من موسكو الى دمشق صراع الطبقات الجديد
برنار غيتا
كانت لكل حقبة “طبقاتها الخطرة”، وليس هذا القرن باستثناء. فمنذ بداية الثورة الصناعية إلى تطوّر قطاع الخدمات، طبقة البروليتاريا، التي “لم يكن لديها ما تخسره سوى أغلالها”، هي التي أدّت هذا الدور لوقت طويل في أوروبا. وهكذا جسّدت التهديد الأوّل للنظام القائم كما فعلت طبقة الفلاّحين وعامّة الناس قبلها.
في الحالتَين، كان مصدر الخطر أشخاصاً معدمين مبعَدين عن مقدّرات السلطة، ومقصيّين من مؤسسات الدولة التي كانت حكراً على الطبقات المسيطرة، وهكذا كان يمكن تجاهلهم وعدم منحهم أي اعتبار، تماماً كما أن روما لم تعطِ أي اعتبار لعبيدها الثائرين، لكن الأمر مختلف الآن.
اليوم، من العالم الإسلامي الذي هو في حالة غليان إلى روسيا التي تستيقظ وتزمجر، شباب المدن الذين كبروا مع الإنترنت وتخرّجوا من الجامعات هم الذين يهدّدون السلطات القائمة بعدما أطاحوا أربعة ديكتاتوريين في عام واحد. ليس الوضع في موسكو هو نفسه في صنعاء أو طهران، ولا الوضع في القاهرة هو نفسه في تونس أو طرابلس، ولا دمشق بالتأكيد. تصيب عدوى الحرية بلداناً القاسم المشترك الوحيد بينها هو التطلّع إلى التخلّص من التعسّف، لكن الأكثر لفتاً للنظر هو أن الطبقات الوسطى هي التي تحمل التغيير في كل واحد من هذه البلدان.
منذ انهيار الشيوعية قبل عشرين عاماً، أي منذ جيل كامل، تتطوّر هذه الطبقات في روسيا. فالأطباء والجامعيون، وأصحاب الياقات البيضاء والمدرِّسون، ومديرو الشركات والفنّانون باتوا مستقلّين ذاتياً بعدما كانوا موظّفين لدى الحكومة وتحت رحمة حزب أحادي لا يستطيعون ممارسة أي مهنة خارج إطاره. لم تصبح مهنتهم رأسمالاً خاصاً بهم وحسب، بل إن الدولة أصبحت بحاجة إليهم أكثر مما يحتاجون هم إليها. لقد قام ميزان قوى جديد بينهم وبين السلطة السياسية، وتجد هذه الطبقات أكثر فأكثر دعماً في عالم المال.
فالثروات الكبرى التي جُمِعت بواسطة السرقة المنظَّمة التي شكّلتها عمليات الخصخصة في التسعينات، تطمح إلى الاستمرارية. ولذلك تحتاج إلى قوانين، وعدالة مستقلّة ودولة عاجزة عن القضاء عليها بلمح البصر. على غرار الطبقات الوسطى، تريد شريحة متزايدة من الأثرياء الجدد أن تقلب صفحة التعسف والفساد، وهذا الالتقاء بين أقلية من فاحشي الثراء وثلث السكّان الذي بات يتشكّل من حاملي شهادات جامعية يُقيمون في المدن، هو الذي يمنح الزخم للرفض الصاعد لفلاديمير بوتين.
وبما أن التحرير الاقتصادي قلب التركيبة الاجتماعية لروسيا رأساً على عقب، فهو يضع هذا البلد من جديد على سكّة دولة القانون التي أرساها ميخائيل غورباتشيوف والبريسترويكا. لا يزال الطريق طويلاً لكن الواقع هو أن السوق تحمل في طياتها الديموقراطية، كما حصل في العالم العربي.
هناك، دفع التعطّش نفسه للمال الديكتاتوريين وجماعاتهم إلى تطوير صناعات الاتّصالات، والقنوات الفضائية، والإنترنت والهواتف الخلوية، والتي أتاح انفجارها التحرّكات الشعبية التي تكلّلت بالنصر أو لا تزال مستمرّة الآن. وأدّت عمليات الخصخصة بدورها إلى تحقيق الطبقات الوسطى الاستقلال الذاتي. هنا أيضاً ولّد التعسّف والفساد الثورة نفسها لدى أبناء المدن الشباب الذين يحملون شهادات جامعية.
تتوقّف المقارنة عند هذا الحد، لكن في الحالتَين، لا العمّال ولا الفلاّحون ولا من ليس لديهم عمل وشهادة جامعية هم الذين غيّروا المقاييس. من الأشد فقراً إلى الأكثر وفرة، ومن العاطلين عن العمل إلى أصحاب الدخل المرتفع، مالِكو المعرفة، والشباب على رأسهم، هم من يجسّدون الثورة لأنهم المستقبل والجناح الفاعل في المجتمعات التي لا يديرون دفّتها السياسية.
في روسيا كما في البلدان العربية، يحدث ما حصل في فرنسا عام 1789. فعلى غرار البورجوازية الفرنسية في القرن الثامن عشر، تصبح الطبقات الوسطى ثوريّة لأنها مجرّدة من كل السلطات التي هي حقٌّ لها نظراً إلى محوريتها وحداثتها ودورها الاقتصادي. وهكذا تولد من جديد المتطلّبات نفسها المتمثِّلة في الحرّيات السياسية وسيادة القانون والحكومات المنبثقة عن انتخابات حرّة. إذاً، سواء كان الديكتاتوريون عرباً أم روساً، وغداً صينيين، يتجاوزهم التاريخ تماماً كما تجاوز الملَكية الفرنسية. قد يتحالفون، مثل فلاديمير بوتين وبشار الأسد. وقد يُبيدون شعبهم كما يفعل الثاني، أو يُعلنون، كما الأوّل، عسكرة الاقتصاد ويخنقون بصورة منهجية ومنظّمة وسائل الإعلام القليلة التي لا تزال تعارض عودته إلى السلطة. قد يصمدون لوقت قصير أم طويل، لكن مستقبلهم أصبح وراءهم.
النهار