صفحات الثقافة

من التراب وإلى التراب/ هنادي زرقه

لطالما راودتني خيالات غريبة عن عالم المقابر.

يخرج سكّان المقابر ليلاً ليقضوا السهرة مجتمعين، ذلك أنَّ الليل طويل وعالم القبر موحشٌ ومخيف. عالمٌ لا يمكن لشخص أن يطيل المكوث فيه، إذ ينتابه أشدّ الملل وهو ممدد بلا حراك.

كثيراً ما رحتُ أعقد المقارنات بين القبر والزنزانة المنفردة، وأقول في سري: ليس القبر سوى زنزانة منفردة لا بد للمرء من أن يخرج منها إلى النور.

أجل، إنهم يخرجون من قبورهم. وإلا لما كنا نصدّق فكرة القيامة؟ ما إن ينفخ ملاك الله إسرافيل في الصُّور حتى يتداعى الموتى من قبورهم عراة من عهد آدم حتى لحظة اندفاع زفرة النشور من فم الملاك. يتدافعون للقاء ربّهم ومعرفة مصيرهم بعد الموت. يمشون على ذلك الخيط الرفيع ومن ثقُلت خطاياه سقط في الجحيم، ومن خفّت أكمل إلى جنّات النعيم.

كانت هذه الفكرة في خلفيّة عقلي، تؤرقني وترعبني في الوقت نفسه، حين دُعيت في العام 2011 إلى زيارة الدنمارك، وعاصمتها كوبنهاغن على وجه التحديد، للمشاركة في أمسيات شعرية. هناك، خضت ورشة عمل مع شاعرة دنماركية عنوانها أن نكتب عن كوبنهاغن: تكتب الشاعرة الدنماركية عن مدينتها الأم بينما أكتب عن المدينة ذاتها بعين الزائرة.

كان عليَّ أن أتجول في المدينة وأستقرئ جغرافيتها وتاريخها وديموغرافيتها. وفي الخضمّ المتعجّل لذلك كلّه، حدث أن دخلت مقبرة المدينة.

ما كان ليخطر ببالي، في بادئ الأمر، انها مقبرة لو لم يقولوا لي ذلك: مقبرة؟! هي غابة كبيرة أو محمية طبيعية شاسعة، ذات جمال أخّاذ وتنظيم رائع. وقد رقد في هذه المقبرة – الغابة الفيلسوف الوجودي العظيم سورين كيركيجار صاحب كتاب «إما-أو» و«الخوف والرعشة»، وكاتب الأطفال الأشهر هانز كريستيان أندرسن، كما رقد فيها أمير شعراء الدنمارك دان توريل، وكذلك موسيقيون ومغنون وكتّاب آخرون، فضلاً عن بشر عاديين.هي مقبرة، إذاً!

ما يلفت الانتباه في هذه المقبرة أنَّ شاهدة القبر تعبّر عن الشخص المدفون. كانت شاهدة أحد القبور على هيئة غيتار تتوسّطه صورة مغنية مشهورة قضت في حادث سير، وقد توزّعت على أطراف القبر كتب تحوي سيرتها وصورها وأهم أغانيها.

أما دان توريل، فقد عُرف بطلاء أظافره الأسود، ولذلك فقد اعتلت علبة الطلاء الأسود شاهدته، وتوزعت زجاجات النبيذ والمجموعات الشعرية والأقلام المنكسة على أطراف قبره، إذ جرت العادة أن يأتي كلّ شاعر بإصداره الأول ويهديه للشاعر، يغرز قلمه في تربة القبر اعترافاً منه بأن دان توريل هو المعلم. اسوة بالشعراء الدنماركيين، غرزت قلمي في التراب وأهديته مجموعتي الشعرية.

أمّا شاهدة كيركيجارد فهي شاهدة معدنية على هيئة قوس كُتب عليها: هنا يرقد الفيلسوف كيركيجارد.أمّا بقية آثار القبر فلم تكن واضحة المعالم.

زُيِّنت بعض القبور بأنواع محددة من الزهور، لعلها كانت الأزهار المفضلة لنزلائها. وعلى جانبي قبر آخر رأيت الملفوف والقنبيط. ضحكتُ في سري وهُيّئ إليَّ أنَّ الميت يخرج ليلاً، يعدّ السلطة ويأكلها ثم يعود إلى الموت من جديد، وما على زواره إلا إحضار الملفوف طازجاً كلّ صباح.

أي مزحة ثقيلة هي هذه؟! هل هي مقبرة فعلاً؟ لم لا يحضر الموت هنا؟ لا وجود لآيات من الإنجيل مكتوبة على أيّ شاهدة.

شباب يحتفلون بعيد ميلاد صديقهم الميت، يشربون نخبه، يتركون له زجاجة نبيذ ويغادرون. كلّ شيء يضجّ بالحياة. أصوات طيور تحط غير آبهة بمرورنا. أشجار معمرة بألوانها الجميلة. طريق واسع يفصل بين طرفي المقبرة. بشر بصحبة أطفالهم يتنزهون. صخبهم يملأ المكان.

من دون وعي، تحضر في ذهني مقابر بلدي: مقابر متراصة، غالباً ما تكون على أطراف المدينة أو القرية. موحشة وضيقة، خلا بعض الاستثناءات حين تكون المقابر ملاصقة لأماكن مقدسة في بعض القرى. الشواهد الرخامية مروّسة بآيات قرآنية. اسم المتوفى يتوسّط الشاهدة. وفي أسفلها من قاموا بدفع ثمن الرخام، وغالباً ما يكونون أبناءه.

تتميّز قبور الأغنياء بطولها وبشواهدها العالية وخطوطها الكبيرة الواضحة. أما الفقراء فقد تندثر قبورهم وتُمحى فلا يعرف أحدٌ لهم مرقداً. لذلك لا يمكنك أن تجول كثيراً في مقابرنا، إذ يتلبّسك خوف من أن تطأ قبراً ما، فترتكب إثماً من دون قصد.

لطالما سكنني رعب هائل كلما قرأتُ شاهدة، إذ أتخيل اسمي بدلاً من اسم الميت وأغرق في أسئلة عجيبة: من سيدفع ثمن الرخام؟ هل سيتركون قبري يندثر؟ أيّ عقاب سماوي سيحلّ بي؟

في الآونة الأخيرة، امتلأت المقابر، ولم تعد تتسع لوافدين جدد.

في «مقبرة الشهداء»، في اللاذقية، كانت القبور منفردة متباعدة. أذكر، حين جاؤوا بضحايا مجزرة جسر الشغور، أنهم قاموا بدفنهم كأرقام. رغم هول الفكرة، إلا انني وجدتها درامية بعض الشيء، إذ بوسع أيّ أم أو زوجة أن تقف على أي قبر تختاره وتبكي عزيزها، فهي لا تعرف حقيقة أين ترقد أشلاؤه، وما إذا كان ثمة أشلاء باقية منه حقّاً.

تتقافز إلى ذهني صور المقابر الجماعية في مدن سورية عدة، سبق أن شاهدتها في التلفاز هذين العامين. يُخيّل إليَّ أنه لم يعد بوسع أحد أن يمشي فوق تراب سوري. في كل شبر يرقد عزيز ما. ربما بات علينا أن نطير فلا نجرح أمّاً ثكلى.

يُطلقون على المقبرة اسم «التربة» في مناطق سورية عديدة. «التربة»، يا له من دالّ. «من التراب وإلى التراب».ما من اسم أكثر تعبيراً؟

في دمشق، القبور باهظة الثمن. على المرء أن يعمل جاهداً طيلة حياته كي يؤمن ثمن قبر ترقد فيه عظامه. أليس موجعاً أن نجوع ثم نموت جوعى كي نستر عظامنا؟

«من التراب وإلى التراب». يرقد الجدّ والابن والحفيد والسلالة في القبر نفسه. تسرح بي المخيلة، فأرى سكان سوريا جميعهم أجداداً وأبناء، أمهات وأحفادا، يمسكون أيدي بعضهم بعضاً ويهمّون بإلقاء أجسادهم في حفرة كبيرة كانت تسمى وطناً لكلّ السوريين.

أي جحيم هذا؟

أقدامنا غارقة في بركة دم لا يعلم أحد متى تجفّ.

كلّ آمالنا ألا تُترك جثثنا وجثة هذا البلد في العراء تتعفن وتنهشها الكلاب الضالة.

(كاتبة سورية)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى