من هو الأب للأصولية الإسلامية الحديثة؟ ..«أسد» أم المودودي؟/ علي العميم
كتاب أبي الحسن الندوي (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟)، كان عنوانه ينضح بإرادة التحدي والاستفزاز لرؤية المستشرقين والدارسين الغربيين المعنيين بالإسلام والمتغربين العرب والمسلمين، ولرؤية حتى الذين يتحلون بالتوازن والاعتدال، وكان مشحوناً بعزيمة عارمة في بعث الثقة والاعتزاز والفخر بالعقيدة الإسلامية وتاريخها وثقافتها وحضارتها عند المسلمين والمتعلمين الذين كانوا يشعرون بالاهتزاز والضعة والدونية أمام الحضارة الغربية وأمام شعوبها، وبث روح الاستعلاء وإنماء نزعة التفوق فيهم على هذه الحضارة وعلى شعوبها، وعلى العقائد والتواريخ والثقافات والحضارات والشعوب الأخرى.
هذا الكتاب، كان بمثابة إعلان قطيعة مع فكر الإسلامية الإصلاحية التحديثية، وبيان رفض للاتجاه السائد في الكتابة الإسلامية في المنتصف الأول من القرن الماضي وما قبله.
استفاد الكاتب ومؤلفه الناشئ، أن الكتاب لم يصدر عن دار من دور النشر الدينية التي لا يقبل على مطبوعاتها قراء ذلك الزمن، بل صدر عن لجنة التأليف والترجمة والنشر التي يرأسها أحمد أمين والتي كانت أبرز دار نشر في مصر والعالم العربي.
وإن كان الكتاب الذي صدر في أواخر عام 1950 بمقدمة فاترة كتبها أحمد أمين، لم يهتم به أدباء مصر ومثقفوها المتحررون ولم يلتفتوا إليه، فلقد لقي حفاوة من الإخوان المسلمين وذوي الوعي الديني في مصر. وهذا ما نعلمه عن طريق أبي الحسن الندوي الذي زار مصر في أواخر أول شهر من عام 1951، أي بعد صدور كتابه بأشهر قليلة. ومن مظاهر الحفاوة بالكتاب، طلب الدكتور محمد يوسف موسى الأستاذ في كلية أصول الدين بالأزهر من الندوي أن تصدر جماعة الأزهر للتأليف والترجمة والنشر التي هو يرأسها طبعة ثانية من الكتاب. وظهرت هذه الطبعة عام 1953، بمقدمة كتبها سيد قطب ومقدمة ثانية كتبها الدكتور محمد يوسف موسى وثالثة كتبها أحمد الشرباصي، وحذفت من هذه الطبعة مقدمة أحمد أمين بناء على رغبة المؤلف الذي استجاب لرأي كثير من رفاقه الدينيين في العالم العربي من أنها لم تحسن إلى الكتاب ولم تخدمه، بل قللت من قيمته. وقد ذهب إلى مثل هذا الرأي شخصية سياسية كبيرة في العالم العربي، وهو الملك عبدالله بن الحسين، ففي لقاء أبي الحسن الندوي الأول به يوم الثلاثاء 10/ 7/ 1951، في عمان قدم له نسخة من كتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟). وفي لقائه الثاني به يوم الجمعة 13/ 7/ 1951، دار بينهما الحوار الآتي الذي سنرويه على لسان الندوي:
«كان الملك قد طالع شيئاً من كتاب (ماذا خسر العالم)، فسأل عن الدكتور أحمد أمين، فذكرت ما أعلم عنه فانتقده، وقال هو غمز غمزة في المقدمة وأساءت هذه المقدمة إلى الكتاب، وكان التجرد عنها أولى بالكتاب، وقال: إن الكتاب ليس في حاجة إلى مقدمة، قلت: لا ينشط ولا يتحمس لكتابة المقدمة لهذا الكتاب إلا من يعتقد أن الإسلام له الحق وحده أن يسود ويحكم في العالم، وأن الإنسانية لا تسعد إلا في ظل حكم الإسلام وقيادته، ومع الأسف كثير من أدبائنا يعتقدون أن الإسلام قد قضي أجله ومثّل دوره في تاريخ العالم والآن ليس له مستقبل، وهذا النوع من التفكير لا يتفق مع مقاصد هذا الكتاب وروحه، وقد طلبت الآن من الأستاذ سيد قطب أن يقدم هذا الكتاب وهو جدير بذلك».
كتابة سيد قطب مقدمة للكتاب أتت -كما قال هو- بطلب منه، ففي أحد لقاءاته به في منزله بحلوان، وكانت المناسبة مناقشة الكتاب في الندوة العلمية التي كان سيد قطب يعقدها كل جمعة في منزله. طلب الندوي في هذا اللقاء من سيد قطب كتابة مقدمة لكتابه، فسر سيد بهذا الطلب. خص سيد بهذا الطب، لأنه كان قبل عام ونيف من هذا اللقاء الأخير بسيد قطب قد قرأ كتابه: (العدالة الاجتماعية في الإسلام)، الذي قال عنه: «وجدت فيه أسلوباً جديداً من الكتابة والبحث والعرض لم أجده في كتابات الكتاب الإسلاميين، وخاصة الكتاب العرب… وكان هذا الكتاب مفاجأة لي فيما يختص بالمكتبة العربية الحديثة، وكأنما وجدت ضالتي واكتشفت شيئاً مجهولاً ومقصوداً. إن مؤلفه تحرر من هذا الأسلوب الاعتذاري الذي أصبح شعاراً للكتاب الإسلاميين منذ مدة طويلة، وفضل أسلوب الهجوم، أو مواجهة الفكرة الغربية -بمعناها الواسع- وجهاً لوجه.
