صفحات العالم

من هم صناع الإرهاب… وضحاياه معا؟/ مطاع صفدي

 

هل أصبح مصير الثورة السورية متعلقاً بشرط وحيد فريد، هو حصولها على ما تسميه الأسلحة النوعية. ربما لم يكن هذا الشرط حاكماً ومتحكماً منذ بداية الحركة الإحتجاجية لجماعات الشباب الأبرياء ضد عسف السلطة.

لم يكن هذا المصير الكارثي ليخطر على بال أحد من ثوار الشوارع الغاضبة في معظم المدن والأرياف السورية، عندما لم يكن أحد من قادة الإنتفاضة يتصور أو يخطط لاندلاع حرب دموية بين الشعب والنظام. كان ذلك (الهدف) أبعد ما يمكن من الإحتمالات السوداء، حتى ولو كان رجال النظام المبادرين الأولين لاستخدام الرصاص القاتل وتصويبه نحو رؤوس وصدور الفتيان المتظاهرين.. وكان يمكن للجماهير الغاضبة آنذاك أن تطور الاحتجاج إلى مروحة متنوعة من وسائل المقاومة السلمية، ولكنها المؤثرة، والناجحة أخيراً في فرض انكسار غرائز الخوف الشعبي. كان اضطراد التظاهر في مختلف أنحاء القطر سوف يزيد في عزلة النظام، ويُبطل تدريجياً من سطوة القمع.

كان يمكن لثورة الأشّهر الأولى أن تُطور المقاومةَ الشعبية في حركة عصيان مدني سوف تزلزل بقايا المشروعية الدستورية لأركان السلطة ومؤسساتها. كان يمكن لسوريا الثائرة سلمياً وجماهيرياً أن تجدد من عُرى تماسكها الوطني والاجتماعي، أن تؤكد تراثها التحرري، وأن تستمد منه تأصيلاً لكفاحها، ومعاييرَ حية وراقية لأخلاقيتها الجديدة. كانت سوريا موشكة على تجسيد الربيع العربي في أبهى مثال حي عن إمكانه وواقعيته.

لقد أدرك أعداء العرب هذه الأبعاد البنيوية الخطيرة المترتبة على قابلية نجاح الثورة السورية، المختلفة كلياً عن أشباهها السابقة في القطر عينه، والتي انتهت جميعها إلى الإنقلابيات العسكرية والفئوية الضيقة، وباعدت دائماً ما بين الشعب وآماله الحقيقية في الحرية والعدالة، وتسببّت في إنتاج الكوارث العامة على كل صعيد. فقد تميزت هذه الثورة في أشهرها الأولى بالطابع الشبابي الحر من أي تنظيم أو أية معارضة قديمة ومعروفة. وكان يمكن لأوسع الجماهير أن تلتحق بها تدريجياً. بل أوشك هذا الحراك غير المسبوق أن يستنفر معه القطاع الأكبر من الجماهير المحكومة بعقد الخوف من فظائع الطواغيت الحاكمة. وقد تنبأ هؤلاء قبل سواهم بالنتائج الفاصلة التي يمكن لثورة شعب كامل أن تصل إليه فيما لو تُرك حراكُها لانطلاقته الذاتية. ما يعني أن الثورة في تلك المرحلة الأولى، كان نموها كالنار في الهشيم، قوتها العظمى مستمدة أساساً من صدقيتها وأحقيتها معاً. كل مواطن سليم الطوية، كان يشعر أنه مرشح للإنضمام إلى صفوفها. فكان رهان الثورة هو أن يغطي المدّ الثوري معظمَ المساحة الاجتماعية، أن يحقق القطيعة الشاملة بين السلطة والشعب. وأن تضطرها هذه القطيعة إلى الإقرار بالحقوق الطبيعية والمدنية لكافة المواطنين، عندما تتآكل وتتهاوى قُمم الديكتاتوريات من فوق هامات اليأس. فالقطيعة الشاملة سوف تجرد السلطةَ من كل مشروعية حتى لدى أقرب المحازبين لها. فالغضب الجماهيري السلمي هو أمضى سلاح ضد عُتاة التاريخ. ولقد أدى مهماته الفاصلة في أهم تحولات الحضارة الإنسانية. وكاد هذا السلاح وحده أن يشكل عصب المقاومة الثورية لشعب سوريا، لولا أن صخب البنادق والمدافع قد تدخل فجأة، باغياً طاغياً على شعارات التظاهرات الشبابية وزغاريدها الشعبية.

كان معظم الشبيبة السورية يعدّون أنفسهم ليكونوا ثواراً حقيقيين، ومن ثم مواطنين أحراراً، لن يكونوا قَتلةً أو مقتولين. لكن أعداء الحرية استطاعوا أن يلغوا كل حد فاصل بين الثورة والحرب. فلم يكن هذا الإلغاء من صنْع التاريخ أو عبث الأقدار.

كان مصدرَ تحولات هائلة ومرعبة. أولُها أن الصراع سيفقد طابعه السياسي بالجملة والتفصيل. سوف تعجز الثورة عن الاحتفاظ بالروابط الأهلية والتاريخية الجامعة للوحدة الوطنية التي كانت انطلقت هي من قواعدها الثابتة، سوف ينضاف الإنقسام الاجتماعي الأفقي إلى الإنقسام القديم العمودي المستشري ما بين الفئة الحاكمة والقاعدة الأوسع لكلية الهرم الوطني، بحيث يمكن لهذه الفئة أن تفكك شيئاً من عزلتها، وتلقَى لها حلفاءَ متنوعي الولاء ما بين شرائح المجتمع نفسه. وأما مسيرة الصراع عينها فسوف تخضع وقائعها لمعايير دموية وتدميرية خالصة. فالضحية المركزية لعواصف الأهوال، هي الحرية التي سوف تُقتل أو تُذبح أو تُغتصب مع كل ضحية تتساقط كل دقيقة أو ثانية.

قد تكون الحرب إذن هي الخطيئة النكراء التي ترتكبها أيةُ ثورة شعبية بحق نفسها. وذلك عندما تفقد الثورة قيادتها من رأسها، لتتلقاها فقط من ما وراء ظهرها فحسب، من (حلفاء) خبثاء غامضين. ولا تنهار الثورة إلى هذا الحضيض إلا عندما تيأس من نجاعة أسبابها الإنسانية.

لم تكن الحرب من سُلالة المشروع الثوري، خاصة حينما كانت الثورة في بدايتها أقرب إلى حركة احتجاجية. لم تكن تنادي بشعار إسقاط النظام بوسائل العنف المادي، تلك التي لا تمتلكها أية قوة شعبية أصلاً. ولذلك ما أن طغى العنف على مختلف عناصر المشاهد اليومية لصراع الشوارع، حتى شعر الثوار أن نشاطهم المدني لم يعد يمكنه تحمّل المسؤولية العامة عن «الفظائع» التي ترتكبها بعض الفصائل بأسماء الجهاديات، كبدائل عن مفردات الكفاح الوطني ومعاييره الإنسانية والأخلاقية. فما صار يحدث في سوريا، بعد زوال مرحلة الثورة كانت جُل انحرافاته الكبرى تتابع في مسلسل من المسوّغات الكارثية لذلك النوع من التصاعد الجهنمي لعنف السلطة وحلفائها. فالنظام هو المشرّع المبادر للحرب ضد شعبه؛ وذلك لنقل تقاليد قمْعه السري القديم إلى العلن مضاعفاً بعشرات بل مئات المرات من أهوال البطش الجنوني بالمجاميع السكانية وقراها ومدنها.

هذه التحريفات الكبرى التي تلقتها الثورة في فكرها وتنظيمها، وممارستها، قد تؤهلها للإنضواء تحت المصطلح الشائع للثورة المضادة. لكن هذه التوصيفة ستكون لها دلالة جديدة في ظل ثقافة العنف الممنهج الذي ترعاه بكل وعي شيطاني إمبريالية رأسمالية هالكة، وإمبريالية أخرى فاشية صاعدة. فهما وُلدا مجدداً ولادة ثانية مع الهول السوري الراهن والمستديم. صار دأبُهما أن تتناهشا سويةً وضداً على بعضهما، جسدَ الضحية بعد استلابه إرادتَهُ الذاتية.

العجيب أن هذين الشقيقين في الإمبريالية (موسكو، واشنطن)، إنما يزرعهما الخوف مما يسميانه معاً بالإرهاب؛ لكنهما يكلّفان نفسيهما بصناعته وإعادة إنتاجه، وذلك بتنظيم أدواته وفتح ساحاته، وفي عين الوقت فهما معاً يتولّيان كذلك اختراع وسائل قمعه وإحباطه موقتاً. ولقد نجحت حتى اليوم معظمُ تجارب وتمارين هاتين الممارستين المتضادتين لفظياً، والمتكاملتيْن دلالةً ومضموناً. وكانت سورية البائسة هي الميدان الأمثل لهما. فالإرهاب يمتطي ظهر عربة واحدة، يجرها حصانان كالِحان شرسان يتعاركان خلال المسيرة، لكنهما يلتقيان معاً على هدف واحد.. مثال ذلك هذا التساؤل: كيف يمكن للدب الروسي أن يستخدم الفيتو الرابع ضد العدالة في سوريا، في الوقت الذي يمسك الرئيس الأسود في البيت الأبيض بفيتو المنع الشامل للتسليح، أي حرمان الكتل الشعبية الفقيرة من حماية أطفالها وبيوتها، من كتل النيران الهابطة على رؤوسها من طائرات جيشها «الوطني».

هل هذه الأمثولة من صُـدَف التاريخ الأعمى أو من أهوائه العابثة. فالدب والذئب متفقان في الصميم على تفريغ سوريا من شعبها وحضارتها وأدوارها التاريخية الوجودية. وهما معاً يختلقان يومياً أنياباً ومخالب جديدة للإرهاب. لن يكونوا قاتلين إلا إذا كان هناك رقاب تستحق أو لا تستحق أن تقتل وتذبح. إنهما شريكان عبقريان في اختراع «العدو اليومي».

والإرهاب الجهادي أو سواه متكفل بتوفير هذه الهدية السحرية لهما معاً، وعندما سيعجز الجهاديون يوماً ما عن تقديم أضاحيهم، فإن أسياد الأمبرياليتين هم على استعداد، وكما كانوا دائماً، لتقديم المعابد وابتداع الطقوس واستنباط نماذج الأضاحي من أجساد فقراء العالم، والمسلمين منهم، في الصف الأول، كما جرت العادة في عصر الثورات الربيعية التي ينبغي لها أن تنتهي إلى فواجع إرهابية.. ألم تشترط أمريكا على ممثلي (الثوار) السوريين رفعَ حظْر السلاح النوعي عنهم، عندما يتخلى هؤلاء عن هدف إسقاط النظام، إلى هدف مقاتلة الإرهابيين. فلقد كشفت أمريكا أخيراً عن سرّ ترددها الطويل في دعم الثورة. لم يكن تخاذلاً شخصياً اتُهم به أوباما. كانت أمريكا بانتظار أن يمحو الأسد شعبه من خارطة الوجود أولاً لكي يصار فيما بعد إلى استخدام البلد كساحة تصفية نهائية للثوار والجهاديين معاً. ولربما اقتربت بعض ضواحي هذه المرحلة. كأن الحرب الحقيقية سوف تولد غداً.

مفكر عربي مقيم في باريس

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى