من الثورة إلى الحرب
جاد الكريم الجباعي
لم يعد الجدال مجدياً في تحول الثورة إلى حرب، فليس من يرى كمن يسمع، وليس في وسع غير النائمين أن ينكروا الوقائع الكارثية. لكن، من الضروري أن تصدم هذه الحرب معرفتنا وعارفتنا أو فاهمتنا وتتحداها، بدلاً من الثبات في المتاريس، والتسليم لمنطق «هكذا جرت الأمور»، أو افتراض أن «صمت المجتمع الدولي» هو ما فاقمها على هذا النحو. أجل، هكذا جرت الأمور ولكن، لماذا جرت على هذا النحو ولم تجرِ على نحو آخر كان ممكناً؟ فائدة الممكن هنا التذكير بأن ما جرى لم يكن حتمياً، وأنه لا ينطوي على أي حتمية منتظرة أو مرغوب فيها.
نعتقد أن ما جعل الأمور تجري على هذا النحو شيء غائر في بنية مجتمعنا ونظامه البطركي الحديث، بتعبير هشام شرابي؛ شيء غائر في بنية مجتمع لم يتشكل بعد مجتمعاً مدنياً، ودولة لم تتشكل بعد دولة سياسية وطنية، أو مجتمعاً سياسياً؛ فلم يفلح المجتمع والدولة، على مدى أكثر من نصف قرن، في «نفي الحرب، أو طردها إلى خارج المدنية»، أي إلى خارج المجتمع والدولة. وهذا، أي نفي الحرب، هو المعلم الأهم من معالم المدنية، والمغزى الأهم والأعمق للمجتمع المدني، بحيث يمكن تعريفه بأنه المجتمع الذي يتمكن من نفي الحرب وطردها إلى الخارج، فيؤسس إمكانية نفيها كلياً.
وهو، إلى ذلك، شيء غائر في بنية مجتمع منح قوة عمله وإبداعه لمؤسسة الحرب والإرهاب، التي طالما كان يظن أنها مؤسسة حربه على العدو، لا مؤسسة حرب عليه هو ذاته. فتضخمت هذه المؤسسة على حساب كل المؤسسات الأخرى واستحوذت على الدولة ومجالها السياسي العام، فجعلت من السياسة حرباً، مثلما استحوذت على الثروة الوطنية وقوة عمل المجتمع، بل لأنها استحوذت على هذه القوة.
نفترض أن أي نظام سياسي، لا سيما النظام التسلطي الذي خبِرناه في سورية، لا يستطيع أن يتصرف إلا بفائض قوة المجتمع، أي القوة التي تزيد على الحد الضروري للحفاظ على البقاء وإعادة إنتاج الحياة الاجتماعية بأبسط أشكالها. ولكن النظام التسلطي يضغط على هذا الحد، ويقلِّصه، بتجريد الحياة الاجتماعية من مضمونها الإنساني، أي بهدر إنسانية الأفراد وامتهان كرامتهم، بعد حرمانهم من حقوقهم وقتل الشخص القانوني والأخلاقي في كل منهم. هذه القوة الفائضة هي، بالضبط، قوة المجتمع الإبداعية: الاقتصادية والسياسية والثقافية والأخلاقية. ومن شأن فائض القوة أو القوة الزائدة (كفائض القيمة في الاقتصاد السياسي) أن يشكل رأس المال الاجتماعي، متضَمّناً رأس المال الرمزي، الذي يمكن التلاعب به، وتوظيفه أو الاستثمار فيه، لإنتاج رأسمال مواز ومكمِّل لـ «رأسمالية الدولة».
