من المثقف السلطوي إلى المثقف الميداني
روجيه عوطة
“نحن عدد ضئيل من المثقفين، لماذا تخاف منا؟”، سأل جان بول سارتر الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول، ليجيب: “لأننا نثير قضية لا تطرحها أي حكومة: قضية جريمة الحرب”. الثقافة نتاج موقف، ونتاج طرح ما لا يُطرح، وإثارة إشكاليات لا يتجرأ أحد على البحث فيها. هذا الموقف يتعدى فعل الخلق المحض، ليكون فعل تحويل، تغيير، مشاركة في الحدث، فتح الفضاء على أسئلة صعبة، إغريقية، من نوع “ماذا يعني؟”، أو تفجيرية، “لماذا؟”، أو بديهية مفقودة، “ما العمل؟”، مرفقة بسؤال الكيفية المنتفضة على سياقات الخراب العقيم. الهدم فكرة الثقافة عن نقيضها المستبد والقامع، فعلها في أطر الجهل، وفي وجه أبواق المؤامرة أو أسياد التأمل في انفصام المجتمع عن نفسه والفكر عن أدواته، وفي وجه واقع تجوبه أشباح. انتظرنا أن يحرق البوعزيزي جسده فرأينا الأشباح وصرخنا حتى تسقط في المرآة التي لا بد من تحطيمها لأنها صنيعة الظلام العسكري والديني. لماذا تخاف السلطة من المثقف؟ لأنه مع الجديد ضد القديم، مع المتغيّر ضد الجامد، مع الجسد ضد سجنه الفولاذي والروحي، مع الحقيقة الحرة والحرية الحقيقية، ضد الصور والنمط والأطر، مع ضرورة أن يكون من الثائرين، إلى جانبهم، لا خلفهم، لا فوقهم، وأن يكون ضد العسكر والدين السلطويين. من البداهة أن يقف المثقف إلى جانب من “يوهن نفسية الأمة”، أن يشكك في “وحدة الآمال والآلام”، أن ينحاز إلى المهرطقين، الحالمين، الطفوليين والطفيليين. من الضروري أن ينتفض مع الهامش، أن تشع ثقافته هناك في هذا المكان الضيّق، السوداوي، الصامت سابقاً لأنه مكبوت، والسوريالي حالياً لأنه يعي ذاته المضطهدة وبدأ يتحرر منها.
ليست الثقافة دعوة إلى الخلاص بوصفه باباً مفتوحاً على الجنة. الخلاص فكرة ما قبل سياسية، ترتد على الثقافة في حال تبشيرها بها. من واجبات المثقف أن يصرخ، أن يحكي، أن ينطق بالضد، بالـ”لا” الضخمة والقوية والقاطعة، لا أن يبشر أو يخطب بالناس ويوجههم إلى هذا الفعل أو ذاك، اقتناعاً منه بأنه يمتلك مفاتيح المعرفة والحقيقة، بمعنى أنه “عارف” أما هم فلا يعرفون. إذا حصل وصار للمثقف سلطة على الناس، فهو بالتأكيد أداة بيد سلطة أقوى منه، حتى لو وقف ضدها، إذ إنه يسعى إلى حماية سلطته الخاصة. قد يكون نموذج المثقف السلطوي، أي البوق، الوجه الآخر لسلطة المثقف، التي يرمز إليها لغوياً بعبارة “العرش”، والتي تظهر باللامبالاة أو الإزدراء والتخفيف من قيمة الحدث. مع العلم أن اللامبالاة حق إذا كانت موقفاً من باب رومنطيقي، وليست ابنة الخوف المنعكس في نصوص كثيرة نقرأها اليوم ونشعر بصمتها وخشيتها، أو نعلم أن كاتبها فقد سلطته وتحوّلت قصيدته على سبيل المثال من مجموعة إشارات أدبية إلى مجرد شتيمة.
بين المثقف والسلطة علاقات مبنية على قوة زئبقية، متحركة في فضاء رمادي، فالثقافة لعبة مكان أيضاً. قوانينها تتماهى وتتعارض، لا يفقهها المثقف قبل أن يفقه ذاته خارج أناه. من الصعب أن نجد مثقفاً يفكر ضد أي سلطة من دون أن تتوسط أناه مساره التهديمي. “أنا” المثقف في ارتباطها مع السلطة، تشوّش على موضوع الهدم ولا تنفي إلا ذاتها. وإذا حفر المثقف في هذه الأنا، يعلم أنها الطريق إلى التقيّد بالقوة التي تستولده وتذوّبه في الجماعة ثم في أناه أو العكس. في الحالتين لن يسأل المثقف عن مكان السلطة بل سيحاول تحديد مكانه سلطوياً، بأدوات فكر السلطة، وبأنساق عقلها، أي سيأخذ مكانها، ويتكلم بلسانها، مجدداً قوتها كي يحافظ على مركزه كنقيض لها، فيقع في فخ جدلي، حيث يكون محكوماً بوجود السلطة، والسلطة محكومة بوجوده، يكرسها وتكرسه، يشرعن عنفها الخطابي، وتشرعن قوته بحسب سوق مصالحها. لكن قوة المثقف في ضعف السلطة، ليس في قوتها، إلا إذا كان هو نفسه سلطوياً، فتستفيد منه إلى أن تتخلى عنه أو يسقط معها بعد وقوعها في فخ جدلي آخر، اسمه اليوم قوة الشارع.
من صفات المثقف السلطوي أنه يتسلح بخطاب الفضيلة التي لا تحدد موقع نقيضها إلا مجازاً وتجريداً. “أنا ضد الظلم”، يقول المثقف هذا، لكنه يتغاضى عن مصدر هذا الظلم، “أنا ضد القمع”، لكنه يُخضع الآخرين له. يعمل المثقف السلطوي كماكينة برأسين، رأس التعميم، ورأس التعتيم. الأول يعمم مفاهيم فضيلته المضادة، بلا أي تعيين لمن يقف “وراء الشرور” من ظلم وعنف وقهر إلخ، والثاني لا يتوانى عن تشويه الحقيقة والكلام عن موتها، فقدانها، أو عدم وجودها أصلاً، فتغدو مخبأة في ظواهر الأشياء وفي مضمونها. يزيح المثقف السلطوي أنظار الآخرين عن فساد السلطة التي يخدمها، ويصبح فاسداً مثلها، يعلن الحرب ضد استبداد القوة التي يعتبرها شبحية، وضرورية، فيندمج معها في علاقات يسودها التأمل في عيون السلطة كعلامة من علامات الضعف والهرب من بشاعة فكرها إلى جمال مظهرها، الذي حين يتلوث بدماء الضحايا، يسرع المثقف السلطوي ليقنعنا بأن السلطة هي المقتولة وليست القاتل. للنجاح في هذه المهمة، يستعين المثقف بعلبة أدواته الإيديولوجية، موظفاً إياها في حقول المعرفة، السوسيو سياسية والنفسية، بالإضافة إلى حقل الأدب الذي يضحي تدريسياً ممنهجاً من ناحية، ومهللاً ومخوّناً من ناحية أخرى. نتيجة التوظيف الإيديولوجي لفكره، يعود المثقف إلى حدث ما، يحلله بنظرية يصنعها بخبثه الناتج من موقعه ووضعيته كمتكلم عن الآخرين، كـ”ضمير الحق”، و”مكتشف المؤامرة الكونية” بذكاء حاد، إلى درجة الميل إلى الهلوسة والهذيان. مثالاً على الخبث الذكي، مطالبة عدد من المثقفين نظام الأسد التحلي بالشجاعة والقيام بخطوة إصلاحية، من نقاطها الأساسية إلغاء المادة الثامنة من الدستور التي تنص على احتكار حزب البعث للسلطة والمجتمع. عدا أنها دعوة تأتي بعد ثمانية أشهر من القتل، ما يجعلها ساقطة إنسانياً، ومن دون الأخذ في الإعتبار الطبيعة العنيفة للمدعو إلى الإصلاح. فلو تجرأ الأسد واتخذ الخطوة الإصلاحية هذه، سيؤدي به الأمر إلى السقوط. نتيجة ذلك، لا يبقى “الإصلاح” إصلاحاً بل فعلاً ثورياً. يختار المثقف السلطوي الهذيان خوفاً من الصداع، وهرباً من حقيقة أن أدواته الفكرية ما عادت تصلح إلا لاجترار مفاهيم أخلاقية فارغة، ولمنع الناس من التكلم والتعبير ضدياً بأدواتهم المجترحة من ملكاتهم الفكرية والمعرفية الخاصة، التي حجز المثقف عليها بطلب من السلطة التي تستولده وتحميه وتهبه جزءاً من هيبتها، بشرط الدفاع الدائم عن مصالحها بثقافة وضعية وقراءة كلية للمجتمع، الذي يحيا فيه من موقعه الإجتماعي وعلاقته بالبنية الثقافية التي ينتمي إليها، ويحافظ على فكرها بحجة أصالتها ونخبويتها التي تفرض نظرتها على الأفراد الذين مروا في مراحل التدريب على السكوت، في المنزل والمدرسة والجامعة على الأقل. في هذه المؤسسات التقليدية الخاضعة للسلطة الاستبدادية، تُنتزع إرادة الكلام من الأفراد، ويوضع فكرهم في إطار واحد، وتُغسَل أدمغتهم، قبل أن يسرقها المثقف السلطوي، ويصادر ألسنة الناس معتقدا أنه الوحيد القادر على التعبير عن الألم. كل فرد هو مثقف إذا تكلمنا غرامشياً، نسبة إلى غرامشي، إما أن يمارس دوره التاريخي وإما يتخلى عنه لصالح غيره الذي يتمكن من ممارسته في مجمل العلاقات الإجتماعية، محققاً عضويته بحسب الضرورة التاريخية وتوازنات الواقع الاقتصادية والصراع بين الميادين الثقافية المختلفة.
مقابل المثقف السلطوي، نشهد اليوم ظهور المثقف الميداني، الذي تخلى عن دوره الإنقاذي والكوني الشمولي، ليصبح المثقف المتميز بحسب تعبير فوكو. من مهامه تشريح الخطابات وفضح السلطة أينما كانت، كاشفاً أن الناس قادرون على الكلام، وعلى استرداد لغتهم، وابتداع فكرهم وأخلاقيتهم الجديدة، بحيث يكون كل فرد ضمير نفسه، ولسان حاله، ومنقذ رغباته، كهؤلاء الشباب الذين أنقذوا الكتب الموضوعة على رفوف المجمع العلمي في مصر قبل انهياره. لا يحق لنا أن ننسى هذا المشهد: مجموعة من الأفراد تنقذ الكتب، ومذيعة المحطة التلفزيونية تعلق: “هذا حقاً شعب عظيم!”، متعطش إلى الديموقراطية والثقافة، رغماً عن أنف العسكر والسلفين والمثقفين السلطويين كلهم. قبل أسبوع أيضاً، شاهدنا مثقفاً ميدانياً آخر يدعى ياسين الحاج صالح، يقف إلى جانب الحبيبة رزان زيتونة، مصفقاً للشباب، وبعض الأوراق في يده. لم يخطب بهم، لم يلقنهم دروساً، كان يصغي إليهم، يتفاعل معهم بهدوء كـ”نسمة هواء” تمارس رغبتها بالتفكير إلى جانب ميدانيين آخرين، كل منهم يمثل ذاته والجميع في الوقت عينه. يخرج المثقف الميداني من حلقة الجدل مع السلطة، ليكون فرداً معرفياً لا يصرخ خدمةً لأي “أمير” واقعي أو تحديثي حزبي أو شعبي، بل لأنه واحد من الصارخين المتميزين، وغداً إذا تحول “الشعب” مفهوماً سلطوياً استبدادياً، ما عليه سوى أن يصرخ كفرد ضده.
النهار