صفحات العالم

من أجل سورية والسوريين!


خليل قانصو

لا أعتقد أنني أكشـّـِفُ مستورا أو مجهولا إذا قلت ان الأمور في لبنان لا تظهر على حقيتها وأن أحجامها ليست طبيعية نتيجة تضـخـّم أو امتلاء أو انتفاخ. ومهما يكن فإن أيجابية هذا التصنــّع هي التكبير والتوضيح كمثل النظر من خلال المجهر. لا شك أن ذلك مفيد للإستدلال على الغايات والمقاصد، على الأقل في لبنان وسورية. فقدرُ مدى البصرِ يقصرُ بموازة تفاقم التورمِ والإستسقاءِ والإستكراشِ وعـِظَمِ الأنف. يخال الضيفُ عند سماع البعض أن الناس في لبنان وسورية يتحركون وحيدين في هذا العالم، أو أن الآخرين جميعهم يشاهدون ويرقبون دون أن يصدر عنهم ما يـُربك أو يـُعيق.

تعود من لبنان بعد زيارة قصيرة وفي رأسك عشرات الأسئلة تلح عليك وتمتحنك وأكاد أن أقول تفضح تناقضات أفكارك وتأخرّك عن الميعاد بالإضافة إلى عجزك عن إدراك ما يستشف من المشاهد المتلاحقة. فالزيارة من هذا المنظور ضرورية جدا كونها فرصة للإطلاع على مُشكلات لا ‘حل لها’، ولو أبديت ميلا إلى الفضول لسارع من يريد لك خيرا إلى نصحك بالسكون. فالمـُتـّفَقُ عليه أنه ليس من حاجة للبحث عن حل، لأن الحلَّ المناسب موجود بين أيدينا ولكن العلـّة في التطبيق. فهذا مستحيل من الناحية العملية رغم أن الجميع يزعمون عكس ذلك.

دعا الناطق باسم جماعات ‘القاعدة’ محازبيه إلى التوجه إلى سورية، لانها صارت ‘ارض جهاد’ على حد تعبيره. بمعنى آخر يرى هذا الرجل أن الأزمة السورية تتطلب ‘حلا دينيا أو طائفيا ـ مذهبيا’. فمن المعروف أن دعوته ترتكز على تبني مفهومية للدين تقتضي قتلَ كل من يعترض ضدها. عملا بالقاعدة الفاشيستية ‘من ليس معنا فهو عدو لنا’. ولكن الإشكالية تكمن في أن مرجع المسلمين من حيث المبدأ، هو الكتاب الذي جاء به محمد بن عبد الله بأستثناء أي مرجع غيره إضافة له أو بدلا عنه، فضلا عن أن محمد كما جاء في الكتاب نفسه، هو خاتم المرسلين، وبالتالي ليس مقبولا أن يفرض زعيم جماعات ‘القاعدة’أوإمام أو ملك رؤية أو قرارا، كأنه نبي تـَنزل عليه الوحيُ العـُلوي. واستنادا أليه فمن البديهي أن السوريين، المتعددي الأديان والمذاهب والعقائد والمناهج لن ينساقوا أمام جماعات ‘القاعدة’، ولن يتحولوا في غالبيتهم إلى مقاتلين في صفوفها. وأن أنضمت إليها قلة قليلة منهم فأن ما يـُملي مثل هذا السلوك ليس دائما، بالقطع ،تعبيرا عن التخلق بأخلاق الإسلام والإهتداء بتعاليمه. والرأي عندي أن وراءه في أكثر الأحيان، نفاقا وعهرا وفجورا. لا أظن أن البرهنة على ذلك تحتاج إلى بسط وتوسع.

من نافلة القول ان ‘الحل الديني’ الذي ترفع لواءه وتنادي به جماعات ‘القاعدة’ والإسلاميون في سورية أنما هو أمتداد وتوظيف لإنقسامات ظهرت في وقت مبكرٍ في صفوف الذين دخلوا بشكل أو بآخر، في الدعوة المحمدية، تمثلت في حركة الإرتداد عندما قـُبضَ النبي ثم بلغت الذروة أثناء الفتنة الكبرى التي أعقبت مقتل الخليفة الثالث، حيث تفرق العرب قبائل متنابذة وهدموا الكعبة وأقتحموا مدينة النبي وقتلوا اصحابه والصالحين، وأكتفوا من الإسلام باسمه ومن الإيمان ببعض العبادات والطقوس. وخلاصة القول أن ‘الحل الديني الإسلامي’ لم يتجسد على أرض الواقع الا في زمن الرسول أي خلال سنوات معدودات فقط. وأن إقتراح مثل هذا ‘الحل’ في هذا الزمان، هو إقتراح يغمره الغبـَشُ فلا يـُعرف فحواه ولا تستبين الطريق إليه ولا يجيزه منطق، بناء على ان الإسلام ديانة سماوية يرتقي درجاتها الأفرادُ متفردين في سعيهم. فلو كان تطبيق ‘الإسلام السياسي’ متاحا وممكنا لما تسبب لأصحاب النبي وللمقربين إليه بكثير من المعاناة من بعده ولما عادت العرب إلى سيرتها الأولى فاسترجعت مزاجها القبلي وعصبياتها ونزاعاتها.

لأرجع من بعدُ، إلى المسألة السورية اعتمادا على مدارسة إنعكاساتها في المشهد اللبناني. فأجد أن ‘الحل الطائفي ـ المذهبي’ الذي يطرحه البعض في سورية، هو نفسه الذي جـُرّب وإختبرت مفاعليه في لبنان. عندما تنبري ثلة من رجال الدين فجأة ،كـأن إلهاما أو رؤيا نزلت عليهم بعد سبات طويل، ضد السلطة ويعلنون العصيان باسم أتباع مفترضين لطائفة أو مذهب يدّعون تمثيلهم، وحجتهم أن الذين يمسكون يمقاليد هذه السلطة هم من أتباع طائفة غير طائفتهم أو مذهب مختلف عن مذهبهم، فإن ذلك يعني أن السلطة بحسب فهمهم لها، حق حصري من حقوق طائفتهم أو مذهبهم، أي أن ما يحق لهم لا يحق للآخرين. هذا بالطبع ينقض القولة بأن ‘لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى’ ويـُغلـّبُ العصبية ضد المساواة والمشاركة وتقدير الكفاءة وتشجيع الإخلاص في العمل والصدق في القول. وهنا يتضح القصد الحقيقي والوحيد، من وراء الحل ‘الطائفي ـ المذهبي’ وهو تجزئة الوطن وإقتسامه بين الطوائف والمذاهب. والتسليم بفرضية مفادها أن السلطة القائمة ذات نزعة طائفية أو مذهبية لا يبرر على الإطلاق العمل على أستبدالها بسلطة طائفية أو مذهبية ضدها، تأسيسا على التمييز بين الطوائف والمذاهب بدعوى أن لهذه ‘شرعية وطنية’ في حين ان تلك ‘لا تستأهلها’. غنى عن البيان أن مثل هذا النهج يقود إلى خراب الأوطان وإلى نفور الناس.

ولا منأى في هذا السياق عن التذكير بأن دول الغرب المؤتلفة في حلف الناتو العسكري تقدم عادة المعونة والمشورة لاصحاب ‘الحل الطائفي ـ المذهبي’ في المجال السياسي الوطني ضمن حدود المدى اللازم لإضعاف خصومها أو أسقاطهم. ولكنها لا تلبث أن تنقلب عليهم وتجعل منهم حطبا لنار الفتنة بين الأجزاء والفِرّقِ حتى تأتي على البلاد بأكملها، باسم الحرية والديمقراطية وحقوق المرأة.

يلزم القول أيضا في ختام هذا الفصل، ان العصبية الطائفية والمذهبية التي تتفشى بعنفها وقوتها في بلاد العرب، كانت دائما السبب الذي سلـّط المارقين على المؤمنين والصالحين، وجعل المفسدين أولياء على الناس، وشرّع الأوطان أمام المستعمرين وكسر شوكة المناضلين وبدد الأمال والأحلام.

 كاتب من لبنان يقيم في فرنسا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى