صفحات سورية

من الإضراب العام إلى المقاومة المدنيّة الثوريّة


سمير العيطة

الإضراب العام نحو العصيان المدني هو أعظم تحيّة يقدّمها الشعب السوري في الذكرى السنويّة لانطلاقة ‘الربيع العربي’، 17 كانون الأوّل/ديسمبر يوم أضرم طارق الطيّب محمّد البوعزيزي النار في نفسه أمام بلديّة سيدي بوزيد. تحيّة ترفع قيم هذا الربيع عالياً: أنّه ربيع سلميّ وليس ربيعاً عسكريّاً، وأنّه ربيع تضامن بين أطياف المجتمع تحمي بعضها بعضاً وليس ربيع مطالبات بتدخّل أجنبيّ، وأنّه ربيع حشد جماهيريّ لقلب موازين القوى داخل البلد وليس ربيعا إقصائيّا، وأنّه ربيع مجتمع يفرض طريقه نحو الحرية والكرامة وليس ربيع سياسيين مهما كان صدق نواياهم، وأنّه ربيع ديمقراطية وتعدديّة وشعارات وطنيّة جامعة وليس ربيع فكرٍ أحاديّ وألاعيب قوى خارجيّة.

أن يعود ربيع سورية إلى قيمه الأولى بعد تسعة أشهر من القمع والقتل والاعتقال والتنكيل، تحدياً لما تدفعه إليه السلطة القائمة من طائفيّة وعسكرة واستجداء لقوى خارجيّة لهو خير دليل أنّ الشعب السوري عظيم. إنّه رسالة قويّة صارخة من المنتفضين إلى من بقي موالياً أو خائفاً… إنّ الشعب السوري سيصنع التغيير بقواه الذاتية وبتضامن أبناء بلده بين بعضهم وأنّ السلطة القائمة قد سقطت لأنّ ليس لديها سوى السلاح والرياء.

نشأت فكرة الإضراب العام في بريطانيا في أوائل القرن التاسع عشر، كعيدٍ وطنيّ جامع لكلّ الطبقة العاملة، ينقل النضال المطلبيّ من نضالٍ محليّ إلى صراع شامل لنصرة كلّ العاملين. لكنّ الفكرة لم تأخذ كلّ مضامينها وفعلها إلاّ أوائل القرن العشرين: انّ النضال ينتقل عبر الإضراب العام من معركة اقتصادية بين عمّال في مصنعهم ومشغّلهم إلى معركة سياسية شاملة ضدّ كلّ الطبقة المهيمنة. هكذا أتت المناداة بالإضراب العام كأداة سياسيّة بالضبط حين انتقلت الرأسمالية من تلك التنافسية المنفتحة إلى رأسمالية الاحتكارات أو رأسمالية الدولة. كان القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين هو عصر الانتفاضات والثورات في أوروبا والولايات المتحدة. وخلال هذا العصر برزت مراراً الدعوة للإضراب العام كسبيل للتغيير السياسي الشامل. إلاّ أنّ النقاش احتدم بين حاملي الأفكار الثورية حول السبيل الذي يمكن أن ينتقل عبره نضال ٌاقتصادي وإن كان شاملاً، نحو التغيير السياسي: من يجب مثلاً أن تكون له الريادة أهي النقابات أم الأحزاب السياسيّة… الثوريّة؟ وكان جوهر النقاش يحتدم دوماً حول كيفيّة حشد الجماهير كي يتوسّع الاحتجاج ويصبح شاملاً، وحول كيفيّة تحويل انتصار الحركة على الأرض عبر الحشد إلى انتصار سياسيّ.

روزا لوكسمبورغ هي التي أعطت هذا المضمون السياسيّ بامتياز للإضراب العام في كتابها ‘الإضراب العام والحزب السياسي والنقابات’ في 1906. حيث قالت فيه: ‘في كلّ مكان هناك أجواء من الريبة والترقّب. وسبب ذلك هو حقيقة بسيطة، هي أنّ الإضراب العام، وإذ استخدم وحده، قد انتهى مفعوله. والآن فقط حركة مباشرة وشاملة على كلّ المستويات في الشارع هي التي ستأتي بالحلّ’. إلاّ أنّ الحركة المباشرة والشاملة التي أطلقتها فشلت وقمعت بعنف من قبل الجيش الألماني. إلى أن أتى تروتسكي في 1934 وحلّل هذه التجربة ليشرح شروط نجاح الإضراب العام كوسيلة للتغيير: أنّها ترتبط بكيفيّة تنظيم الإضراب (اللجان على الأرض أي التنسيقيات في التعبير السوري اليوم – وترابطها مع بعضها) وكيف يدافع هذا الإضراب عن نفسه (أي الجماهير الذي يجب أن تحشد لحمايته)، ثمّ كيف ينتقل الأمر إلى تقويض السلطة القائمة (وخاصّة عبر العلاقة مع الجيش والشرطة والأمن، عبر تحييدها).

تطرح هذه الشروط، كما في حالة أيّة انتفاضة شعبيّة، مسألة التنظيم. ليس حقّاً إشكاليّة وجود قيادة أو جسم سياسيّ يعبّر عن التطلّعات السياسيّة النهائيّة، بل وخاصّةً إشكاليّة التنظيمات المحلّية الشعبيّة اللازمة للحشد ولضمان المعنويّات والاستمراريّة. أي أنّ الأساس هو خلق هذه التنظيمات الاجتماعية المحليّة كي تصبح هي بديلة التنظيمات التي تهيمن عليها السلطة القائمة، وتدير عوضاً عنها نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية التي يتطلّبها تطوّر وصمود الإضراب العام كوسيلة للتغيير. لكن هناك إشكاليّة أخرى يطرحها مفهوم الإضراب العام كوسيلة للوصول إلى التغيير السياسي، كانت دوماً هي موضوع الجدل الأساسي، وهي كيفيّة الحسم: هل ينتهي الأمر بتفاوض مع السلطة القائمة على التغيير أم أنّ الحسم يجب أن يتمّ عسكريّاً من قبل جزء من الحراك يأخذ السلطة بالسلاح؟ ولم تنجح معظم المحاولات المتعدّدة للحسم العسكري.

بعد تجارب القرن التاسع عشر، أتى أوّل تطبيق سلميّ كسبيلٍ لحسم الإضراب العام في دولة عربيّة: كان ذلك في مصر في ثورة 1919. ولكنّ أشهر هذه التطبيقات أتى من الهند مع المعلّم المهاتما غاندي. وفي الحقيقة، كان أوّل من طرح هذا السبيل السلميّ هو تورو في 1849، تحت تسمية ‘العصيان المدني’، إلاّ أنّ المفهوم شمل حركات متنوّعة، حتّى أنّ غاندي اعطى تسمية أخرى أكثر دقّة لسبيل التغيير السلمي عبر الإضراب العام: وهو ‘المقاومة المدنيّة’. بل أضاف المؤرّخون صفة ثالثة على الحركة التي قادها غاندي بأنها ‘المقاومة المدنيّة الثوريّة’، لأنّ هدفها كان الإطاحة بالحكم القائم وليس فقط تغيير قوانين. على عكس التجارب التاريخيّة للإضراب العام، تقوم الخاصّة الأساسيّة للعصيان المدني، أو للمقاومة المدنيّة الثوريّة، في أنّ التغيير يأتي في النهاية عبر تفاوضٍ مع السلطة القائمة، أو مع جزءٍ منها على الأقلّ. وهذا بالضبط ما قام به سعد زغلول وغاندي للحصول على الاستقلال. وفي هذا السياق، لا ينظر إلى التفاوض أنّه ضعف أو تنازل، لأنّ ما يحقّق التغيير هو حشد أوسع طيفٍ من المجتمع وراء الهدف الثوريّ وخلف قيم النضال.

وفي الحقيقة، ينطبق توصيف المقاومة المدنيّة الثوريّة على حالات ‘الربيع العربي’ في تونس ومصر واليمن. في حين لا يمكن توصيف الحالة الليبيّة من هذا المنظور سوى أنّه تحوّل تمرّداً مسلّحاً انتصر في النهاية بفضل عناصر غير ذاتية. انطلق ‘الربيع السوري’ سلميّاً على غرار ربيع تونس ومصر. إلاّ أنّ شدّة القمع واستطالة الأزمة والتأثّر بالمسار الليبيّ قد حوّله عن منهجه. ومن الواضح أنّ الأمور قد تطوّرت مؤخّراً من انتفاضة احتجاجيّة سلميّة شملت مناطق كثيرة في البلاد، إلى انتفاضة ترافقها أعمال مسلّحة يقودها جزء منشقٌّ ما زال صغيراً من الجيش السوري، وكذلك جزء من الحراك الأصلي، كان في البداية سلميّاً ثمّ اختار العمل المسلّح بعد أن فقد الأمل من إحداث التغيير بهذه الطريقة السلميّة. السلطة هي المسؤولة الأولى أوّلاً وأخيراً عن هذا التحوّل، في تمعّنها في العنف وفي دفعها نحو الطائفيّة واستفزاز مشاعر الكراهية وامتناعها عن التغيير. إلاّ أنّ التساؤل الكبير اليوم هو إلى أن سيقود هذا التطوّر؟ هذا خاصّة مع تحوّل خطاب الانتفاضة عن القيم الأساسيّة الجامعة ونحو المطالبة بالحرب والتدخّل الأجنبيّ؛ وخاصّة أنّ هذا التطوّر المسلّح لم يعد يحصل على إجماع أغلبيّة ساحقة من السكّان، لا لناحية دفاعه عن المدنيين، بل لناحية نوعيّة التغيير الذي يعد به. وصورة الحسم العسكري النهائي الذي يفترضه هذا التطوّر، ودور القوى الأجنبيّة فيه، وعلاقة القوى المنتصرة فيه مع تلك المهزومة هي التي تخلق المخاوف منه وتعمّق أمد الأزمة.

