صفحات مميزةميشيل كيلو

من عوامل قوة الحراك: الشعب أقوى من النظام (1)


ميشيل كيلو

أثارت قوة الحراك الشعبي السوري ذهول ودهشة العالم. وكنت قد قلت في مقالة: إن الانتفاضة الفلسطينية كانت إحدى المدارس الكبرى التي تعلم الشعب السوري فيها شجاعة التمرد والثورة، فاعترض صديق فلسطيني على قولي وأخبرني إن الانتفاضة كانت بحق مدرسة تعلم العرب فيها الحرية والمقاومة، لكن دروسها لا تقارن، أقله من حيث حجمها وتضحياتها، بما يعلمه الشعب السوري اليوم لغيره من العرب والأجانب، ودلل على ذلك بمقارنات حول عدد الشهداء، وحجم ونمط العنف الذي استخدم في الحالتين الفلسطينية والسورية.

تنبع قوة السوريين من الطابع المجتمعي لتمردهم، الذي يكاد يكون شاملا، ويستند إلى اعتقاد يتقاسمه قسم كبير جدا من بنات وأبناء الشعب، يرى أن النظام الراهن لم يعد قابلا للحياة، وأنه فقد طابعه الوظيفي وشرعيته ودوره التاريخي والعملي، وفقد بالتالي قدرته على فعل أي شيء إيجابي للسوريات والسوريين، وفقد حتى قدرته على إطلاق وعود صادقة يستطيع الالتزام بتحقيقها فيصدقها الشعب. ومن يفقد دوره وشرعيته وقبول الناس به يفقد حقه في الوجود. إذاً، فإن أهم ما يميز الحراك الشعبي السوري هو شموله وعمقه، اللذان مكناه من الاستمرار طيلة عام ونيف، وجعلاه يبدو كأنه لم يعد ينتمي إلى زمن النظام القائم، بل إلى الزمن التالي له، زمن النظام القادم، رغم ما يقال عن قوة السلطة الأمنية والعسكرية، التي تأخذ صورة عنف يتعاظم انتشاره من مكان لآخر، مع أن العنف نادرا ما يكون دليل قوة، بل يكون غالبا دليل ضعف وارتباك عندما يستخدم لحل ازمات سياسية واجتماعية، لا تحل بغير السياسة وأدوات عمل اجتماعي يمليها ويوجهها العقل الوطني وحده .

هذا الطابع المجتمعي العام هو نقطة قوة الحراك، الذي ليس حزبيا أو فئويا أو طبقيا او نخبويا، وإنما حشد قوى المجتمعين المدني والأهلي ووحد نضالهما طيلة عام واجها خلاله أهوال سياسات أمنية مخيفة، أطاحت بجزء كبير من المجتمع المدني، وخاصة شبابه، في حين واصل المجتمع الأهلي تمرده واحتجاجه، وتحمل ما لم يكن يخطر ببال أحد أنه يستطيع تحمله، وصمد في وجه ضغوط قاتلة، مع أنه كان يبدو بعيدا جدا عن السياسة، سعيدا بعزلته وبعده عن الشأن العام وهمومه، وعن السلطة وأجهزتها وأحزابها.

هذه نقطة ثانية من نقاط قوة الحراك الشعبي: فقد أوصل قيم الحداثة، وخاصة منها قيم المواطنة والحرية والمدنية والديموقراطية، إلى مواطن المجتمع الاهلي، الذي فرض عليه الجهل بها، خلال نصف قرن، هي عمر النظام السائد، وابعد عن السياسة وأغرق في وعود جذابة هطلت عليه من سماء السلطة. وحين شعر باليأس يلف وجوده، وبالحرمان يفقده حقوقه، عاد إلى الشأن العام من بوابة قيم الحداثة والمجتمع المدني، طالبا حصته من الحرية والكرامة والعدالة، وباذلا دماءه في سبيل نمط جديد من الحكم يكون مشاركا ومسؤولا فيه.

تعرض المجتمع المدني الذي قاد الحراك وشارك بكثافة شديدة فيه لما يشبه الإبادة على يد قوات الأمن، على أمل أن يتراجع مع تلاشي دوره ودور المجتمع الأهلي إلى درجة تمكن النظام من إخماد تمردهما، لكن هذا المجتمع لم يخرج من الصراع، بينما أفلح المجتمع المدني في البقاء على رأس الحراك في مناطق كثيرة، بفضل نمط غير مركزي من القيادة، مرن وقابل للتجدد الذاتي التلقائي، استحال معه توجيه ضربة حاسمة إليه تدمر جهازه العصبي فتبقى كتل المناضلين الكبرى في حال من الشلل، على غرار ما كان يحدث خلال حملات النظام ضد المعارضة الحزبية، عندما كان اعتقال القيادة، جهاز الحزب العصبي، يفضي إلى شل بقية أعضائه، وخاصة قاعدته، فيسهل عندئذ رصدها وملاحقة عناصرها الناشطة واحدا بعد آخر.

هنا، وبسبب انتشار الجهاز العصبي القيادي واتساع صفوفه واكتسابه طابعا محليا، لم يتح اعتقال أعضاء منه تقويض جسده، أي المجتمع الأهلي، ولم يحل دون تبلور قيادات بديلة، حتى أنه ليبدو اليوم أن القضاء على هذا الجهاز يتطلب القضاء على المجتمع نفسه، خاصة بعد ان برزت عناصر كثيرة من المجتمع الأهلي، كقوى قيادية موهوبة، عوضت النقص في القيادة الشبابية المدنية، وتمكنت من قيادة ومواصلة الحراك محليا وبالتنسيق مع المناطق القريبة، وحالت دون تراجع الاحتجاج والتمرد في معظم مناطق سوريا، بل وضمت أفواجا جديدة من المتظاهرين إلى الصفوف المرابطة في الشوارع، التي عجز النظام عن إخراجها منها وكسر شوكتها، رغم التصعيد العسكري/ الحربي المتواصل، الذي لجأ إليه خلال العام المنصرم.

بوحدة المجتمعين المدني والأهلي، التي كانت تعني وحدة القيادة الحديثة مع السوريين العاديين من سكان الأرياف والمدن على مختلف أسمائها، وببلورة أشكال من النضال تتناسب والحاجة إلى الرد على حملات النظام الأمنية، وبروز قوى ميدانية عجزت خبرات النظام الأمنية عن القضاء عليها، وبصيانة خلفية السوريين الوطنية المشتركة، فشلت سياسات التحريض الطائفي في تفجير التناقضات بين ابناء الوطن الواحد في جعلها تتخذ صورة اقتتال أعمى يغطي مجمل مناطق البلاد، رغم وقوع بعض التوتر ـ الشديد أحيانا ـ هنا أو هناك، وحدوث تعديات محدودة مناهضة للروح الوطنية وللحمة المجتمعية. هذا الفشل كان نتيجة من أهم نتائج قوة الحراك، المستمدة من قوة المجتمع ومن تضامنه، وهو سيبقى برهانا على عمق انتماء السوريين بعضهم إلى بعض، وعجز سنوات الشحن التفريقي والتمييزي الطويلة والمركزة عن دفعهم إلى تبني أنماط سلوك تقوض ولاءاتهم المشتركة والعليا، وتحل محلها ولاءات ثانوية أو دنيا لا يستقيم وجود وطني موحد معها، ولا تبقى وحدة وطنية في ظلها.

لم تقم في سوريا حروب أو معارك طائفية، ويرجح أن لا تقوم في المستقبل أيضا، لأسباب كثيرة، ربما كان أهمها أن النظام لم يعد يلبي حاجة أغلبية المواطنين الساحقة إلى الحرية والأمان والعدل، ولا يمثل أي قطاع مجتمعي محدد، بل هو نظام من يديرونه وينتفعون منه، من مختلف الأطياف والمصالح والتيارات والمذاهب. نظام هؤلاء الذين انفصلوا عن شعبهم بمجمله، ووضعوا أنفسهم في مواجهته، وتفننوا في تخويف أقلياته المذهبية من اغلبيته الدينية، وها هم يحصدون الخيبة ويقاتلون كممثلي سلطة تغربت عن شعبها ضد أغلبيته العظمى، ويفعلون ذلك باسم نظامهم المغلق والاستبعادي، الذي ينتمي إلى ماض لم يعد قادرا على الاستمرار، في حين يناضلون هم باسم مستقبل مفتوح على الحرية، يعد حتى أهل السلطة بموقع مضمون من العمل السياسي والمشاركة في إدارة شؤون سوريا القادمة.

تنبع قوة الحراك من مستقبليته وماضوية النظام، ويستمد عزيمته من مجتمعيته التي تتيح له مواجهة فئوية السلطة وطابعها الأقلوي كسلطة تمثل مصالح المنتفعين بها دون غيرهم من فئات الشعب، وتعيش من الإكراه والقمع اكثر مما تعيش من قبول المواطنين العام، الذي يلغي انتفاؤه شرعيتها، بينما يبدو الحراك شرعيا بفضل أعداد المشاركين فيه وإصراراهم على التخلص من الاستبداد، وانتمائهم إلى بدائله من عوالم حرة ومفتوحة، يحقق الفرد فيها ذاته كمواطن حر ومنتج بعد أن حرم من حقه في أن يكون فردا ومواطنا وحرا ومنتجا، ومساويا لغيره، بسبب النظام وخياراته وسياساته.

اثار صديق قبل مدة مسألة الفترة الزمنية التي استغرقها الحراك، وتحدث عن قوة السلطة، التي وصف أجهزتها بالمتماسكة، وعن صمودها طيلة عام كامل. لو أن أحدا سأل هذا الصديق في الأول من آذار عام 2011 عن احتمال نشوب انتفاضة شعبية في سوريا قد تدوم يومين، لأجابه: هذا احتمال يكاد يكون مستحيلا، بل هو الاستحالة عينها. واليوم، يصعب القفز من فوق واقعة أن الشعب صمد خلال عام عصيب مضى، وأن مجتمعا يفعل ذلك هو بالتأكيد والقطع أقوى من سلطته، لأنه دخل المعركة دون استعداد يجاري ولو من بعيد استعداداتها طيلة نيف ونصف قرن، لمواجهة حالة كالتي تعيشها سوريا اليوم، لكنه بقي عصيا على الإركاع، في واقعة تعتبر إعجازية بجميع المعايير، تؤكد أن زمنا جديدا يبزغ في سماء العرب، تقرر شعوبهم اليوم ملامحه وتضحي بالغالي والرخيص في سبيل قدومه، سيكون عكس زمن وعدهم بالحرية، وأتاهم باستبداد جثم بلا رحمة على قلوبهم وعقولهم وأرواحهم، ينفضون اليوم نيره عن كاهلهم، ليس كي يصيروا أحرارا، بل لأنهم أحرار ويصبون لإقامة مجال سياسي بديل: حر حقا ووطني حقا ومستقل حقا، سيكون قيامه أعظم علامات قوتهم، التي تبهر العالم.

كاتب وسياسي ـ سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى