صفحات الثقافة

من داخل مخيمات البؤس السورية: قصة مروعة من نار وجليد

 

أمل هنانو

إنها ليلة رأس السنة. العالم يترقب ببهجة الدقائق الأخيرة لإطلالة العام الجديد 2013، وبينما تنطلق الأسهم النارية مدوية باهرة تفرش السماء ، كانت النار تشبّ في خيمة من ‘مخيم شجرة الزيتون’، قرب قرية أطمة، يرقد فيها سبعة أطفال وأم. التهمت النار الخيمة، وقضى خمسة من الأطفال حرقاً مع بزوغ فجر العام الجديد.

في اليوم السابق لهذا الحدث الجلل، قمت بزيارة هذا المخيم، الذي أقيم منذ أربعة أشهر فوق هضبة مزروعة بأشجار الزيتون على محاذاة الشريط الشائك الحدودي مع تركيا. كنت أسلك طرقاً موحلة بين صفوف 1200 خيمة منتشرة تضم 8000 -12000 لاجئ سوري.

أحاط بي الأطفال من كل جانب كعادتهم مع كل زائر، يتصايحون ويهزجون أناشيد الثورة، وينهالون بالأسئلة، ويتحدثون بشكل مبسط عن حياتهم اليومية في المخيم. كانت كلماتهم تبدأ دوماً بجملة نافية ‘ما عنّا ميّ.. ما عنّا كهربا.. ما عنّا أكل.. ما عنّا ألعاب.. ما عنّا…’. يجول الأطفال في المخيم ما بين مجموعة تلمّ أغصان الزيتون للتدفئة، وأخرى تتجمع حول الأمهات يطبخن ما قطف من نبات الأرض مما لا يسدّ رمق الجائعين. معظم الأطفال يرتدون ملابس رثّة لا تقيهم من البرد، وكلهم قد فاتهم أشهر من المدرسة. تسمع عن الأهل تأكيداً راسخاً أنهم نزحوا من أجل أطفالهم، وترى بعينك حال المخيم البائس الموحل بمجاريه المفتوحة، وتعجب أي مكان هذا يليق بأطفال؟.

كانت النسوة في حركة دؤوبة، منهن من تطهو ومن ترعى رضيعها ومن تنشر غسيلاً على حبال امتدت بين الخيم. اقتربت مني إحداهن تدعى منار وهي ترتدي جلابية مخملية بلون الصدأ، ودعتني إلى خيمتها لتقص لي أحداث حريق حصل قبل 15 يوماً. انحنيت داخل الخيمة وجلست على حجر يفصل المدخل عن وحل الطريق . كان هناك بضعة أغطية وفرش متواضعة مكومة في الزاوية. بدت منار شاحبة مرهقة، توحي بعمر أكبر من سنواتها العشرين. بادرتني دامعة العينين: ماذا أقول لك؟ احترق قلبي، احترق كبدي، احترق كل شيء.

قبل أسبوعين، تركت منار خيمتها ليلاً وطفليها نائمين، فاطمة في الخامسة من العمر، وضياء في الثالثة. اتجهت منار الى طرف المخيم لقضاء حاجتها، رأت ألسنة النار وأعمدة الدخان تتصاعد من خيمتها، هرعت مولولة تنادي أطفالها وقد تذكرت أنها تركت شمعة تؤنسهم في حلكة الخيمة. أمسكها بعض الناس وهي تشاهد رجلاً يدعى عبد الله يحمل ابنها ضياء ملفوفاً في معطفه الذي مازال عليه أثر من جلد ابنها المحترق.

أكمل القصة يقظان الشيشكلي مدير المخيم، وأنه أرسل الطفل ضياء إلى مشفى تركي حدودي لكنه توفي بعد يوم، أما فاطمة فقد توفيت على الفور.

تحكي منار قصتها وهي تشاهد خمس صور لأطفالها على جوالها، اثنتين لابنها وواحدة لابنتها واثنتين لقبرهما. هي تعيش مابين أطيافهم باكية ذاهلة مثقلة بالذكرى. ‘نزحت من أجلهما من بلدي البعيد بنّش. هربت بهما من القصف والتدمير إلى مكان آمن. لقد فقدت كل شيء، بيتي وأطفالي وكل ماأملك في هذه الحياة. ماذا بقي بعدهما غير التراب؟’.

زوج منار الذي تركها وحيدة في المخيم، يحاول أن يبيع جوالها من أجل مال يسير. لكنها تتمسك به وتقول أنها ستحفظ بطاقة الذاكرة إذا اضطرها إلى بيعه، صور طفليها هي كل ما تملك ومايبعد عنها شبح الجنون.

تشير إلى أطفال تجمهروا عند باب الخيمة: إنهم يذكّروني بولديّ، كلهم بحاجة إلى الرعاية والأمن، لا أريد لأي أم أن تفقد أطفالها مثلي. في كل يوم يموت الأطفال من البرد والجوع. وتعقب أم أخرى: أصبحنا نخاف الليل ولا نريده أن يحلّ، البرد يقتل أولادنا.

أضحى البؤس والمعاناة في المخيمات السورية هو واقع الحياة للاجئين اضطروا إلى الهرب من قذائف القصف والموت في قراهم. ولكنه الشتاء الثاني يحلّ عليهم في مخيمات العراء، دون تأمين أبسط ضروريات الحياة والرعاية الطبية لهم، وبدأ تدهور الوضع يظهر بشكل مؤلم خاصة على الأطفال، وانتشرت أوبئة مثل التهاب الكبد b والسل بسبب ندرة الأدوية واللقاحات. وتوفي طفلان في الشهر الماضي بنقص الحرارة في مخيم الزعتري. وبالإضافة إلى هذا فإن أطفال ‘مخيم شجرة الزيتون’، في قرية أطمة، تهددهم حرائق الخيام، ويترصدهم البرد القارس.

الشيشكلي، الذي أنشأ ‘جمعية مرام’ لإعانة المخيم، يقول أن حل حرائق الخيام ممكن عن طريق استبدالها بخيام مقاومة للحريق، بالإضافة الى برامج التوعية والسلامة. ولكن أما آن الأوان لهذا العالم المنهمك في حل أزمة سورية، أن يبادر إلى حل أسرع: أعيدوا هؤلاء اللاجئين إلى بيوتهم آمنين.

صور طفلين من حريق ليلة رأس السنة يجري تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي. أجساد صغيرة تشقق جلدها وتفحمت بأثر النار وتجمدت في آخر لحظة للحياة، ووجوه فقدت ملامحها وذابت معالمها. ما دعاني إلى التساؤل، ربما، كانت صور الطفلين يبتسمان لي في اليوم السابق؟ أو لعلهما ممن غنوا أناشيد الثورة خلف أشجار الزيتون؟ أو هما ممن تبعوني على خجل في طرق المخيم؟ هل كانا مع الأطفال الذين طلبوا مني كتابة أسماءهم بالإنكليزية، وقرأوها فرحين؟ لا أعلم. ولكني أعلم أن الأهل في المخيم زاد بؤسهم وشقاؤهم بفقد أبنائهم.

أطفالنا يعيشون في ذاكرة هاتف خلوي، تتحسس أنامل أمهاتهم الشاشة الصغيرة بحنان. حين تختفي الصور وتظلم الذاكرة، يبرز الألم وهاجس الذنب طاحناً في ليالي الخيمة الكئيبة. ماذا لو أنني لم أتركهما؟ ماذا لو أطفأت الشمعة وتركتهما في الظلام؟ ماذا لو أننا مارحلنا عن بيتنا؟.

هل هذه هي خيارات السوريين؟ أن يتجمد طفلك، أو يحترق؟ أن يموت جوعاً، أو يهلك بوباء سارٍ؟ أن يموت تحت القصف، أم في مخيمات اللجوء؟

لعله قدر الأمهات من أمثال منار أن يُحرق أبناؤهم أحياء في مخيمات الموت، في الدقائق الأخيرة من عام جلل، ليعيشوا سعداء في ذاكرة خلوي أصم.

‘ كاتبة وناشطة سورية تقيم في شيكاغو

عن الإنكليزية ترجمة صفية هنانو

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى