من الحلم إلى الثورة.. فالمنفى/ يوسف بزي
(إلى عمر قدور)
بدأ الهروب من سوريا في العام 2005، قبل الثورة بست سنوات. ناشطون ومفكرون وإعلاميون، شبان ومخضرمون، تطاردهم مخابرات بشار الأسد، بعد الانقضاض المفاجئ والعنيف على الفاعلين والمشاركين في منتديات ما سميّ «ربيع دمشق» الأول. كانت الحملة قد بلغت ذروتها في ذاك العام. اعتقالات تعسفية ومحاكمات صورية ومطاردات لا هوادة فيها.
كان النظام المرتجف من الأصوات التي تطالب بالتغيير، يريد بأي ثمن إطباق الصمت والخوف مجدداً على سوريا. وهو ازداد شراسة وارتياباً من أي شبهة معارضة، بعد تفاقم شعوره أنه محاصر: القوات الأميركية على حدوده الشرقية، في العراق. انتفاضة الاستقلال في لبنان، التي أذاقته مذلة انسحاب جيشه ومخابراته. الاتهامات الدولية والعربية له برعاية الإرهاب في المنطقة، وتدبير الاغتيالات في بيروت. كان بشار الأسد يخلع قناع سنواته الأولى ويكشف وجهه الحقيقي، الدموي والسادي.
توارى المعارضون واحداً بعد الآخر، إمّا في صمت بيوتهم وإمّا في عتمة سجونهم أو في منفاهم القسري الجديد. وعاد السوريون إلى مذلة العيش اليومي في ظلال جمهورية الخوف المتجددة. تم دفن تلك الوعود الخلابة، تم إقفال البوابات وترميم سور القمع والمراقبة. تم حبس الأمل وتعميم اليأس.
في تلك السنوات، كان بمقدورنا، هنا في بيروت، أن نحتضن ونحمي ذاك الأستاذ الجامعي الذي اضطر أن يعبر الجبال مشياً على الأقدام، مع قوافل المهربين في الظلام، ليصل إلى بيروت. كان بمقدورنا آنذاك، أن نمنح رفاقنا في الحرية الأمل بالانتصار على الديكتاتورية، ومواجهة القتلة. وأن نمنحهم المأوى والمنبر والأمان الشخصي.
لم نحسب أن ذاك الربيع البيروتي كان قصيراً، وعلى وشك أن تنقصف أزهاره. لم ننتبه أن وحش «الممانعة» الموغل في القتل والحقد والشر، سينقض على بيروت في عز ربيع العام 2008، ليغتال بارقة التحرر ويخنق أنفاس الحرية. في ذاك العام، قبل ثلاث سنوات على شعار «الأسد أو نحرق البلد»، وهنا في بيروت، كان شعار إرادة السلاح أو نحرق البلد. الانصياع لطغيان عصبة الشر أو الحرب الأهلية.
كانت «هزيمة» بيروت تضاعف من هزيمة رفاقنا السوريين، طالما أن هذه المدينة هي الملجأ الأخير لهم، الواحة الوحيدة المتبقية.
لم ينفعل أحد مثلما انفعل اللبنانيون والسوريون إزاء مشاهد «الثورة الخضراء» في إيران عام 2009، هناك في معقل الطغيان، والمركز الصلب لمحور الممانعة، حدثت انتفاضة الحرية. ما كنا قادرين على تصديق تلك الصور للتظاهرات المليونية في ميادين طهران. وحسبنا أن الخلاص قريب. أن الشرق الأوسط الديموقراطي ليس مجرد حلم جامح، أن مستحيل الحرية ممكن في هذه البقعة التعسة من العالم.
أسابيع قليلة من القمع والقتل والوحشية والتعذيب والاغتصاب والاعتقالات التعسفية الواسعة النطاق، كانت كفيلة بتبديد الحلم. وكان على السينمائيين والرسامين والشعراء والمصوّرين والمفكرين وأساتذة جامعات والحقوقيين والفنانين ومعظم الناشطين الإيرانيين، أن يهربوا من جمهورية الظلمة والصمت والخوف نحو منافيهم.
تجاوزنا قسوة النهاية المأسوية لـ»الثورة الخضراء»،عندما شاهدنا الصور الأولى الآتية من تونس، ثم من القاهرة، وبعدها ما كان يحدث في اليمن، وهناك في طرابلس الغرب، أو في المنامة. ولم نتجرأ حتى على تخيل أن تتكرر تلك المشاهد التاريخية في دمشق وحلب وحمص.. كان ذلك يفوق أقصى أمنياتنا، نحن الذين نعرف قابلية النظام السوري على التوحش أكثر بكثير من نظام الملالي في إيران أو نظام معمر القذافي. كنا نعرف أنه لن يتوانى عن ارتكاب الإبادات، تماماً مثل شبيهه صدام حسين. وكنا موقنين أن الشعب السوري الغارق منذ خمسة عقود في ظلام «البعث» وبطشه، لا يملك القدرة على مواجهة آلة القمع، ولا يملك القدرة على استجماع الشجاعة، التي توازي الانتحار أمام نظام مرعب بقسوته هكذا.
اليوم، وعلى مشارف انصرام السنة الرابعة من ملحمة الثورة السورية، المطعونة والمغدورة من العالم كله، نجد أنفسنا نحن اللبنانيين الذين استشرفنا حريتنا الصعبة في سوريا المتحررة وقد بتنا يائسين. ونحن السوريين الذين طمحنا بمشرق عربي جديد، ديموقراطي متصالح مع نفسه ومع العالم، معافى ومزدهر ومنفتح على تعددياته وتنوعاته.. وقد بتنا ملايين مشردين ومئات ألوف مقتولين ومئات ألوف مضاعفة مصابين ومعطوبين ومعوقين ومفقودين ومخطوفين ومسجونين.
بيروت اليوم، هي عاصمة الجمهورية الموقوفة، الجمهورية الخائفة، المأزومة بعنصريتها وطائفيتها وفسادها وخراب اقتصادها وتهافت اجتماعها، وتسلط عصابات السلاح وحزب السلاح، شريك بشار الأسد في المجزرة. بيروت اليوم التي احتضنت رفاق الحرية طوال السنوات الأربع الماضية، التي استقبلت الهاربين من آلة القتل، ما عادت حضناً ولا ملجأ.. وها هي ضيقة ضئيلة وطاردة. وها هم الأصدقاء والرفاق وإخوة الحلم يغادرونها، فرادى وجماعات، نحو منافٍ جديدة، ربما أكثر دفئاً وتسامحاً.
عندما كنا ننتظر قدومكم، يا إخوتنا، كنا طامعين أننا، سوية، سنسلك معاً طريق العودة القريبة إلى دمشق في لحظة حريتها، لا أن نودّعكم في مطار بيروت مسافرين إلى القارات البعيدة.
وإذا كان هذا مصير «الأشقاء»، فقد يكون هذا أيضاً مصيرنا القريب، نحن تلك «الأقلية» الكثيرة.
المستقبل