صفحات العالم

من الذي دمّر «المشرقيّة»؟/ حازم صاغيّة

«المشرقيّة» أو «المشرقيّة العربيّة» دعوة جديدة تنشرها اليوم أطراف وأصوات محابية للنظام السوريّ. حتّى رجل الأمن السابق وسفير دمشق الحاليّ في عمّان، بهجت سليمان، يدلي بدلوه فيها، واضعاً إيّاها في مواجهة «الشرق أوسطيّة الصهيونيّة» (جريدة «الأخبار» اللبنانيّة، 8/11/2013).

والحال أنّه من غير المستغرب في نظام يحترف استعمال المعاني التي يحتقرها، أن يطرح في التداول معنى جديداً للاستعمال، وضمناً للاحتقار. وهذه حاجة ربّما كانت ماسّة اليوم، مع تعاظم الوجه الإقليميّ للصراع في سوريّة وعليها.

فإذا كانت «داعش» «توحّد» الشام والعراق، فالدعوة المشرقيّة أقرب إلى «داعش» مضادّة، يقف وراء «توحيدها» توفير قنوات الدعم للنظام السوريّ، أو تبرير ما هو محقّق منه، أكان تدخّلاً عسكريّاً لـ «حزب الله» اللبنانيّ و «أبي الفضل العبّاس» العراقيّ، أم تحشيداً سياسيّاً ودعويّاً للأقليّات الدينيّة والمذهبيّة، على ما رأينا في مؤتمر بيروتيّ قبل أيّام.

لكنْ، وبعيداً من السجاليّة المبتذلة، كان يمكن لهذه المشرقيّة أن تنطوي على معنى محترم. فهي قادرة أن تشكّل نوعاً من المحيط الثقافيّ الذي يغني الدولة الوطنيّة في منطقة المشرق، خصوصاً متى تمّ ربطها بإطارين ثقافيّين آخرين، أحدهما عربيّ والآخر إسلاميّ مستمدّ من تاريخ الشراكة في العثمانيّة. وغنيّ عن القول إنّ رابطة كهذه تتيح دائماً فرصاً اقتصاديّة واستثماريّة أكبر لدول المشرق وشعوبها. وهذا ما لا تصله صلة بالدعوة القوميّة السوريّة التي تسعى إلى تأسيس أمّة وقوميّة شوفينيّتين من مقدّمات أركيولوجيّة ومن خريطة متخيّلة عن مزيج سلاليّ راقٍ ومتفوّق.

لكنْ من الذي دمّر تلك الرابطة المشرقيّة، بالمعنى الإيجابيّ للكلمة؟

لا يؤتى بجديد حين يقال إنّ العلاقة السليمة بين العراق وسوريّة، البلدين الأكبر في المشرق، شرط شارط لكلّ مشرقيّة ممكنة ونافعة. لكنْ لا يؤتى بجديد أيضاً حين يقال إنّ أحداً لم يدمّر هذه العلاقة كما فعل البعثان الحاكمان في سوريّة والعراق. ذاك أنّ الفرضيّة التي حكم بموجبها كلّ من حافظ الأسد وصدّام حسين اقتضت إدامة النزاع بينهما من أجل أن تبقى سلطتا الاثنين وتدوما. وهي معادلة لم يتزحزح العمل بها، إلاّ لأشهر قليلة في 1979، طوال عقود.

كذلك تفقد المشرقيّة الكثير من معناها من دون لبنان. ذاك أنّ الأخير يبقى، على رغم كلّ شيء، الصورة الأصفى عن تعدديّة هذا المشرق، إن لم يكن عن طاقته الكوزموبوليتيّة أيضاً. ولو اكتفينا باستشهادات ممّا خرج من فم ميشال عون وحده، في الفترة المديدة الفاصلة بين 1990 و2005، تيقنّا من أنّ النظام السوريّ كان المعول الأكثر فتكاً وأذى بين المعاول الكثيرة، الداخليّة والخارجيّة، التي هوت على لبنان، لا سيّما على الأقليّة المسيحيّة فيه.

ثمّ إذا كانت المشرقيّة المرتجاة تنطوي تعريفاً على لحظة ثقافيّة عربيّة، وأخرى ثقافيّة عثمانيّة، وهذا ما ينجّيها من الانحطاط الشوفينيّ، فإنّ بيئة تأييد النظام السوريّ لا تفعل إلاّ وضعها في مواجهة «العربان» و «النيو-عثمانيّة»، ممّا يُفترض أنّه حكر على أنظمة الخليج وعلى رجب طيّب أردوغان. ولا تكتم هذه اللغة عنصريّتها التي تعيد وصلها بأفكار أنطون سعادة، زعيم السوريّين القوميّين ومؤسّسهم.

وقصارى القول إنّ ما يُعرض علينا، باسم رابطة جامعة، لا يعدو كونه طرقاً يسلكها المقاتلون اللبنانيّون والعراقيّون إلى الداخل السوريّ، كي يدعموا نظاماً يهبط عن سويّة الوطن السوريّ إلى سويّة الطائفة والمنطقة، بدل أن يرتفع إلى سويّة المشرق العتيد!

الحياة

—–

إمّا المشرقيّة العربيّة… وإما الشرق أوسطيّة الصهيونية/بهجت سليمان

ليس فقط لأنّ العصر هو عصر التكتّلات الكبرى، أو لأنّ الحيتان الاستعمارية القديمة المتجدّدة، تعمل جاهدةً على ابتلاع الأسماك الصغيرة على طريقة «آل مديتشي» في إيطاليا (اقْتُلْ، ولكن لِيَكُنْ قَتْلُكَ جميلاً)، بل لأنّ الكيانات الصغيرة أصبحت أمام تحدِّيين مصيريين: إمّا الانضواء في تكتّلات اقتصادية وسياسية أكبر، وإمّا التحلّل إلى كيانات قَزَمِيّة متصارعة في ما بينها، سواء بفعل التراكمات التاريخية السلبية، أو بفِعْلِ الأيادي الاستعمارية القديمة الجديدة، أو بفعل الاثنين معاً والتحدّي الوجودي الآن، هو أنّ هذا الشرق العربي، الذي هو قَلْبُ العالَم، ومركز الحضارات ومنبع الأديان السماوية الثلاثة تعرّض ويتعرّض من القِدَم، حتى الآن، لما اصْطُلِح على تسميته «مؤامرة»، بينما هو يتعرّض في الحقيقة لما هو أكثر من مؤامرة. لقد واجَهَ عبر مئات السنين، خططاً ومشاريع مختلفة من محاولات الاحتلال والغزو والسيطرة والهيمنة والتجزئة، إلى أن جرى تتويج تلك المحاولات، باغتصاب كامل أرض فلسطين وزرع كيانٍ عنصري صهيوني استيطاني في قلب هذا الشرق، ولتكون «إسرائيل» قاعدة سياسية وعسكرية وأمنية في خدمة الاستعمار الجديد، بمواجهة الوطن العربي عامّةً، وبمواجهة أهل الشرق العربي، خاصّةً.

وأيّ دولة في هذا الشرق العربي، تعتقد أنّها قادرة على أن تحمي نفسها، بِمُفْرَدِها، تكون واهِمَة، أو تعتقد بأنّها تستطيع الحفاظ على نفسها كما هي، بإمكاناتها الذاتية فقط، تكون واهِمَة أيضاً. وهذا ما يستدعي من دول بلاد الشام وبلاد الرافدين، أن ترتقي إلى مستوى المسؤولية التاريخية التي تقع على كاهلها، وأن لا تستخفّ بالتحدّيات الكبرى التي تواجهها شعوبها ومستقبل بلدانها، وأن تخفّف من التحفّظات المحليّة التي تتوهّم أنّها تَمَسُّ بحريّة القرار لديها. ذلك أنّ ما يجري التخلّي عنه، مِمّا يُعتقد أنّه حَدٌّ من حريّة القرار الوطني المستقلّ، هو في حقيقة الأمر، توسيع وتعميق وتجذير لحريّة القرار، عَبْرَ توسيع ومراكمة الطاقات والقدرات الماديّة والمعنوية المتناثرة، في حال تجميعها في بوتقة واسعة، تكون قادرة على تحويل الكمّ إلى نوع، بدلاً من تفتيت الكمّ إلى ذرّات متناثرة متطايرة في الهواء.

والمسألة ليست تَرَفاً ثقافياً ولا أحلاماً نخبويّة، بل أَضْحَتْ حاجةً ماسّة، كالماء والهواء، وإذا لم يَقُمْ أبناء هذا الشرق العربي، من نُظُم سياسية ونُخَب سياسية وثقافية، بالبدء، اليوم قبل الغد، بمواجهة هذا التحدّي المصيري الوجودي، بما يليق به من صياغة وحياكة الأُطُر الاقتصادية والسياسية الناظمة والكفيلة بترجمة وقائع وحقائق هذا الشرق العربي، إلى تكتّل اقتصادي وسياسي مشرقي، فإنّ هذا الشرق العربي سوف يسير باتّجاه معاكِس، هو التفتّت والتفسّخ، وصولاً إلى الذوبان في إطار عشرات الكيانات الطائفية والمذهبية والعرقية والإثنية الجديدة. وذلك وفقاً لمشروع الشرق الأوسط الصهيوني الجديد، الذي تُشكّل «إسرائيل» قاعدته وقَلْبَه وقائده، وتشكّل الكيانات المتفسّخة المنتظَرة، أجراماً تدور في فَلَكه.

ولا بُدّ أن تقوم بلدان الشرق العربي في بلاد الشام والرافدين، بالانضواء في إطار تكتّل مشرقي اقتصادي وسياسي، ليس فقط لأنّ بلدان هذا الشرق، تشكّل حوضاً جغرافياً واحداً، بل وحوضاً جيوبولتيكياً وجيو استراتيجياً واحداً، يحتاج إلى التكامل الاقتصادي والتنسيق السياسي، في مواجهة الاستعمار الجديد، بأطرافه الصهيو – أميركية، والعثمانية الجديدة، وأذنابه الإخونجية، والوهّابية. ومن البديهي، أنّ مواجهة أذناب الاستعمار الجديد من إخونجية ووهّابية، ليست أقلّ ضرورةً ولا إلحاحاً من مواجهة الرأس الاستعماري الصهيو – أميركي.

وإذا كان الاستعمار القديم، لم يسمح في الماضي، تحت أيّ ظرف، حتّى بتقارُب سوري عراقي، وكان يعمل على إجهاض أيّ تقارب، وهو جنين أو في المهد، خشية تحوّله إلى تحالف وتعاون كامل، فإنّ حجم التحدّي الوجودي الماثل أمام هذا الشرق، بمختلف أطيافه وتنوّعاته وتموّجاته، دون استثناء، يقتضي من الأنظمة السياسية أن ترتقي إلى مستوى القدرة على مواجهة هذا التحدّي، أو أن تُخْلِي الطريق لمَن هو قادرٌ على مواجهة التحدّي، إذا كانت عاجزةً عن القيام بما يقتضي منها القيام به، في هذا الميدان.

وعلى النخب المشرقية، بمختلف ألوانها وفصائلها، أن تجعل من قيام «المشرقية العربية» أو «الشرق العربي» قضيّتها الأولى والأعظم، لكي تكون جديرةً بتسمية النُّخَب، تحت طائلة تَحَوُّلِها إلى ما يشبه الوضع المخزي والمشين الذي سقطت فيه بعض النخب «الثقافية والفكرية» العربية والسورية، في همروجة «الثورات المضادّة» التي سَمّوها «ربيعاً عربياً»، وخاصة المستعربين… وأن تتحوّل النخب المشرقية، إلى طليعة حقيقية تستشرف المستقبل، بدلاً من الالتحاق بأذناب النواطير، والتعلّق بأذيال الماضي السحيق.

وتبقى نقطتان أخيرتان، لا بُدّ من تأكيدهما، هما أنّ إطلاق تسمية «المشرقية العربية» أو «الشرق العربي» لا ينال أو يمَسُّ من حقوق الشرائح والجماعات غير العربية، المتجذّرة في المنطقة، بل هي شريكة عضوية وبنيويّة وأصيلة في بناء هذا الشرق العربي الجديد. ومن البديهي إطلاق التسمية العربية على هذا الشرق، لأنّ أكثرية أبنائه هم من العرب.

والنقطة الثانية: هي عندما تتحقَّق وحدة أو اتحاد هذا الشرق العربي، سوف يكون قاعدةً وتُكَأَةً، ومنطلقاً، راسخاً ومتيناً، صوب الوحدة العربية الشاملة التي كانت وستبقى الهدف الأسمى للشعوب العربية.

* سفير الجمهورية العربية السورية لدى الأردن

الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى