من سفور هارون الرشيد إلى نقاب “داعش”/ نبيل سليمان *
في 1/10/1967 نزلت للمرة الأولى في مدينة الرقة التي ذاع صيتها منذ أكثر من سنة، ليس لأنها كانت مصيف الخليفة العباسي هارون الرشيد، ولا لأنها مدينة المبدع الكبير الراحل عبد السلام العجيلي، بل لأنها المدينة والمحافظة الأولى التي ما عاد للنظام عليها سلطان. ثم، وبسحر ساحر أو بقدرة قادر، تحولت إلى الإمارة الداعشية الأولى في سورية والعراق.
بعد أسبوع من نزولي في الرقة بدأت العمل مدرساً للغة العربية في ثانوية البنات الوحيدة فيها: «ثانوية خديجة» التي كانت تستقبلك في مدخل المدينة آنئذٍ، على مشهد من نهر الفرات، حين لم يكن في الرقة شارع معبّد واحد.
كنت في الثانية والعشرين، وقد تخرجت من الجامعة للتو، وإذا بي أدرّس طالبات شهادة البكالوريا، اللواتي لا أكبر أكبرهن بثلاث سنوات، وكنّ ست عشرة طالبة، تحضر غالبيتهن من البيوت مرتديات العباءات السود التي تختفي داخل أسوار الثانوية، ولم يكن بينهن محجبة واحدة، شأنهن شأن بقية طالبات الصفوف الأخرى اللواتي توليت تدريس غالبيتهن، من الصف التاسع ـ الشهادة الإعدادية ـ فصاعداً.
خلال خمس سنوات تلت، ومن «ثانوية خديجة» إلى «ثانوية الرشيد للبنين»، وشمتْ الرقة روحي. ولم تزد السنون الوشم إلا اتقاداً منذ انتقلت منها عام 1972 حتى نهاية 2010، في آخر لقاء لي معها. وخلال ثلاث سنوات مضت من الزلزلة السورية، ظللت على صلة شبه يومية مع (ربعي) في الرقة، من الصديقات والأصدقاء، سواء منهم من ظل مقيماً فيها، أو من اضطر إلى الرحيل، فرماه النزوح في فضاءات ليس أدناها قريتي (البودي التابعة لمدينة جبلة الساحلية) حيث تقيم أسرتان نازحتان من الرقة، وليس أقصاها استوكهولم). لكن هذه الصلة كادت تنقطع منذ تحررت الرقة فجأة من داعش إلى أن عادت داعش بعد أيام، وفجأة، فانفردت بالرقة، ورمت على المدينة البالغة التنوع والبالغة التسامح والتعايش والتفاعل، براياتها السود، قبل أن تخنق بالنقاب النعمى الفراتية المسمّاة بالرافقة أيضاً، وليس بالرقة وحسب.
أعادني النقاب الداعشي، ليس فقط إلى العماء العقائدي، ولا إلى غيابة الجب السياسي والثقافي والاجتماعي، ولا إلى المآلات الكارثية للزلزلة السورية، بل إلى «ثانوية خديجة للبنات. وفجأة أخذ الزمن يتطوح، وأخذت الرقة تتطوح، مثلما كانت سورية تتطوح ـ ومتى لم تكن كذلك! ـ فإذا بثانوية خديجة تنقلب إلى مقرّ لشعبة من شعب حزب البعث الذي كان قد مضى على تطويبه لسورية عشرين أو ثلاثين سنة: ما الفرق؟ ولما عاينت ذلك للمرة الأولى حسبت أن بضعة من روحي تتخلّع، ولا تفتأ تتخلع إلى أن ترتمي في الفرات القريب، فتقرّ ثمة. ولعلها لم تكن لتغادر الفرات لولا أن الدولة الإسلامية في العراق والشام أخذت تخنق الرقة بالنقاب.
بين حاجز داعشي وحاجز داعشي صارت بضعة الروح الفراتية هي الروح، وأخذت الروح تنشبح، والنقاب يهمّ بها فتفلت منه. وربما ما كانت روحي لتتنقب لولا أنها ارتمت في ما كان ثانوية خديجة للبنات، مثلما فعلت في أنحاء من ريف إدلب وريف حلب ومدينة حلب أيضاً.
في ثانوية خديجة رأيتهن واحدة واحدة، صغراهن تقترب من الستين، وكبراهنّ تجاوزت الخامسة والستين، وخلف كل منهن أو حولها أو أمامها سرب من بناتها وحفيداتها، وكلهنّ مجللات بالنقاب، حتى من قضت منهن في ولادة أو حادث سيارة أو أزمة قلبية. غير أن المعجزة كانت حقاً في ما تخلقت به كل واحدة ممن كن طالبات ثانوية خديجة، وممن كنّ مدرسات لهنّ، تشرفت بزمالتهن وسعدت، ومنهن، مع حفظ الألقاب: سعاد زيتوني مديرتنا الحلبية، ومن حلب أيضاً: فريال شربجي وعدوية خواتمي، ومن الشاميات: حياة الجزائري وسعاد زكية وأمية السعدي، وسواهنّ ممن ضيعت الذاكرة أسماءهن، لكنها حفرت في الروح لهذه وجهاً ولهذه ضحكة ولهذه عبسة ولهذه صوتاً.
ليس بين الزميلات من لم تبلغ الآن السبعين. بيد أن المعجزة حررتهن من النقاب ـ وغالبيتهن كنّ في زمن ثانوية خديجة محجبات ـ فعدن صبايا، قد تخرجّن للتو من الجامعة، وعينتهن وزارة التربية في الرقة مدرسات للغات الإنكليزية والفرنسية والعربية، وللعلوم والرياضيات والاجتماعيات.
والمعجزة نفسها حررت الطالبات من النقاب، ومنهن، مع حفظ الألقاب: مميز شايط وهيفاء العجيلي ودلال الحمود وعواصف الصغير وآسيا العجيلي ومية الرحبي وفريال عقيلي وهيفاء الخوجة وآني دردريان وفريال مصارع وفاطمة كياص وسواهن ممن ضيعت الذاكرة أسماءهن، لكنها حفرت في الروح لهذه وجهاً ولهذه ضحكة ولهذه عبسة ولهذه صوتاً.
ومثل الجدات أو الأمهات، حررت المعجزة البنات والحفيدات من النقاب الداعشي، فهمّت روحي أخيراً بالتحرر منه. لكن السؤال عاجلني: عن أية معجزة تتحدث أيها العاجز؟ معجزة مؤتمر جنيف العاشر أم المعجزة التكفيرية؟ المعجزة الطائفية أم المعجزة الروسية الأميركية؟ المعجزة الحزب اللهية أم المعجزة الإيرانية أم معجزة هذه الهيئة وتلك الحركة وهذه الجبهة وذلك الاتحاد وهذا المجلس وذلك الائتلاف؟
ولما كاد اليأس أن يقضي عليّ رأيت الرقة ـ مدينةً ومحافظةً تربو مساحتها على ثلاثة أضعاف مساحة لبنان ـ تخضرّ، كما كانت عندما كان هارون الرشيد يتظلل بالغابات من بغداد إليها. ثم رأيت الفرات ينتفض أو يثور أو يتزلزل ـ بحسب ما تريد أن تسمّي به هذا الذي تعيشه سورية منذ ثلاث سنوات ـ ويعلن المعجزة السورية الآتية لا ريب فيها: معجزة الحرية والكرامة، على رغم كل هذا اليأس وهذا السواد.
* كاتب سوري
الحياة