صفحات الناس

من قصص العودة إلى حمص القديمة/ فادي الداهوك

 

في الطريق إلى الريف الشمالي، داخل الحافلات الخضراء، كان مقاتلو حمص القديمة يغنّون. في كلّ كتيبة أو مجموعة مقاتلة، هناك شخص يجيد الغناء، مقاماتٍ وعُرباً. وصلوا برفقة الأهالي إلى الدار الكبيرة في ريف حمص الشمالي. أهل البلدة رشوهم بالأرز. ذلك استقبال رمزي، يُرضي أهالي البلدة، أو ربّما هو جلّ ما يستطيعون فعله، لمن كانوا طوال الحصار ثرى حمص، كعبة الأبطال، كما لقّبها الشاعر الحمصي نسيب عريضة منذ عقود في المهجر. لكن المفارقة، أنهم قبل أيام من خروجهم من المدينة القديمة، كانوا يجمعون الأرز حبّة حبّة، في مواجهة الحصار والجوع.

بضعُ سيارات تعرضت إلى القصف، أو القنص، أكلها الصدأ، على مدخل حي الحميدية وحي الخالدية، محورا الاشتباك الأخطر والأعنف. بعض السكان هناك، خرجوا تاركين على شرفات منازلهم غسيلاً منشوراً على الحبال، هوى من شدّة القصف تارة، ومن الريح تارة أخرى. وطوراً مع انهيار المنازل، فدفن تحت الأنقاض. هذا أول مشهد يستقبل العائدين إلى حمص القديمة.

في اليوم التالي لإنجاز اتفاق الإخلاء. انسحبت كاميرات وسائل الإعلام. طوابير الناس التي ظهرت في اليوم الأول، في الصور التي أظهرتهم يدخلون المدينة القديمة، لم تكن كلّها لأهل المدينة. ذلك اليوم كان مناسبة لكثيرين، لالتقاط الصور مع ركام بيوت وأحياء ومدينة، شاهدها العالم طوال سنتين على شاشات التلفزة فقط.

يعرف أي حمصي الإشارة المرورية أمام حيّ الخالدية إذا ما شاهدها في الصور. المعالم حول تلك الإشارة تغيّرت بالكامل، يصعب جداً التعرف عليها، إذ بقيَ منها نصف العمود الذي يحمل الإشارات الضوئية. استملك النظام حيّزاً بجوار بقايا الإشارة وأقام فيه حاجزاً. هناك يُمنع الأهالي من الدخول إلى بيوتهم.

يأخذ أحد عناصر النظام هوية رجل يسند جسده على عكازين، ويبدأ التحقيق:

– شو جاي تعمل هون؟

– أنا جاي من مدرسة عبد الحميد الزهراوي شوف بيتي. (المدرسة تحوّلت إلى مكان إقامة للنازحين من حمص القديمة).

– ممنوع، تعال بكرة خود الهوية

أهل الأحياء القديمة، والزوار الذين دخلوها، الآن هم في أماكن أخرى. عادوا، بعد معاينة منازلهم، إلى حيث نزحوا، فلا إمكانية للمكوث أكثر من ذلك. الدمار في كل مكان والاستفزازات كثيرة. الحزب القومي السوري له ميليشيا مسلحة، لا تقاتل الآن، بل تشارك في “التعفيش”، أي في سرقة المنازل. وتختلف مع ميليشيا الدفاع الوطني، المشكلة في الأحياء الموالية، على تقاسم الحصص. ذلك الاختلاف خلّف 3 قتلى في الاشتباكات التي اندلعت بين الميليشيتين. من حي الحميدية تحديداً، خرجت الأربعاء 7 “سوزوكيات” محملة بكل ما يمكن أن تستوعبه صناديقها من أثاث أو أغراض أخرى مسروقة من البيوت. تباع تلك القطع في السوق الذي أقيم قبل سنتين، “سوق السنّة”، في حي وادي الذهب، على جانبَي الطريق قرب مسبح تشرين.

بعض الذين دخلوا وشاهدوا بيوتهم في اليوم التالي بعد الاتفاق، لم يعودوا إلى أماكن نزوحهم. محمد الحايك، الرجل الحمصي، الخمسيني، لم ينل منه القصف والنزوح. وصل أمام منزله، فوجده ركاماً. مات أمامه.

جامع خالد بن الوليد، غمد سيف الله في المدينة، أعاد لم شمل أهله. تصوّر الفتاة عمليات التنظيف فيه وتتذكر بغصّة “يارب.. على فكرة الجامع بشع كتير بلا الشباب، كل لحظة نحنا هون عم نتذكرن، نتذكر هتافاتكن، وصلواتكن، ان شالله بترجعوا، وقريباً جداً كمان..، لا تخذلونا، أملنا فيكن”.

في الجامعة أيضاً، “جامعة البعث”، تحول المكان إلى ثكنة عسكرية. الاحتفال أصبح احتفالات. تارة بعودة الأهالي إلى بيوتهم ليوم واحد، وتارة بخروج “الإرهابيين” من حمص القديمة. ومرة أخيرة أغلقت الأبواب كلها ومنع أحد من الخروج. بعض الطلاب في الجامعة هم قادة لمجموعات مسلحة موالية، انتشروا داخل الحرم الجامعي، فهناك احتفال كبير من أجل الرئيس بشار الأسد، الذي يستعد لخوض الانتخابات، أو حكم سوريا لسبعٍ عجافٍ أخرى.

خروج المقاتلين والأهالي المحاصرين في الأحياء القديمة، لم يفكّ الحصار عن المدينة. اليوم عاد كل شيء في حمص كما كان في عام الثورة الأول. الساعة توقفت منذ وقت لا يعرفه إلا من صوّب البندقية نحو عقاربها التي تكسّرت. هناك من يتحكم في الزمن، ويحاول تشويه ما حصل. كنيسة أم الزنار في الحميدية تم إحراقها حديثاً. من عاينها يؤكد أن حرقها جرى بعد خروج المقاتلين، فالرماد ما يزال طرياً. القبضة الأمنية اشتدت وعود النظام عاد أقوى. الآن هو يمسك في كل شيء في حمص. عادت المدينة إلى ما قبل المشهد الذي حطم فيه أحد أهالي حمص صورة حافظ الأسد المرفوعة على مدخل نادي الضباط بحذائه، وعاد ثوّار المدينة، عودٌ على بدء، في أشكال الاحتجاج. أصبحوا يخبئون وجوههم، ويخرجون في الظلمة التي تطوّق مدينتهم، ليكتبوا على الجدران عبارة “يسقط النظام”.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى