من هو صاحب القول الفصل في جواز نشر النصوص الأدبية بعد رحيل أصحابها؟
رلى راشد
انطفأ جوزيه ساراماغو قبل زهاء عامين، في حين أن نصوصه لا تزال تتدفق علينا. قبل شهور عدة صدرت روايته “كوة السقف” في البرتغال والبرازيل واسبانيا، على ان تليها ترجمات في بلدان سواها. هو سمّى هذا النص غير المنشور كتابه التائه، بينما تبدّى تجربة ضيّعها عمداً. الرواية هي أحد تمارينه التأليفية الأولى التي قصّرت عن ارضاء ناشره، الذي نبذها، وساراماغو اسم يستدرّ الاعتراف، ثم عاد إليها وساراماغو هوية تقطف التهليل، لكن الكاتب طلب هذه المرة، ان تظلّ مخطوطا. رفض ساراماغو نشر روايته حيّاً، ليُصدرها ورثته بعد الغياب. فأيّ سلطة للكاتب على كتابه، وهل يؤدي تجاوز ارادته، الى النيل من جمالية منجزه؟
تغزر الأمثلة على كتّاب ارتأوا عدم نشر ثلة من عناوينهم في حياتهم او في اعقاب وفاتهم، ليتم تجاوز إرادتهم أحيانا. فهل النص ملك صاحبه، واين تنتهي موجبات هذه الملكية؟ شغل هذا النسق من التساؤلات، الروائية اللبنانية المقيمة في باريس نجوى بركات المكبّة على ترجمة “مفكرة” ألبر كامو الى العربية.
المفكرة كناية عن دفاتر نشرت بعد وفاة كامو وتشمل ملاحظات لا يتيسر فقه جزء منها أحيانا، في حين تولّت زوجته وناشره مراجعتها. هذا التجاسر، استوقف بركات عندما أدركت ان كامو أتم مراجعة اول جزء من مفكرته فحسب. لا يسع الكاتبة من هذا المنطلق سوى ان تنبذ الاستيلاء على نصوص غير معدّة للنشر، إلاّ إذا كانت نهائية. لتعود وتردف ان الرأي في هذا الشأن لا يعقل ان يكون بسيطا. لا يروقها ككاتبة ان يقترب أحدهم من أوراقها، بينما تعي انه يهمها كقارئة يحركها الفضول، أن تعرف المزيد في صدد نص غير منشور لكاتب يعنيها. تعتبر بركات النص ملكاً للكاتب، علماً ان مراجعته بعد انقضاء زمن على انجازه في موازاة توالي الطبعات، مسألة تتراءى ضرورية.
ثلاثة أنماط
تميّز مديرة “دار الآداب” رنا ادريس ثلاثة انماط من الكتابات المنشورة في أعقاب وفاة أصحابها. تبدأ اولاً من نصوص كتّاب كانوا في صدد اتمام أحد اعمالهم عندما فارقوا الحياة، على حين غرة. في هذه الحال، اذا كان العمل شبه مكتمل فإن الدار تحصل على إذن الورثة، ليتم الاجتماع بهم وانجاز التحرير النهائي للنص قبل إصداره. في حالات أخرى، يودع الكاتب دار النشر التي يتعامل معها وفق معيار الثقة، بعض النصوص لتصدر بعد وفاته، على ان يتم ذلك من دون الافصاح عن حيثيات الاتفاق الضمني بين الجانبين. في حالات أخرى، يطلب الكاتب نشر بعض نصوصه في اعقاب وفاة الزوجة، لأنها تتضمن معلومات شخصية لا يرغب في افشائها خشية جرح مشاعر شريكة عمره. تتعلق المسألة إجمالاً بامرأة ثانية او بمغامرات خاصة ترد أحيانا في سياق سيرة ذاتية او سيرة روائية. والحال ان في حوزة “دار الآداب” مخطوطين من هذا النوع.
في تجربة “دار الآداب” المديدة، أمثلة على نصوص نُشرت بعد وفاة أصحابها، من بينها يوميات سعدالله ونوس التي عثر عليها في أحد الأدراج ويتم اعدادها للنشر راهناً، بالتوافق مع الورثة. لا يسع إدريس الجزم في ما يتعلق برغبة ونوس لجهة اصدار هذه النصوص او لا، فيما تبوح ببعض مضامينها التي تمر بحرب 67 وتعرج على مواقف الكاتب المسرحي السياسية ومعاناته اليومية وتشمل رسائله الى بعض الأصدقاء أيضا.
تعطينا تجربة الكاتب التشيكي فرانز كافكا مثالا على أن التمرد على ارادته قد اغنى المكتبة الأدبية. ذلك ان صديقه ماكس برود تجاهل طلبه بتدمير كل منجزه، ولولا هذا العصيان لما بلغتنا “المحكمة” او “القصر”. ويسري هذا الواقع على “الأرواح الميتة” للروسي غوغل أيضا. هل يجب أن يكون اكتمال النص شرطا اساسيا عند اصدار اي عنوان غير معروف لكاتب راحل؟ نتذكر في هذا السياق الجلبة التي اثارها نشر “لا أريد لهذي القصيدة ان تنتهي” للشاعر محمود درويش في أعقاب وفاته، وكان المخطوط مسوّدة غير نهائية. تجد بركات ان من المستحيل أن يتفادى المرء ان يفكر كقارئ عندما تعني المسألة أشخاصا بحجم كافكا ونابوكوف وغوغول. لا مفر في رأيها، من الغرق في الإلتباسات عند الحاجة الى معاينة ارادة الكاتب في شأن نصه، في حين ترى انه يجوز اعتبار هذه الإرادة مقدسة كما يصلح تجاوزها، وان جنحت الكاتبة تلقائيا صوب الأخذ بنيّة الكاتب. تضيف ان بعض المحيطين به او ورثته ربما لا يتوانون أحيانا عن السطو على منجزه وتزويره، فيقتطعون اجزاء من نصه ويولّفونه بلا حسيب او رقيب. تضع بركات المسألة برمتها في اطار السؤال عن نزع حقوق المرء والاستيلاء على جهده غصباً عنه لمجرد وفاته. علما ان أي ردّ في هذا السياق، كما تزيد، قابل للنقاش إذا أخذنا في الحسبان ان انصياع صديق كافكا لرغبته كان ليلحق بنا خسارة فادحة!
لا تظن ادريس أن اكتمال النص شرط اساسي عند اصدار اي عنوان غير منشور لكاتب راحل. تستبقي قيمته الأدبية والإبداعية فقط، مشيرة الى ان الاسم المكرس ليس ضماناً كافياً. تضيف ان هذا النوع من النصوص يخضع كما سواه للجنة الكتابية في “دار الآداب” وتنطبق عليه المعايير عينها تاليا. تلفت الى ان مذكرات الشخصيات الفكرية والأدبية مصدر جذب للقارئ، وإن جاءت غير مكتملة، اما الرواية فمسألة مختلفة. لا تمانع “دار الآداب” نشر رواية غير منتهية، على ان يتم التأكد من معاييرها الابداعية ومنسوب الجدّة في لغتها، واكتمال الحبكة.
النقاش المحتدم
كان منجز الروسي نابوكوف الأدبي بمثابة دراسة هجست بأخطار التحكم الكلّي باللغة. والحال ان نشر روايته غير المنتهية، “لورا الأصلية”، بعد وفاته، وكانت كناية عن شذرات متباعدة، أثارت نقاشا محتدما، لأنها أظهرت كاتبا سقيما فقد السيطرة الواعية على أدواته السردية. لكن هل يروق القارئ ان يدخل آلة الإبتكار، وان يتلصص على الكاتب وهو منصرف الى العمل؟ تعتقد بركات أن استخدام تعبير “التلصص” مناسب تماما لأنه يتعذر ان يكون التلصص إيجابيا. لا ترى أن القارئ غير المتخصص، يتوقف عند الحالات التي يختبرها نص يكتمل في دفعات وسط مخاض عسير. أحيانا يتجه الكاتب جنوبا ليجد نفسه منجرفا شمالا في المحصلة. تُذكّرنا بتبجّح الكونت دو مونتالك بتأنّيه وحديثه عن مشقة تبديل فاصلة في نصه، قبل ان يكشف ناشره دوره المحوري في إجبار الكاتب على تشذيب نصه دافعا به الى الاختزال. لم يبدّل هذا التصريح رأي بركات في الكاتب في حين تعدّه كلاما فائضا، لأن مراجعة النص من البديهيات، ولو لم يحظَ بموافقة الكاتب لما بلغ النص صيغته النهائية. لتزيد: “هذه تفاصيل، اشبه بحشو” لأن قيمة النص في بواطنه.
هل يجوز؟
هل يجوز التعاطي مع نص غير مكتمل من منطلق انه لا يستقيم سوى في شوائبه، وان فسحات الصمت الإرادية او غير الارادية تمنح شذرات نص معين قوة انفعالية مدهشة؟ هل يصير النص غير المنتهي لا نهائيا، مفتوحا على التأويلات؟ هل يصبح اصدار عمل لا يرضي صاحبه، مغامرة من شأنها أن تؤذي إرث الكاتب؟ لا تذهب بركات في حكمها على هذه المسألة الى هذا الحد. تلفت الى اننا نقرأ رواية النمسوي ريمون موزيل “رجل من دون إيجابيات”، ونعجب بها الى حد الانبهار، في حين لا يحثنا الإطلاع على نص آخر له، وإن يكن أدنى شأنا، على تبديل رأينا في مكانته. تظن ادريس انه لا يفترض، على المستويين المعنوي والاخلاقي، ان يُنشَر عمل تأليفي يقزّم صاحبه.
تشير الى أن “دار الآداب” تواجه الكاتب، وإن مكرسا، بهذه الحقيقة، عندما تعتبر أن من شأن احد النصوص ان يسيء الى رصيده، فتطلب منه اعادة كتابته. والحال انه يتم اعتماد المقاربة عينها إزاء نصوص الكتّاب الراحلين، ولا يتم استبقاء سوى الجدير منها.