من وحي فيلم “خطوة.. خطوة”: صناعة الجلاد ومصير نبوءة أسامة محمد قبل ثلث قرن
رستم محمود
صوت خافت من خلف الكاميرا يأتي، ليسأل ذلك اليافع الريفي الذي تطوع حديثاً في الكلية الحربية: “لو افترضنا أنو في حدا من عائلتك عارض الدولة أو السطلة أو المسؤولين، شو بتساوي؟؟”. يرد اليافع: “طبعاً ما بقبل، كيف يعني يعترض!!، معقول!” ليعيد الصوت الخافت السؤال بأسلوب أكثر وضوحاً وتحديداً للمفارقة: “يعني بتهجم عأهلك لو قالولك أهجم!!” يرد اليافع بضمير مستريح واتساق عقلي تام: “طبعاً طبعاً بهجم، شو ما كان، الأمر العسكري لما بيجي، لازم ننفذوا بالضبط ومن دون تردد”.
الغريب، أن ذلك الحوار ليس تناصاً من راهن الكلام السوري، بل جزء يسير، من الديالكتيك الذهني والسرد البصري الذي يرويه المخرج السوري أسامة محمد في فيلمه التوثيقي “خطوة.. خطوة” الذي صوّره عام 1976 -1977 في قريته “الرامة” في ريف الساحل السوري. فأسامة محمد الذي مُنع في ذلك العام، من السفر إلى مخيم “تل الزعتر” الفلسطيني الذي كانت تحاصره القوات السورية، حيث كان يرغب بتصوير حقيقة مشاركة صديق طفولته، الذي كان أحد الجنود المحاصرين لذلك المخيم. حيث قادته الأقدار لقرية هذا الجندي/الصديق المحاصِر، قرية أسامة محمد نفسها، لرصد أسئلة هذه البيئة الإنسانية التي أنتجت وحولت في الهوية “الروحية” لهذا “الصديق” والكثيرين من أمثاله. فمن تلك البيئة وعنها وعن ناسها، طرح اسامة محمد أسئلته/فيلمه (خطوة.. خطوة). إذ لماذا، وكيف يمكن لفضاء من الحرمان والعنف والعزلة والألم أن يُنتج هذا الكائن القادر على الإطاعة لآخر درجاتها، والقابل للتكوين بكل أشكاله. حتى كقاتل للأقربين من بني عائلته الكبرى والصغرى نفسها.
أسئلة أسامة محمد تبدو أكثر حضوراً وإلحاحياً في الراهن السوري، بالرغم من مرور ثلث قرن على طرحها الأول. فاليوم، ما أكثر هذه المخلوقات السورية القابلة لفعل أي شيء، وبحق أي كان!!. لماذا تستطيع نبوءة أن تبقى صحيحة وحقيقية لمدة ثلث قرن كامل؟ أي روتين وركود وجفاف أصاب بلاد النبوءة؟ وكأن هذه “المخلوقات” الطيعة القادرة على فعل كل شيء، مستمرة الاستيلاد منذ ذلك الحين، وحتى الراهن المعاش. ليبقى السؤال الأصعب: أين ستمضي هذه البلاد التي استمرت لثلث قرن تنتج هذه الحقيقة القاسية، حقيقة قدرته على إنتاج هذه الكائنات.
ثمة دائرة مغلقة، تبدو حتمية في ما يخص هذا الشأن. إذ يتقصد النظام غير الشرعي، في تكوين بنية أجهزته، إنتاج أعضاء من دون مخيلة ومن دون ذات، ليكون هؤلاء بالغي الطوعية من دون اعتراض أو تساؤل. هذا بدوره يتطلب أن يستقدمهم من خارج دائرة الفعل الاجتماعي، ويمارس معهم لعبة الإغراء، الإطاعة مقابل الحضور والاندراج في هذا الفعل الاجتماعي. تمنحهم الاعتراف الاجتماعي المرتبط بها وبسببها، اعتراف وحضور نابع بانتماء وولاء هؤلاء لهذه السلطة ومؤسساتها وأجهزتها. الشيء الذي يعني بالمقابل، قدرة السلطة الدائمة والفاعلة على سحب ذلك الاعتراف في اللحظة التي ترتئيها، تلك اللحظة المترافقة لتمرد هؤلاء ورفضهم إنتاج الممارسات المطلوبة منهم. هذه الدائرة المغلقة التي لا تقف في مقام ومستوى واحد، بل تتعمق وتتوسع مع التراكم الزمني، فمزيد من الاعتراف يستوجب مزيداً من التورط والتبني والتماهي مع تلك الأجهزة وأفعالها في المجتمع. ومن طرف آخر، فإن تلك الدائرة تستجوب من السلطة مزيداً من أنتاج تلك البيئات المهمشة المزدحمة بعديمي المخيلة والذات، لتستطيع دوماً رفد أجهزتها بمزيد من هؤلاء. هذه المعادلة التي تفرز مزيداً حتمياً من التناقض بين أجهزة السلطة وقاعدة المجتمع الأوسع.
