من أفغانستان إلى سوريا: خيوط وشبكات تنتهي كلها عند الإخوان/ سليم ضيف الله
منذ سنوات وتحديداً مع الغزو السوفياتي لأفغانستان تقاطر الإسلاميون في طوابير طويلة لدعم “المجاهدين” الأفغان وأفغانستان المسلمة ضد روسيا الملحدة، ولكن التدفق الجهادي وحركة الأموال والسلاح الضخمة التي وجدت طريقها إلى هناك لم تكن حتماً نتيجة منطقية لجرعة إضافية من الحماس الذي سرى في “جسد الأمة”، بقدر ما كانت جزءأً من عملية استخباراتية واسعة شاركت فيها حكومات ودول وقنوات لا يزال أكثرها سرياً ونشيطاً إلى اليوم كما تكشفه أحياناً التسريبات “العفوية”عن شبكات التمويل والتسليح وطرق التجنيد والوسائل المعتمد.
وبعد خروج السوفيات من أفغانستان سقطت البلاد في مستنقع الحرب الأهلية وبعد الهزة التي تلتها وعصفت بالاتحاد السوفياتي برمته، وتطويقه بحزام ناسف من دول جديدة أكثرها “إسلامي”، ثم بعد دخول البلاد نفقاً مظلماً بسبب حرب”الطوائف” وظهور طالبان وأخيراً وصول الأمريكان مسبوقين بالشبكات الجهادية المسلحة التي استقرت بها، بدأ الحديث عن الإرهاب وكثر الكلام عن انقلاب الإسلاميين على حلفاء الأمس ودخولهم في حرب استنزاف لرعاتهم السابقين.
وبعد سنوات تكرّر المشهد نفسه في العراق وفي لعبة أدوار لا تختلف كثيراً عن سابقتها فوصل الأمريكان ثم الجهاديون واندلعت حرب طوائف وأقليات، ومجازر بالجملة والتفصيل قبل أن ترث سوريا كلّ فظاعات العالم بفضل ما يقترفه النظام والحركات المسلحة في البلاد التي أوصلت الغباء الإنساني والوحشية الآدمية إلى ذروة غير مسبوقة.
ويتكررالمشهد نفسه بطريقة مشابهة وبدرجات مختلفة أحياناً في مالي وفي ليبيا وتونس والجزائر وغيرها من الدول التي تصلح ميادين جهاد إقليمية صغرى أو محلية.
وفي المقابل تبدو الأمورفي “العالم الغربي المتمدن” الذي تجري بفضل أسلحته الدماء أنهاراً و”مجاهديه” الوافدين على مناطق التوتر والصراع الذين أعادوها إلى “محاكم التفتيش” وحروب الاسترداد الصليبية الإسبانية بشكل غير طبيعي بل مُريب.
ففي الوقت الذي يتدفق فيه الفرنسيين والألمان والأمريكان وغيرهم على بلاد الشام لقطع الرؤوس وتفجير المباني والجوامع والكنائس والنكاح الشرعي إلى جانب “إخوانهم” من الدول العربية والمشرقية لإعلاء كلمة الدين وراية الاسلام، تتوالى التساؤلات المشروعة عن سرّ الجهاد الوافد من وراء البحار بشكل خاص وهو الذي تميز بوحشيته وعنفه الذي يتجاوز الخيال والمنطق معاً.
ولا يمكن التعامل مع هذا الجهاد دون التعرض إلى الجانب المثير في “المجاهد” الوافد وملامحه التي يشترك فيها مع عدد كبير من المقاتلين اليوم على الأرض، اشتراك في ماضٍ يتميز بالانحراف والجريمة وهذا معطى ليس جديداً في الواقع، فمنذ أبي مصعب الزرقاوي في العراق وغيره من الشخصيات المماثلة والتي ارتقت درجات القيادة في الشبكات الجهادية العربية والغربية الجديدة، اكتشفنا أن هؤلاء الجهاديين في أغلبهم من خريجي السجون والمعتقلات.
قبع أكثر الجهاديين الجدد والقدامى في السجون إما بسبب ماضٍ”عنيف” سياسياً ما ينطبق على أغلب “الجهاديين العرب” الذين استعادوا حريتهم بعد الزلزال السياسي الذي ضرب المنطقة العربية منذ 2011، أو بسبب ماضٍ شخصي ميزته الجريمة والانحراف، وهو القاسم المشترك بين أعلب الجهاديين الأوروبيين والمرتزقة الدوليين الذين يتوجهون جماعات وفرادى إلى سوريا وبعض الدول الأخرى، أو الذين يعرفون بالذئاب المنعزلة التي تنفذ بين الفترة والأخرى عمليات جهادية في أوروبا خاصة مثل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة.
ويشترك”إخوة الدم” أيضاً في نقطة لافتة أخرى تتمثل في حرية الحركة وكأن ثمة جهة تدفعهم وتشجعهم على “الهجرة” إلى مناطق الجهاد وهو ما تؤكده التقارير والتسريبات حول جنسيات وأعداد الجهاديين وشبكاتهم وطرق سفرهم إلى سوريا مثلاً عبر تركيا مفيدين من دعم لوجستي ومعنوي ومادي كبيرمن جهات كثيرة.
وفي الوقت الذي تتحدث فيه الحكومات الغربية خاصة عن قوانين وتشريعات للتصدي لهذه الظاهرة التي يقترن فيها الانحراف الاجتماعي بالتطرف الديني، تتزايد أعداد المغادرين والمتسللين رغم الرقابة “المشددة” ورغم القدرات الخيالية التي تتمتع بها الأجهزة الدولية المكلفة برصد الشبكات وطرق تجنيدها، حتى لكأن الغرض من ذلك تهجير هذه الشبكات ثم قطع الطريق أمام عودتها إلى أوروبا والغرب إذا لم يبادوا بشكل تلقائي على أيدي إخوانهم في الجهاد.
وكما في أفغانستان قبل 35 سنة، لا يمكن التعامل مع ظاهرة “سياحة الجهاد” بعيداً عن عمل المكاتب السوداء، وكأن الأمر ترجمة لخطة تقضي بتصريف هذا المخزون “الاستراتيجي” الذي تورم منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وتعفن بشكل كبير إلى مناطق قابلة للسيطرة مثل سوريا.
فالمتأمل في حركة وتدفق وشكل وملامح الجهاديين المحليين والدوليين لا يصعب عليه التخمين أن وراء هذه الحركة رغبة في تجفيف منابع التطرف في الدول الغربية بتفريغها من القدرات التي يمكنها بشكل غير مأمون ودفعها إلى التوجه إلى سوريا والمناطق المماثلة، بما لا يهدد مصالحها أو مصالح الدول المهمة القريبة، ذلك أنه لا يمكن للحركات الجهادية حتى لو سيطرت على سوريا مثلاً أن تشكل خطراً على إسرائيل من جهة أو على العضو الهام في الحلف الأطلسي، تركيا.
أما البعد الثاني في هذه الاستراتيجية فيتمثل في التخلص من عناصر كثيرة يُمكنها التسبب في زيادة تسميم الأجواء المتوترة في الدول الغربية أساساً وهي التي تعاني أصلاً احتقاناً خطيراً بسبب الوضع الاقتصادي المتردي والاجتماعي المتدهور، ما فتح المجال في وجه الخطاب والمتطرف، سواءً كان إسلامياً أو مسيحياً أو عنصرياً كما في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وحتى إسبانيا واليونان وغيرها.
إن المتأمل في الأحداث وفي مسارها لايمكنه التصديق أن الذي يحدث في سوريا وفي بعض الدول الأخرى ناتج عن “صحوة” دينية، بقدر ما هي نتاج عملية منظمة للتخلص من فائض العنف المحتمل وقابل للانفجار في دول كثيرة، وبما يضمن لصانع القرار على الأقل، تقليص هامش المخاطرة في مجتمعات أضحت بفعل الأزمات والمشاكل الداخلية مُعرّضة للعدوى بالخطاب الديني والسياسي المتطرف، وتسمح له في الوقت نفسه بالسيطرة على منسوب العنف المتنامي وتوجيهه بما يخدم استراتيجيات سياسية جديدة بالتحالف مع قوى “إسلامية تقليدية” في مقدمتها الحركات الإسلامية الإخوانية.
ويمكن للمشكّك أن يتساءل عن علاقة الإخوان بالإسلام السياسي المتطرف ولكنه لا يستطيع الالتفاف على التفريق “المنهجي” المتعمد بين إسلاميين معتدلين ومتطرفين، التكتيك المعتمد من قبل الإخوان والدعاية السياسية الغربية، وهي التي تجعل الجهاديين بيدقاً مثالياً في يد الإخوان داخلياً وخارجياً وخاصة على المستوى الإعلامي والسياسي.
فالإخوان الذين يمولون ويُنظّرون للجهاديين ويدعمون شبكاتهم سراً، ليُندّدوا بها علناً ويتهمون المتطرفين بتشويه الإسلام والمسلمين، في محاولة لا تخلو من أهداف، أبرزها أن هذا التوجه يجعل من الإخوان العرب أحزاباً وحركات “مدنية” قابلة للتفاعل الإيجابي مع الحياة السياسية الديموقراطية ومع الحريات الفردية، وخاصة احتلال مساحات وفضاءات هامة يتركها الجهاديون الذين سحبهم الجهاد إلى سوريا وفي غيرها من الدول، وفي حقائب سفرهم قوى شبابية تمثل وقوداً هاماً للعمل والتحرك ويمكن تفجيره في أي وقت في صورة صدام محتمل معهم، أما الهدف الثالث فيتمثل في تقليص عدد المعارضين المحتملين والمتربصين بهم من داخل العائلة نفسها لأسباب دينية وسياسية، أما المكسب الأعظم الذي يعود على الإخوان فهو طبعاً الدعاية والإشهار الإيجابي للإخوان في الداخل كما في الخارج كما نرى اليوم ونلمس في الحالة المصرية أو التركية أو التونسية أو حتى الليبية.