من أين جاءتهم هذه الشجاعة؟
الوطن العربي كمرجل يغلي، وقاطرة الثورة تطوي البيد، وتتنقّل عبر الأرضين والخريطة التي “بتتكلّم عربي”. رجب طيب أردوغان نصح الرئيس بشار الاسد باستباق القاطرة، وزاره وهاتفه وبُحّ صوته غير مرّة في إسداء التنبيه؛ لكن التناقضات في أعلى الحكم تبدو مستفحلة، وإلاّ ففيم التلكؤ وعمر الإصلاحات الموعودة سنون عشر؟! ياسين الحاج صالح نزيل السجون لسنوات طويلة، يرى أن الإصلاحات تتناقض تماماً وطبيعة السلطة القائمة، تالياً فهي صنو المحال.
الطيب تيزيني، صديق الراحل حسين مروّة، كان في ساحة المرجة بدمشق يشارك المعتصمين من نساء وأطفال وشباب أمام وزارة الداخلية، وذلك للإفراج عن السجناء السياسيين؛ فنال نصيبه من الضرب على رأسه وظهره ثم حُشر في سيارة أمن! سوريا تبارك دخول قوات درع الجزيرة الى البحرين؛ ووزير خارجيتها، وليد المعلم، يُشاع أنه هاتف وزير خارجية إستونيا للمشاركة في حل مسألة الإستونيين السبعة المختطفين في البقاع من غير درّاجاتهم! غليان ثوري مستفحل، وشورباء سياسية أقرب الى العجب. أما في لبنان فالموجة لإسقاط النظام الطائفي تزداد اتساعاً، وها هي اليوم تعلو لافتاتها في ساحة التل بطرابلس، مندّدة بأكلة الجبنة اللبنانية من الذين قبروا الشيخ زنكي معاً وحوّلوا الوطن، باسم الطائفية، إقطاعاً لهم ولأبنائهم وحفدتهم. من الطريف أن هذا التجمّع ضد النظام الطائفي سبقته، في محيط تحرّكه، شعارات مناهضة تقول: لا للعلمانية، لا للديكتاتورية، لا للشيوعية، لا للقومية، لا للديموقراطية، لا للرأسمالية… يبدو أن كتبة الشعارات نسوا أن يعرّفوا بأنفسهم قائلين: الإسلام هو الحل. طبعاً الإسلام الثوري والعاقل هو الحل، إسلام الأفغاني ومحمد عبده وخالد محمد خالد، لا إسلام بن لادن والنبهاني والقرضاوي. هذا في شمال لبنان، أما في جنوبه، وفي قضاء جزين، فالبشرى تنموية. ففي إحدى مزارع الجمعية التعاونية الإنمائية في بلدة الغباطية رغبت دجاجة في ولوج موسوعة “غينيس”، فباضت بيضة بلدية طولها 9 سم، ووزنها حوالى 150 غراماً؛ في حين أن الطول العادي للبيضة هو 5 سم، والوزن حوالى 70 غراماً. هكذا دقّ بيضنا اللبناني أبواب “غينيس”، حيث أكبر بيضة فيه وزنها 100 غرام فقط! منذ عقود قرأتُ لشقيقي عاطف، في “النهار”، وهو يُعنى بالاقتصاد، دراسة عنوانها: بيض لبنان في خطر! وأحبّ أن أزفّ اليه الخبر السار من أن النظام الطائفي في خطر، أما بيض لبنان البلدي فله المجد!
الدجاجة العربية بخير ايضاً. فهي تبيض ثورات لم تكن لتخطر على بال، ولو أننا جاهرنا بها، قبل ولادتها البركانية، لنُسبنا الى الهذيان والجنون. وخصوصاً أننا كنا نغرق في بحار من اليأس والقنوط. فأنّى التفتنا، في رحاب الوطن العربي، طالعنا تهافت وتجزئة وخصام وحروب أهلية وديكتاتوريات تتسمّى جمهورية وهي أدهى وأمرّ من الملكية. كان الظلام مطبقاً، وكان اليسار العربي يحيا أزمة تفكّكه، وانقراضه أحياناً. كان هذا اليسار يقرأ كتباً ويلوك شعارات، عوض أن يقرأ الواقع ويتبصّر بمستجداته. ولستُ أنسى ما حل بروجيه غارودي عندما اختلف مع الحزب الشيوعي الفرنسي لعقود مضت. فمن رأي هذا المفكّر الماركسي عهد ذاك أن تفسير مجتمعنا الحالي، المتطوّر تكنولوجياً، وكان الأمر في بداياته، لا يمكن أن نقتصر في فهمه على الأطروحات الماركسية المعهودة فقط. فشُتم غارودي وطُرد من جنّة الحزب. وها نحن نشهد اليوم الثورات العربية ينهض في طليعتها شباب مثقف ومتضلّع بوسائل الاتصال الحديثة، ولم يعد في مقدور السلطات المستبدة أن تضرب ستاراً تعتيمياً على ما يجري عندها لتخنق الثورة في مهدها. فالهواتف الخليوية مفتوحة على مداها، صوتاً وصورة، في أربع جهات الارض. ثم الجديد المذهل أن هذه السلطات باتت تخشى الاستعانة بالوسائل القمعية البوليسية المتوحشة، التي ألفت تحريكها دهراً، وذلك منذ عصر سبارتاكوس، وما قبله، حتى عصر أكاسرة آخر زمان، الأفندية، بن علي وحسني، اللذين يشتركان في صبغ الشعر – ما يبلى – ومعمَّر السفّاح الأكبر، وعلي بن عبدالله صالح أو طالح. لماذا؟ لأن العنف يستولد عنفاً أعظم وأعاصير بشرية. ثم لأن الحائط الوهمي قد انهار، حائط الخوف من السلطة الجائرة والذعر من زبانيتها وهراواتهم المكهربة ومصفّحاتهم المهرولة، ولكي لا ننسى ايضاً من أحصنتهم وجِمالهم!
وهذه الثورات العربية تكاد تكون بلا رأس، إذا ساغ القول، من هنا صعب على المسؤولين اصطيادها وسحقها. يقول سيرج حليمي في “لوموند ديبلوماتيك” (النشرة العربية، شباط 2011، ص1): “لا تقوم الشعوب العربية بالثورة كل يوم، لكنها تُنجزها بسرعة”. فاته أن يقول ايضاً إنها تنجزها بسرعة وببسالة نادرة. وكما تقول نوّارة نجم، وهي ابنة الشهير أحمد فؤاد نجم والكاتبة صافي ناز كاظم، وهي بدورها صحافية، وصاحبة مدونة، ومن رموز ثورة مصر في 25 يناير: “لم أتخيّل أن يقوم الشعب المصري بكل هذا. كل الإقدام والشجاعة والتلاحم لم يكن له أي إشارة مسبقة في الشارع. ولا أدري حتى الآن من أين أتى؟ الشباب العادي كان يركض صوب الرصاص ويستشهد. لا أعلم من أين أتى هؤلاء بكل هذه الشجاعة. “(جريدة “الاخبار”، زاوية “أشخاص”، 1/3/2011، ص32). لكن نوّارة من مواليد أكتوبر 73، أي هي دون الأربعين. أما نحن، الطاعنين، فكنّا نردّد عن الشعب المصري مقولة مفادها أنه يستكين ويسترسل في هذه الاستكانة، حتى لتحسبه قد غاب وانتهى. لكنه ما إن يستفيق من سُباته التاريخي، حتى يثب الوثبة الكبرى، ولا من يقف في وجهه. أصلاً، الغرب والامبريالية واليمين العنصري الأوروبي وصمونا جميعاً، كعرب، بكل ضروب الجهل والغباء والتخلّف والخنوع. لهذا فهم الآن في حيرة من أمرهم، كيف أن هؤلاء الرعاع قد نفضوا الغبار عنهم وصرخوا مطالبين بالحرية، وبلغ بهم الفجور أنهم ينادون بالديموقراطية ايضاً!
في قديم الزمان كانت بعض الأحزاب الشيوعية ترفض انضمام المثقفين الى صفوفها، لأن الثقة الطفولية كانت منوطة بالطبقة العاملة فقط. ولو أن الحال كانت اليوم على المنوال نفسه، لما وجد الثوار من شباب مصر وتونس حزباً يضمّهم الى صفوفه. على كل حال يبدو، على الإجمال، أنهم صنعوا حزبهم الذاتي، واليهم انضم الآخرون من عمّال وفلاحين. يبقى أن ينظّم هولاء الشباب حزباً حقيقياً متطوراً جديراً بإنجازهم التاريخي. وهم حتماً فاعلون.
أحمد عُلَبي
النهار