من ذاكرة لاجئة سورية/ سعاد نوفل
أرتّب أوراقي بدرج قديم.. ملابسي بخزانة صغيرة… لا مـــــرآة أقف أمامها على الحائط ولا مجلى لغسل الصحون، في هذي الديار لا شيء يشـــبه بلادي.. لا شيء يشبه حارتي ولا بيتي…لا أشتهي النظر من النافذة فشجرة الليمون لم تعد في صباحاتي وطيورها ارتحلت قبل رحيلي.. رافقتني 40 عاما وسافرت.
كل ما في هذي البلاد لا يغريني.. لا الشوارع العريضة ولا الحدائق الملونة ولا الأسواق النظيفة.. لا زلت أشتاق دكانة المرحوم والدي المرتكية على زاوية حارتنا، وبجانبها الجامع الذي كنّا نختبأ خلف حجارته ونحن صغار.
لا زالت خالتي جميلة المرأة الرقاويّة بثوبها الاسود وعُصبة رأسها وابتسامتها وهي تنفث دخان سيجارة الحمراء، وابريق الشاي يستريح على يمينها بعد ان انهت شطف الرصيف، أمر من أمامها كل صباح أرمي عليها التحية وتعزمني على كوب شاي، وانا في عجلة لالحق مدرستي… اهل الحارة رجالا ونساء تتعالى اصواتهم على باب الفرن، والكل ينادي الفرّان عبود عبود… ورائحة الخبز لازالت تسكن جوارحي.. نعم هي تلك الديار التي أشتهي.. هو ذاك الحي وتلك الوجوه.
يمرّني شريط الذكريــــات ليعـــيدني لشتاء عام 2004 لاسرة أبو محمد العراقي القادمة من مدينة صلاح الدين، هربا من الموت.. صوت والدي المرحوم اسمعه وهو يصعد الدرج بخطوات عجولة وبلهفة وهو ينادي.. يا حجة.. يا بنات..وينكن؟ والمطر يتساقط على اوراق الليمونة ليعطي صوتا كأنّي اسمعه الآن واحنّ إليه.
طلب والدي مني الصعود لسقيفة المطبخ لانزل منها المدفأة والغسالة اليدوية التي تقاعدت عن العمل بعد خدمة 30 سنة، لكنّها لا تزال صالحة، وبعض الاواني وطلب من امي جمع اغطية واسفنج وبعض المونة.. أخذ والدي واخي الاغراض للأسرة العراقية ودعاهم للغداء في اليوم الثاني، كما هي عادة السوريين، فالجار الجديد له حق الضيافة على أهل الحارة ترحيبا به وحتى لا يشعر بالغربة.
جارتنا ام محمد وزوجها ومعهم اطفالهم الاربعة… بعد الغداء جلسنا نستمع إليهم ونبادلهم الحديث والمُزاح والقصص اللطيفة لنخرجهم من الخجل الذي كانوا يشعرون به.. ذهبت للمطبخ لتحضير الشاي والاطفال سارعوا لمساعدتي.
ايفان اطالت النظر للغسالة وقالت هاي تشبه غسالتنا بالعراق وغصّت بالبكاء.. فيفيان مستندة الى فرن الغاز، ورددت إحنا عدنا بالعراق فرن وامي كانت تعمل عليه بالعيد كعك.. جيلان الطفلة التي لم تتوقف عن الضحك ووجهها بين كفيها الصغيرين.. استمرت بالضحك حتى اجهشت بالبكاء وهي تروي كيف كانوا يذهبون للمدرسة وتصف حارتهم وبيتهم الكبير الذي كان يتّسع لكل اقاربهم…حمودي لم ينبس سوى بثلاث كلمات.. بيتنا ‘كلش’ حلو.
كانت يداي تتراود على مسح رؤوس الاطفال الاربعة وضمهم لصدري ودموعي اختلطت مع دموعهم.. عبّر الاطفال عن ذكرياتهم الحلوة في عراقهم الجريح.. حدّثوني عن خوفهم وحزنهم على جيرانهم واقاربهم الذين راحوا ضحية التفجيرات.
في تلك الأيام كنت اشعر بمرارة غربتهم وبمدى شوقهم وحزنهم وقهرهم.. كنت أمنّيهم بانّم سيعودون للعراق في وقت قريب. ومشت السنين ولا يزالون بيننا.. وامل العودة لا يزال يملأ قلوبهم.. لم أفكر ولو للحظة انني سأكون يوما بمكان هؤلاء الاطفال الصغار الكبار وبأنني سأشعر بمرارة جراحهم التي حفرت بذاكرتهم الصغيرة.
انا لست طفلة ولكنّ الوجع الذي حملوه كان اكبر بكثير من سنّهم.. أتذكّرهم اليوم بعد تركي لبيتنا وحارتنا.. اتذكّرهم بعد ان ارتحلوا وعادوا لعراقهم. بعد ان ثارت سوريتي.. انقطعت اخبارهم عنّا ومن فترة قصيرة فقط تحدّثوا معي نعم تحدّثوا معي ولهفتهم وصلتني عبر الهاتف…تحدّثوا معي جميعهم ايفان.. فيفيان.. جيلان وحمودي.
بثّوني شوقهم وحزنهم علينا.. عادوا ليروون لي ذكرياتهم في سورية هذه المرّة.. لذكرياتهم في حارتنا.. ومع اهلي أمي..اخوتي.. جيراني.. والدي المرحوم.
ترجّوني أن أذهب إليهم لاسكن معهم في بيتهم…أرادوا التخفيف عنّي وأنا الصغيرة التي رحت أبكي وأبكي.
هؤلاء الاطفال الذين باتوا يافعين لم ينسوا سورية واهلها الطيبين.. لم يتنكّروا كما فعل البعض.. رغم جراحهم هناك في العراق لكنّ أصلهم الطيب لم ينسهم يدا ضمّتهم في يوم ما.. أطفال حملوا بقلوبهم حسرات وألم لحال سورية، لا زالوا يتواصلون معي وفي كلّ مرّة يروون لي ذكرياتهم في الرقة على رصيف حارتنا بجانب ذاك الدكان الصغير في سوريتنا الجريحة..
شكراً فيفيان..ايفان.. جيلان وحمودي
شكراً لبراءة حبكم وصدق مشاعركم.. شكراً لِنُبل عواطفكم الكبيرة..
‘ كاتبة سورية
القدس العربي