فائض القوة الاجتماعية، الذي يُوظَّف عادة في عملية النمو والتقدم، في المجتمعات المعافاة، يجعل هذه العملية بيد النظام التسلطي، أي بيد السلطة التي تملك الدولة التي تملك الشعب، إلى أن يستعيد المجتمع هذا الفائض كله أو بعضه، كما الحال اليوم. فالنظام التسلطي «ليس أحادي البنية»، بتعبير هنه أرنت، بل كان قائماً، عن سابق وعي وتصميم، على احتكار رأس المال الاجتماعي واستثماره في تشكيل شبكة مصالح ووظائف متقاطعة ومتوازية تنمو وتتضاعف باستمرار، وما كان له أن يصمد لولا الإرهاب والأيديولوجيا والإعلام وعبادة الفرد، التي هي قوام بنيته. بل يمكن القول إنه لم يصمد لولا الإرهاب، لأن الإرهاب متضَمّن في الإعلام والأيديولوجيا، بوصفهما نوعين من الإرهاب البارد، أو شكلين من أشكال «إبدال القوة» وتسويغها، يكملان الإرهاب السافر أو الحار، وينوبان عنه أحياناً.
إن توظيف فائض القوة الاجتماعية في الحرب يضع عملية نمو المجتمع وتقدمه، بل وجوده ومصيره في يد مؤسسة الحرب والإرهاب (الجيش والاستخبارات)، وهذه لا تُعنى بشيء ولا تهتم بشيء سوى بمراكمة القوة وتوظيفها في الحرب، لا في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والســـياسية والثقافية والإنسانية. هذه المؤسسة مؤسسة حرب على المجتمع، بكل معاني الحرب، الباردة والحارة، بمقدار ما يُظَن، عندنا، أنها مؤسسة حرب المجتمع، وبمقدار ما تكون كذلك، عند غيرنا، لأنها لا تستطيع أن تكون سوى مؤسسة حرب.
لم تستطع الشعوب بعد أن تلتفت إلى أخطار هذه المؤسسة على الحياة الاجتماعية والإنسانية، بسبب عصبية وطنية أو قومية بغيضة تتفتق عن أشكال مختلفة من العدوانية والعنصرية. سنغامر بالقول إن كل مجتمع يكثف ما في أفراده ونظامه ومؤسساته من عدوانية وعنصرية في مؤسسة الحرب. وليس ابتلاء المجتمعات المتخلفة بهذا الداء أقل من ابتلاء المجتمعات المتقدمة، بل إن عدوى الحرب جاءت من هذه المجتمعات القوية و «المتقدمة» أساساً. وسنغامر بالقول أيضاً إن نسبة القوة العسكرية الأمنية في أي مجتمع هي ذاتها نسبة ضعف إنسانيته وهدرها، وهي ذاتها نسبة هدر قوة المجتمع وقوة عمل أفراده.
السلطة، في كل زمان ومكان، علاقات قوة، أو علاقات بين قوى. فإذا كانت في المجتمع مؤسسة تحوز على معظم قوته، فلا بد أن تكون السلطة بيدها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، أو تكون سلاحاً بيد فئة أو طبقة اجتماعية في مواجهة سائر فئات المجتمع وطبقاته الأخرى، في أحسن الأحوال، ما يجعل السياسة امتداداً للحرب بوسائل أخرى، وفق ميشيل فوكو، بعكس مأثور كلوزفيتز.
فتضخم موازنات الدفاع والأمن على حساب موازنات الصحة والتعليم والبحث العلمي والخدمات الاجتماعية ومكافحة الفقر والبطالة وتنمية الحياة المدنية، سبب رئيس من أسباب التخلف والشقاء الإنساني. والسكوت عن هذه الوقائع الإحصائية الواضحة، عندنا وعند غيرنا، دليل إما على عمى السياسة والسياسيين، وإما على تواطئهم، ودليل على سذاجة مجتمع يمنح قوة عمله وإبداعه لغول يمكن أن يفترسه، كما هي الحال السورية اليوم.
هل نحن اليوم حيال جزاء تاريخي؟ وهل سيضع السوريون رهانهم مرة أخرى في مؤسسة حرب يعتقد بعضهم أنها ستكون مؤسسة وطنية (عال العال)، لمجرد أنها تقاتل سلطة باغية مجردة من أي قيمة اجتماعية وإنسانية؟ لا تختلف طبيعة السلطة عن طبيعة من يمارسها، وكذلك طبيعة السياسة.
الحياة