع الجميع بنسيم الجبل الصامت. في الليل أيضاً يرمي الساهرون في قاسيون همومهم على مدينتهم – استراحة قصيرة قبل نهارٍ شاقّ آخر، خصوصاً لمن أثقلت عليه الحياة بأوزارها، فبثّ فيه الجبل شيئاً من السكينة ومن الحنين إلى مدينة تبدو وادعةً هناك على سفحه. لسحر قاسيون الغامض أيضاً صلة بالبعد عن نميمة المدينة، فكثيراً ما ستر الجبل العاري بظلمته عشّاقاً هربوا من عيون الرقباء ليتبادلوا في أحضانه القبل، وهو يشهد على حكاياتهم، كما يشهد على فصول رواية المدينة وتقلب نوائب الدهر عليها.
الآن، أصبح لسحر قاسيون الغامض لونٌ آخر، حين صار للجبل الهائل وجهان: أحدهم يطل على دمشق حاضناً ومراقباً، والآخر تغزوه فرق الجيش والعسكر التي أدركت أن امتلاك الجبل هو امتلاك المدينة. اكتظّ وجه قاسيون الجديد بقطع الجيش وآلياته، ورُوِّضَ الجبل العتيد تماماً. في السنوات الأخيرة بدأ سحر قاسيون بالتلاشي أيضاً، فقد أطبق الخناق على فقراء المدينة ومتوسطي الدخل فيها، حين احتُلت أرصفته المجانية بمطاعم فارهة يمتلكها الأثرياء الجدد الذين امتلكوا كل شيء في البلد، أو بمقاهٍ بسيطة الشكل لكنها تضنّ على مريديها بكأس شاي زهيدة الكلفة! هل كانت هذه مقدماتٌ لما يراه قاطنو دمشق اليوم من حممٍ تتدفق من قاسيون على أحياء مدينتهم؟ ألم يكن قاسيون غريباً على الدمشقيين في السنوات الأخيرة؟ نعم، لكن، وعلى الرغم من ذلك، يبقى الجبل صامداً في ذاكرة الدمشقيين! لذا لا تصدّق الفتاة ومعها المدينة وأسطورتها ما يرون، فواقع الدهشة وحنينها أقوى من قسوة الواقع: “ليتني متُّ ألف مرة قبل أن أرى قاسيون يقصف دمشقه”!
مدن الحرائق
ومستقبلٌ تصونه الدهشة
تتصاعد أعمدة الدخان من أطراف دمشق، تُقصَف من قاسيون، وفي الوقت عينه تتوافد الصور من حلب، شقيقتها: سوقها القديم يحترق، قلب حلب يحترق! تصمد حلب التاريخ في وجه مصائب الدهر وتقلباته، لكنها تنهار أمام قذائف الإخوة في الوطن. مع هذه المشاهد، يعلم غالبية الدمشقيين أن ألسنة النار المتصاعدة من الأحياء التي تحيط بقلب العاصمة، ستمتد قريباً لتلتهم وسطها، فمن لم يخشع أمام الأسواق الحلبية وبيوتها التاريخية، لن تردعه آلاف الحكايات المُعششة مع طيور السنونو في أسواق دمشق ودُورها القديمة.
يخبرنا التاريخ كيف انهالت المصائب وتوافد الغزاة على المدينتين بالتوالي، وكيف أنذرت الأولى شقيقتها بما سيحلّ بها، فعندما سلّم وجهاء دمشق أمر مدينتهم لجحافل التتار يقودهم تيمورلنك، كانت الحرائق لم تخمد بعد في حلب، وقد استباحها هذا الأخير. ظن وجهاء المدينة وتجارها أن العهد الذي قطعه معهم تيمورلنك سيحمي المدينة، أو بالأحرى سيحمي رزقهم، وتناسوا عمداً ما فعله التتار في حلب. وحدها القلعة ومن التجأ إليها من سكان المدينة بقيت تقاوم حتى الرمق الأخير. تعيد “منمنمات تاريخية” لسعد الله ونوس استحضار هذه الوقائع، فينسج منها الكاتبُ مسرحيةً تقول الكثير عن خذلان ذوي القربي، وعن جشع مكتنزي المال. في “منمنمات” ونوس أيضاً حكايات عن تخاذل رجال الدين والعلم، وعن هوان الناس، وفيها أيضاً قصصٌ عن مآثر وتضحياتٍ جسام، وعن حبٍ يولد في قلب الموت والمعارك. في “المنمنمات” أيضاً حكاية الفتاة الحلبية التي لجأت مع والدها إلى دمشق بعدما دمّر التتار مدينتها، لتعيش هناك فصول معاناة جديدة، نجمت عن ظلم أهل البلد هذه المرة، على الرغم من كونها الوحيدة التي تعطف على البهلول الحر من قيود المدينة وعفنها أيضاً. استحضرَ سعد الله ونوس هذا التاريخ ليواجهنا بأسئلة مؤرقة، تحمل من اللوم على أناسٍ خنعوا للظلم وباعوا أنفسهم له بقدر ما تحمل من إيمانٍ بنبل آخرين ونهوضهم ولو بعد حين. اليوم يعيد السوريون استحضار التاريخ حين يكتبونه بدماء شهدائهم وبرماد أحيائهم المحترقة تحت وطأة القصف، ليعيشوا المفارقة المأسوية الجديدة: على السوريين أن يعترفوا بهول ما يجري، لكن، وفي الوقت عينه، عليهم ألا يصدّقوا ما يرون بأم العين، وأن يقاوموا قبل كل شيءٍ بالدهشة. فوحدها الدهشة تعترف بالواقع لكنها ترفض أن تتماهى معه! تأبى الدهشة أن يتحول الاستثناء البغيض قاعدة، فرصاص الجندي يجب ألاّ يخترق صدر ابن بلده، والمَدافع لا يحقّ لها أن تصبّ نارها على مدن الوطن تباعاً. الدهشة المتجددة هذه تؤمن بأن الحلم سيبقى قادراً على خلق واقع جديد يقترب منا شيئاً فشيئاً، ليكون فيه للعدالة كلمةٌ أقوى من الرغبة في الانتقام: الانتقام من قاسيون وقذائفه!
النهار