لا يبدو ذلك كافياً في الحالة السورية. فصحة ذلك التفسير “المادي” القائم على تحليل البنية التحتية للمجتمع والسلطة، لا يعني كفايته. فكما كانت السلطات الشمولية الاستبدادية عرفاً – بحاجة لذلك الشرط، فإنها تقليدياً، كانت تنتج مستوى مرتفعاً من خلق التناقض الثقافي والروحي والسياسي والهوياتي بين الجلادين وضحاياهم، تناقض يسمح لهؤلاء الجلادين باتساق نفسي وأخلاقي لممارسة أفعالهم القاسية، تناقض يسمح لهم بإضفاء سمات الشرّ المطلق على الضحايا، وخلق هالات الآخر وخيالاته حولهم. شيء مما وسم به النازيون اليهود، أو الأتراك الأرمن واليونان، أو هو شبيه بالخطابات السياسية البعثية العراقية حول الأكراد أو الفرس، أمر يؤدي في النهاية إلى اكتساب الجلاد القدرة على سلب الصفة الإنسانية من بنية الضحايا.
منبع الذهول، أنه لا شيء تقريباً من كل ذلك في الحالة السورية الراهنة. فالجلادون والضحايا من أرومة ثقافية ودينية وقومية ونفسية ومذهبية، وحتى اقتصادية وبيئية واحدة. أو بقول آخر، الجلادون متنوعون وموزعون على كل ذلك الطيف، وكذلك الضحايا، لا تناقض جوهري بينهم ولا شقاق تام في الذاكرة والتاريخ. فلا بنية النظام تستقيم على هوية طائفية أو مذهبية أو مناطقية واحدة وواضحة، وكذلك هي طبيعة المنتفضين/الضحايا. كما أن الخطاب الشعبوي الطبقي الذي كان للنظام والذي قام عليه تاريخياً، لم يعد يعتد به، إن لم يكن على تباين تام معه فعلياً. فجلادو اليوم، ليس كما ظهروا في فيلم اسامة محمد، يتحدرون من بيئات مهمشة ومحرومة ومعنفة فحسب. فإن كان بعضهم كذلك، فإن أكثرهم وأشدهم قسوة، يتحدرون من مركز الإنتاج وصناعة القرار، هؤلاء المصنفون بجيل الأبناء من المؤسسين للنظام وأجهزته.
ما لا يردع الجلادين الجدد في الحاضر السوري عن ممارسة أفعالهم بحق ضحاياهم، هو المستوى العميق من إحساسهم ووعيهم بانتمائهم لهذه السلطة المركّزة. هذا الإحساس والوعي الذي يكاد أن يصل لدرجة الهوية، الهوية الوحيدة لهم. ففي سهوب الجفاف التي لفت البلاد لعقود، لم يعِ الكثير من هؤلاء أنفسهم ومعناهم واعتبارهم لأنفسهم إلا بالتماهي الحاد والكلي مع هذا الشبح الممتد المسمى “السلطة الحاكمة” المندرجة والمتغولة في كافة تفاصيل الحياة العامة واليومية للعوام. تحول ذلك الانتماء والتماهي لسلطة عليا في أرواحهم، لا بديل عنها ولا يستطيعون الفكاك منها، باتت السلطة أناهم وذاتهم وسيميائهم الوحيدة. لا شيء يجمعهم بمن يتناقض ويرفض هذه السلطة ويعترض عليها.
قبل ثلث قرن لم يُصغٍ أحد لنبوءة أسامة محمد. كان النظام غارقاً في تغوله الإقليمي ليحمي تناقضاته الداخلية. جفف النظام البلاد، وحظر كل الحساسيات العالية كحساسيات أسامة محمد. فقدت البلاد عقلها الأعلى، وقست روحها. على ضفاف ذلك أستولد النظام جيلاً متماهياً معه وغارقاً في لعبته، جيلاً كان في الأساس عجينة من البسطاء المهمشين، كما ظهروا في فيلم أسامة محمد. الجيل الجديد من القساة، يكاد أن يكون شعباً آخر، متخالف تماماً مع شعب “العوام”. شعب قاسٍ قادر على فعل أي شيء بحق الشعب الآخر في سبيل الحفاظ على نفسه ومكانته واعتباره.
ما يحتاجه شعب سوريا القاسي هو الدفء، وما يليق بشعب سوريا الكبير هو الغفران.
المستقبل