وقد استعان سيد قطب فيما بعد في كتبه اللاحقة بكتاب الندوي الذي قدم له، فكثيراً ما كان يعود إليه وينقل عنه.
كتاب الندوي لقي إقبالاً على قراءته في أوساط الإخوان المسلمين في سورية، وهذا ما نعرفه عن طريق الندوي الذي زار هذا البلد في منتصف عام 1951، بعد أن أمضى في مصر بضعة أشهر وزار السودان لمدة تسعة أيام.
قال محمد المبارك عن الكتاب: إنه واحد من خيرة الكتب التي صدرت في هذا القرن.
وقال للندوي: «كنا في أول عهدنا نقرأ كتاب الأستاذ فريد وجدي وغيره في الدفاع عن الإسلام، وكانت هذه الكتب مبنية على استدلال واستشهاد بأقوال الأوروبيين، ولكن كتاب (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين)، جاء يفند الحضارة الأوروبية بنفسها ويزيف مقاييس الأوروبيين».
ارجاع الدكتور أحمد الموصللي في كتابه (الفكر الإسلامي المعاصر- دراسات وشخصيات- سيد قطب: بحث مقارن لمبادئ الأصوليين والإصلاحيين) الكثير من أفكار الأصوليين إلى محمد أسد، وقوله: إنه هو الأب للأصولية الحديثة، استناداً إلى شاهدين، الأول: أنه كتب قبل المودودي وقطب والبنا، والثاني: أن الأصوليين قد تأثروا به وذكروه في كتبهم، كما أن بعضهم اقتبس من كتابته كسيد قطب وأبي الأعلى المودودي، هو كلام صحيح من جهة وغير دقيق من جهة ثانية.
هو كلام صحيح، وأضيف إلى الشاهدين اللذين ذكرهما، شاهد ثالث أغفله لأنه استمد ملحوظته تلك منه!
هذا الشاهد هو أن أبا الحسن الندوي وهو من طبقة المؤسسين للفكر الإسلامي في طوره الأصولي، قاله بمعنى مختلف في موضعين في كتابه: (كتب وشخصيات): الأول في باب (رجال عاصرتهم)، وهو يتحدث عن شخصية سيد قطب. والثاني في باب (كتب عشت فيها)، وهو يتحدث عن كتاب: (الإسلام على مفترق الطرق).
وهو غير دقيق في إدخال أبي المودودي ضمن الأبناء وفي ادعائه أن أسد كتب قبل المودودي، فالمودودي شريك في الأبوة، وأصل الكثير من أفكار الأصوليين ترجع إليه أكثر مما ترجع إلى محمد أسد، فإسهامه فيها كان أكثر من إسهام الأخير.
فمحمد أسد نشر كتابه باللغة الإنجليزية عام 1934 بلاهور ودلهي. وأبو الأعلى المودودي كان يوالي نشر مقالاته في مجلته، مجلة (ترجمان القرآن) الشهرية من عام 1932 إلى عام 1938، التي نشرت فيما بعد في عام 1939، بصورة كتاب أسماه (التنقيحات) باللغة الأوردية الذي ترجم إلى العربية باسم (نحن والحضارة الغربية). والمنحى الأصولي في فهم الإسلام متوفر في مؤلفات المودودي منذ بواكيرها الأولى، ككتاب (مصدر قوة المسلم) وكتاب (الجهاد في الإسلام) الذي شرع في تأليفه عام 1926 (عام إسلام محمد أسد)، وكان في الثالثة والعشرين عاماً من عمره، فالمودودي تلقى في صغره تربية إسلامية عقدية أصولية وتوجيهاً علمياً مكثفاً صارماً. وقد بدأ نشاطه العلمي وعمره لم يتجاوز ثلاث عشرة سنة، حيث ترجم كتاباً للشيخ عبدالعزيز جاويش من العربية إلى الأوردية. وحينما كان عمره يتراوح ما بين خمسة عشر وسبعة عشر عاماً، ألف كتابه: (النشاطات التبشيرية في تركيا) وترجم كتاب (مجاوز اليونانيين في أسمرنا) من الإنجليزية إلى الأوردية، وحينما كان منظماً إلى حركة الخلافة في الهند ألف كتابه (مسألة الخلافة) عام 1922، وكان عمره تسعة عشر عاماً.
هذه المعلومات عن بواكير مؤلفاته وترجماته التي أخذناها عن كتاب (أبو الأعلى المودودي: حياته ودعوته) للباكستاني أليف الدين الترابي، تؤكد أن الفتى كان فلتة وألمعياً منذ سن الصبا والمراهقة. وهذه الموهبة والمقدرة المبكرة هي التي ستكسبه في ما بعد صفة متفردة عند المستشرق ولفرد كانتويل سميث الذي في كتابه (الإسلام في التاريخ الحديث) الصادر في أواخر خمسينات القرن الماضي، أفرده بالصفة التالية عن حق:
يقول سميت عنه: إنه المفكر الشمولي الذي يمتلك جهازاً فكرياً كاملاً في الإسلام الحديث.
وفي ما أخالف الدكتور الموصللي جزئياً فيه، ليكن مرجعنا أبي الحسن الندوي، فهو يصغر محمد أسد بأربعة عشر عاماً ويصغر المودودي بأحد عشر عاماً، وبعد فهو على معرفة شخصية بهما، وهو إضافة إلى هذا كما قلنا سابقاً، من المؤسسين للفكر الإسلامي الرئيسيين في طوره الأصولي.
أبو الحسن الندوي في الموضع الأول من كتابه (شخصيات كتب)، الذي أشرت إليه آنفاً -وهو يعرض لاتجاه بحوث الكتاب المسلمين في لغات الشرق وفي بعض اللغات الغربية، بعد منتصف القرن التاسع عشر في مصر والهند وتركيا وإيران، مبرزاً سمته، وذاكراً مأخذه عليه، وواصماً إياه بإدانة، أنه اتبع أسلوباً يصح تسميته عنده بالأسلوب الاعتذاري أو الدفاعي- يتحدث عن نقلة ثورية تمت بعد ذلك أولاً عن طريق محمد إقبال الذي وجد في شعره «كفر بالحضارة الغربية وتحدي زعمائها»، وثانياً «وجد هذا اللون في كتابات مسلم جديد، هو الأستاذ محمد أسد، ومسلم قديم، هو الاستاذ أبو الأعلى المودودي».
وفي كتابه (الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية…)، يقول: «لا بد من الاعتراف بقيمة الدور الذي لعبته الجماعة الإسلامية في الهند وباكستان ومؤسسها أبو الأعلى المودودي في نقد الفكرة الغربية وأسس الفلسفة المادية التي قامت عليها الحضارة الغربية». ثم ينبه في الهامش إلى أن (معاصره) محمد أسد النمساوي وبعض المعدودين من الكتاب الإسلاميين كان لهم مثل هذا الدور. وكان قبل حديثه عن دور الجماعة الإسلامية ومؤسسها المودودي في نقد الفكرة الغربية، قد تحدث عن محمد إقبال ونقده للحضارة الغربية، ويقصد بــ«بعض المعدودين من الكتاب الإسلاميين» سيد قطب ونفسه، لأنه كان في مقام تأريخ يراعي فيه التسلسل الزمني، وهو الذي بيناه في ما قبل. ولأنه أحد الاثنين اللذين أتيا بعد إقبال وأسد والمودودى، تجنب ذكر الأسماء تواضعاً وحياءً.
إن الندوي في النصين اللذين استشهدنا بهما، يشير إلى دور محمد أسد ودور المودودي على أساس أنهما دوران متعاصران ومتزامنان. وكان يجب على الدكتور أحمد الموصللي أن ينظر إلى اقتباس المودودي من كتاب محمد أسد (الإسلام على مفترق الطرق)، أنه جاء من باب تعزيز وتعضيد وجهة نظره والتنبيه للكتاب وإشاعة ذكره، وليس من باب التأثر به كما هو الأمر مع سيد قطب ومع الندوي الذي أغفل هو ذكره تماماً، وذكر كتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟) وكتبه الأخرى المؤثرة في الاتجاه الإسلامي الراديكالي، لأنه أراد أن يعمّي على مصدر ملحوظته ليدعي أنه هو صاحبها، مع أن الندوي تحدث صراحة عن تأثره بمحمد أسد. وكان من خلال كتابه المذكور آنفاً، ملهماً لسيد قطب. أسوق هذا التنبيه لأن كتاب الموصللي (الفكر الإسلامي المعاصر) موضوعه -كما نص مؤلفه- هو الفكر الأصولي المعاصر عن طريق شرح ما دعا إليه سيد قطب.
إن محمد أسد الذي قال الموصللي إن الأصوليين قد تأثروا به، هو متأثر بعد إسلامه على نحو ما، بالإسلام الهندي وليس بالإسلام العربي. ذلك أن الإسلام العربي قبل منتصف القرن الماضي وبعده ليس فيه من التنظير ما يغريه ويضيف إليه شيئاً كمثقف معاصر، ولا تتوفر فيه تجربة سياسية، تجسد مشروعه المثالي بالحلم بدولة إسلامية أصولية معاصرة، وهي الدولة التي راهن على إمكانية قيامها في باكستان لا في السعودية! وهو كذلك في تحوله من إسلامية أصولية إلى إسلامية عقلانية متأثر بهذا التيار في الإسلام الهندي.
*نقلا عن “عكاظ”