من أجل سوريا الغد
يوسف بزي
من وجهة نظر الفكر التاريخي، سقط النظام الشيوعي يوم 13 آب 1961، عندما اضطر للبدء ببناء جدار برلين، منعاً لتدفق سكان ألمانيا الشرقية، هرباً من الحياة في ظل النظام الشيوعي، إلى برلين الغربية. فأسلوب الحكم وفلسفة بناء الإنسان والمجتمع، كما طرحتهما الشيوعية اللينينية، لم يعودا مقنعَين ولا جذّابَين، على الأقل، إن لم نقل صارا ممقوتين.
لكن السقوط العملي تأخر حتى يوم 9 تشرين الثاني 1989، مع قيام مواطني شطريّ برلين بهدم الجدار، بالمعاول والمطارق، تحت أنظار كاميرات العالم، في لحظة اعتبرها البعض النهاية المبكرة للقرن العشرين، فيما ذهب فرانسيس فوكوياما للقول إنها “نهاية التاريخ”.
على هذا المنوال، أو الدرس “التاريخي”، كان يقيننا بأن النظام السوري سقط يوم 18 آذار 2011، مع خروج المواطنين السوريين إلى الشوارع والساحات طلباً للحرية والكرامة. وأما نهايته فهي “مسألة وقت”، كما يكرر الجميع. وبعد مرور سنة وتسعة أشهر على انطلاقة الثورة السورية، وانتقالها الاضطراري والإجباري من طور الانتفاضة المدنية السلمية إلى حال الثورة المسلحة الشاملة، بفعل شراسة النظام ووحشيته ودمويته، تبدو تلك النهاية وشيكة اليوم أكثر من أي وقت مضى.
لذا، نظن أنه ليس من المبكر الآن البدء بطرح التساؤلات أو بسرد المعضلات التي نخمّن أنها ستواجه السوريين وثورتهم بعد سقوط النظام مباشرة. فهي، على الأرجح، أصعب وأضخم من تلك التي واجهها الليبيون بعد النهاية الدراماتيكية لمعمر القذافي. فالحرب الثورية الليبية كانت أسهل وأسرع، وبرعاية وتدخل دوليين. كما أن ليبيا، رغم الطابع القبائلي لمجتمعها، ورغم تمايزها المناطقي بين شرق وغرب، إلاّ أن الاقتتال الأهلي أسبابه ضعيفة، كما أن ضآلة عدد السكان بالتوازي مع الثروة النفطية تتيح معالجة الكثير من المعضلات الاجتماعية والاقتصادية، كما تسهّل عملية إعادة الإعمار وتسرّعها، وتتيح وضع خطط تنموية واسعة وقابلة للتنفيذ. وهذا ما لن يتوافر للسوريين، الذين سيجدون أنفسهم في دولة فارغة خزينتها، وفي مدن مدمرة بالكامل، فيما الخراب يعمّ الأرياف. سيواجهون أيضاً معضلة كبرى في حلّ مشكلة ملايين المهجّرين وكيفية إعادتهم إلى أماكن عيشهم. تلك الأماكن التي باتت تختزن ذاكرة المجازر والقتل والعداوات الأهلية والعائلية، عدا عن انعدام مصادر الرزق وانهيار البنى الاجتماعية وتمزّق نسيج العلاقات. بل وثمة تحديات هائلة، تتصل بالحال في سوريا منذ ما قبل الثورة. فالنظام بسياساته الاقتصادية القائمة على النهب الواسع النطاق، والإهمال المتعمّد لمناطق واسعة من البلاد، وفشل معظم مشاريعه التنموية، حوّل العيش السوري إلى نمط من العمران العشوائي، الذي يفرّغ الريف ويقوّض المدينة. إن إعادة تشكيل سوريا عمراناً واجتماعاً وبيئة ستكون مهمة شاقة وطويلة الأمد.
وأفدح من كل هذا، ستكون المعضلة الأولى والمباشرة هي تشكيل “إدارة” سياسية متوافق عليها وطنياً لقيادة المرحلة الانتقالية. فأداء النخبة السياسية والثقافية أثناء الثورة كشف عن التعثّر المديد لدى هذه النخبة في تنظيم نفسها على نحو فعّال، وعن فقر درايتها بالعمل الجماعي المنظّم، وتبرمها من السياسة وتكتيكاتها، وغياب المهارة الديبلوماسية ونفورها من العقلية التسووية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بحل الخلافات الداخلية. ومهما يكن، وحتى لو أنجز السوريون تشكيل “إدارة” سياسية تحظى بموافقة عامة، فإن مشكلة مباشرة وخطرة ستواجههم هي جمع السلاح ونزعه من أيدي الميليشيات الثورية أولاً، وهذا دونه عقبات شديدة الصعوبة والحساسية، وقد تطيح بالمرحلة الانتقالية برمّتها وتحوّلها إلى فوضى مسلحة وفق النموذج اللبناني. وبالإضافة إلى السلاح “الثوري”، فالمرحلة الانتقالية لا بد أن بنودها الأولى تتضمن عملية مزدوجة: تفكيك النظام الأمني المخابراتي من جهة، وإعادة بناء الجيش من جهة أخرى. إنها العملية الأدقّ، وستمتصّ جهداً كبيراً، وستكون نتائجها فائقة الأهمية في الحفاظ على الكيان السياسي من جهة، وفي تقرير شكل النظام الجديد، والحجر الأساس لإعادة بناء الدولة.
كل هذا يستدعي المخاوف، لكن أعظم المخاوف هي الكامنة في مسألتين معقدتين: الأولى، مواءمة مبدأ وحدة سوريا السياسية من جهة والحقوق الكردية (القومية والثقافية) من جهة ثانية. أما المسألة الثانية، حسبما تؤشر إليه أحوال بلدان الربيع العربي، فهي طموحات “الإسلام السياسي” في فرض نموذجه الأيديولوجي على الدولة والمجتمع سعياً إلى إقامة نظام ثيوقراطي لا ديموقراطي.
فإذا كانت كل من تونس ومصر، وهما الأكثر استيفاء لشروط الأمة ـ الدولة وانسجام المجتمع مع أغلبية مذهبية – دينية حاسمة، تعانيان راهناً من “الإسلام السياسي” بما يهدد وحدة المجتمع وسلامة الدولة، كما يهدد المسار الديموقراطي والحريات، وقد يعيد إنتاج نظام تسلطي مجدداً، فإن سوريا التعددية والبالغة التنوع الإثني والطائفي والديني، قد تجد نفسها أمام جموح الإسلام السياسي (خصوصاً إذا “انتصر” في مصر)، مهددة بالتفتت وبالحروب الأهلية المتناسلة على نحو يفوق النموذجين العراقي واللبناني. لكن قد يحدث العكس، إن اتعظ “الإسلام السياسي” السوري من سوء أداء أقرانه في تونس ومصر، وهذا هو المأمول.
الثورة السورية، تتصف عن حق بـ”القداسة” وتستحق كل تبجيل ممكن. الشجاعة الإستثنائية وروح التضحية والغيرية الفائقة وحس التضامن العالي، ومستوى تحمل الألم والصبر الإعجازي بمواجهة أعتى الأنظمة إجراماً ووحشية.. كل هذا يستحق التقديس.
مع ذلك، ولكي لا يتحول هذا التقديس إلى وثن سياسي، أو نصباً عملاقاً يجثم فوق المستقبل السوري، ولكي لا يتحول إلى “عقيدة” ثم إلى “حزب حاكم” (على مثال شهداء الجزائر وحزب ثورتها)، يجب إنهاء مفعول القداسة ولغتها وشعائرها، من لحظة سقوط النظام، يجب إحالة الثورة إلى ذاكرة وطنية، خاضعة للكتابة التاريخية، لكن أيضاً، وهذا هو المهم، لنقدها وكشف تجاوزاتها وأسباب ارتكاباتها والاعتراف بما اعتراها، وبما ورثة الثوار، حكماً، من أفاعيل النظام وإرثه في السلوك والتفكير.
هكذا، في سوريا، ما بعد النظام، سنجد طريقاً طويلة ومتعرجة ووعرة ومليئة بالمخاطر المهلكة يسير فيها السوريون من محطة طلب الحرية والتحرر إلى نهاية مطاف بناء الأمة ديموقراطياً.
إنها المسافة المتعبة بين مهمة اسقاط نظام فاسد ومستبد وبين بناء برلمان وتحديث التعليم وتشييد المؤسسات وكتابة الدستور وتنصيب القانون والقضاء.. انها المسافة التي سيجتازها السوريون من مرحلة تحرر المواطنين إلى مرحلة وفاق المواطنين وتعاقدهم على هوية ونظام ودستور يليق بتضحياتهم وأحلامهم.
وهذا كله يستحق ثورة.
المستقبل