أتت مبادرة الجامعة العربيّة في هذا السياق. إذ أنّ فكرتها الأساسيّة هي إدخال مراقبين بأعدادٍ كبيرة إلى سورية، كي يمنعوا القمع والقتل من قبل قوّات الأمن أو الشبيحة أو الجيش، ويقفوا على إعادة الانتفاضة إلى سلميّـتها. حتماً تتملّص السلطة القائمة من تطبيق هذه المبادرة وتناور، مع أنّها وافقت عليها، لأنّها تعرف أنّ نهاية الأمور ستكون خروج جماهير غفيرة إلى الشوارع لتحتلّ الساحات العامّة: أي أن تعود الأمور إلى حالة المقاومة المدنيّة الثوريّة. وحتماً أيضاً تحاول بعض القوى الخارجيّة تغيير طبيعة المبادرة العربيّة عبر إلغاء طابع الحشد الجماهيريّ الذي تفترضه أو العنصر التفاوضي الذي تنتهي به للوصول إلى الغاية.

وأمام هذا المأزق والتأخّر في تطبيق المبادرة، أطلقت التنسيقيّات المحليّة دعوةً للإضراب العام في سورية، تحت شعار ‘إضراب الكرامة’ في محاولة داخليّة لحشد الدعم للانتفاضة الشعبيّة ولتأصيل مسارها السلميّ. وقد تمّ تصميم هذا الإضراب على مراحل تبدأ على مستوى مناطق الانتفاضة الرئيسية، تتوسّع حتّى المناطق التجاريّة إلى شلّ الحركة التجارية في البلد. تستعيد الدعوة إلى الإضراب الشعارات الوطنيّة الجامعة، بدل تلك المطالبة بالتدخّلات الأجنبيّة أو بعسكرة الانتفاضة. إلاّ أنّ التأصيل الحقيقيّ ‘للمقاومة المدنيّة الثوريّة’ سيأتي أساساً من خلال العمل الميدانيّ على حشد الدعم الشعبي الواسع للإضراب، حتّى في المناطق التي لم تتحرّك حتّى الآن، وفي تنظيمه وفي خلق مكوّنات استمراريّته وحمايته، وكذلك من خلال التحرّك مع الجيش وقوى الأمن لتحييدها عن القمع.

في هذه الأثناء تستغلّ بعض القوى مفهوم الإضراب العام لدفعه نحو الحسم العسكريّ على طريقة القرن التاسع عشر، مع المخاطرة بأن ينتهي الحال إلى مزيدٍ من التأزّم والدمويّة. في حين ترى قوى أخرى أنّ هذا الإضراب هو السبيل لتأصيل سلميّة الحراك والانتقال إلى المقاومة المدنيّة الثوريّة، وأنّ الجهد المبذول يهدف أساساً إلى حشد القوى التي لم تنخرط في الانتفاضة حتّى الآن، ويشكّل ردّاً شعبيّاً على مماطلة السلطة القائمة في قبول المبادرة العربيّة.

هكذا بعد أكثر من تسعة أشهر من انطلاقة الربيع السوري، ومع تأزّم الأوضاع يوماً بعد يوم في دفع من السلطة القائمة وقوى خارجيّة نحو الاقتتال الأهلي والصراع الإقليميّ، أبرز المجتمع المدني السوري أنّه قادر أن يستعيد المبادرة عبر إطلاق الدعوة للإضراب العام. تتناقض هذه الدعوة في جوهرها مع عسكرة الانتفاضة والتدخّل الأجنبيّ، إلاّ أنّها تستحقّ الدعم الكامل العربي والدولي لإنجاحها للوصول إلى ‘المقاومة المدنيّة الثوريّة’. لأنّ ما سينتج عنها هو بالضبط انتصار للمجتمع المدني السوري في أصالته وشموليّته.

‘ رئيس تحرير النشرة العربية من جريدة ‘اللوموند دبلوماتيك’

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى