من يريد تقسيم سوريا؟/ غازي دحمان
على وقع الهزائم التي تلحق بقوات نظام الأسد في أكثر من جبهة على أرض سوريا، وفي ظل عجز حلفائه عن وقف حال التدهور التي أصابت جسد النظام، تزدهر، في سماء البلاد وفي كواليس اللقاءات في بعض العواصم الإقليمية والدولية، فكرة تقسيم سوريا على أسس طائفية وعرقية، بوصفها أحد المخارج العملية لحل أزمة البلاد، الطويلة والمعقدة.
أصحاب الفكرة، ورعاتها المستقبليون، ينطلقون من قناعة أنّها الحل الأكثر واقعية وعملانية، انطلاقاً من فرضية أنّ الخلاف بين مؤيدي الثورة ونظرائهم مؤيدي النظام ليس خلافاً سياسياً عابراً، بقدر ما هو تعبير عن حال خلاف عامة تشمل الثقافة والتوجهات السياسية والعقائد واسلوب الحياة، ودليلهم على ذلك حال الانفصال الواضحة بين الأقليات والأكثرية في البلاد، وتوجه حال الانفصال هذه إلى التكرس ضمن جغرافيات محددة، تتبلور شيئاً فشيئاً خطوط تماسها، باعتبارها خطوط حدود كيانات الإقليم المقبلة، حتى وإن تأخر إعلان ولادتها بشكل رسمي.
ومن أجل تدعيم هذا الرأي، يذهب مؤيدوه إلى الزعم بأن المكونات السورية لم تكن يوماً في حال انسجام وتوائم، بدليل أنّ النسيج الوطني السوري لم يكن مصاغاً بدقة، إلى درجة تجعله يتحمل الاهتزازات التي قد تلحق به، وأنه عند هبوب أول أزمة تفككت قطعه وذهبت كل واحدة باتجاه الريح التي تلائمها. ثم أن السوريين ليسوا غرباء عن فكرة التقسيم التي عاينوها وعاشوها، ولم يذكر التاريخ أن أحداً اعترض على قيام فرنسا بتقسيم سوريا الى خمس دول، فقط مصالح الدول الكبرى في حينه هي التي ألغت المشروع وأعادت سوريا دولة موحدة.
حسناً، هذه جملة من الذرائع، وغيرها الكثير الذي يمكن توظيفه، في سياق دعم فكرة الذهاب إلى التقسيم. من يسعى للسير بهذا الاتجاه لن يعجز عن توظيف حتى الطرائف التي يطلقها سكان كل منطقة على نظرائهم في الوطن، ثم أن الكيانات المعاصرة كلها تنطوي على خصائص إجتماعية متنوعة وتعدديات ثقافية ودينية واسعة وحتى تباينات عرقية، ولا تشكل تلك مسوغات لمطالب إنفصالية إلا في حالات محددة، كان يقف وراءها التمييز والظلم الذي تتعرض له مكونات معينة على المستوى الوطني.
لماذا؟ لأن شروط تأسيس الكيانات وصيرورة تطورها وضمان استمرارها مسألة أعقد من أن تتم وفقا لاعتبارات عاطفية، بل هي تخضع لحسابات عقلانية تدخل في إطارها المصالح الاقتصادية والواقع الجغرافي للكيان وحدود التداخل والتخارج مع الأقاليم الأخرى، ولا يعني ذلك عدم حصول عمليات فصل ذات طابع مغامر، وتتحدى كل معايير انشاء الكيانات الواقعية وتصنع عنوة مسارات خاصة بها، لكن هذه التجارب إما أن لا يطول بقاؤها كثيرا على هذه الحالة، ولا تلبث أن تجبرها الظروف على العودة للبحث عن صيغة جديدة للوصل والتواصل، أو أنها تبقى في وضعية العجز والتشوه من دون القدرة على تجاوزه، بدءاً من قدرتها على تظهير هويتها الخاصة وصولاً الى عجزها عن تطوير أوضاعها السياسية والاقتصادية.
ولا تخرج سوريا عن هذا التوصيف كونها إقليماً جغرافياً تتداخل ديموغرافيته بشكل معقد، وتمتزج مكوناته في إطار ثقافي وهوياتي واحد رغم إختلاف بعض التفاصيل الصغيرة. وحتى في المجال السياسي، ثمة فارق كبير بين تأييد طرف ما في الصراع وبين تأييد فكرة الانفصال. والحال أن السوريين وقعوا ضحية الافتقار لمشاريع سياسية تخرجهم من الأزمة أكثر من انشدادهم للانفصال وتأييده.
من يريد التقسيم إذاً؟
حتى اللحظة، ثمة طرفان لهما مصلحة أكيدة ويدفعان صوب هذا التوجه:
الدائرة الصلبة في نظام الأسد، وكل الدوائر الشريكة والرديفة في صناعة القرار داخل النظام. والسبب أنها تدرك بأن لا طوق نجاة لها إلا بالذهاب إلى التقسيم، بعد ما ارتكبته من مجازر وصنعته من دمار. وكانت تعتقد طوال المرحلة السابقة أن ما تفعله هو نمط من إدارة للأزمة، التي ستنتهي بإعلان انتصارها على المؤامرة، وسيقبل العالم مرغماً بهذا الواقع ويتعايش معه وينتهي كل شيء، غير أن استمرار الثورة وتأكل قدرات النظام وتأكد جماعته من عدم القدرة على تعديل الأوضاع لصالحها، يجعل أمامها خيار التقسيم مخرجا وحيدا. فهو من ناحية يعيد توصيف الأزمة على أنها «حرب أهلية«، تتساوى فيها كل الأطراف في المسؤولية ويصبح التقسيم أحد مخارجها. ومن جهة ثانية، يمكنها وضع اللوم على السوريين الثائرين عليها. فهي لم تذهب للتقسيم بل «انسحبت تكتيكياً من مناطق معينة، للدفاع عن بقية سوريا في وجه المؤامرة«، و«من أجل إعادة تجميع القوة لاستعادة سوريا المنفصلة«. وستعيش مع هذه السردية السنوات الكافية لنسيان جرائمها وارتكاباتها.
«داعش« الذي يفضل السيطرة على مجتمع ينسجم معه دينياً لاعتقاده انه يشكل بيئة مناسبة لنمو دولته وتوطين سلطته، كما يمنحه شرعية سيحتاج مستقبلاً له، يعطي دولته صفة الأمر الواقع مقابل كيانات ذات هوية دينية، ستتشكل حكماً جراء عملية الفصل، وبالنسبة لـ«داعش« يشكل التقسيم فرصة مناسبة لاندماجه في المنظومة الدولية، كطرف ممثل عن السكان السنّة، في المناطق التي يسيطر عليها، ومقدمة لضم مناطق جديدة من دول الجوار انطلاقاً من القاعدة ذاتها.
على ذلك، فإن الجغرافيا والوطنية السوريتين أمام تحدي طرفَين، يقتنصانهما ويشكلان عاملاً طارداً لوحدة سوريا والسوريين، وينغمس هذان الطرفان في نسج هواجس ومخاوف السوريين، عبر تصديرهما أحوال اللبس والشك، تطال كل المشتركات وتسعى إلى تدمير الأسس التي قام عليها الاجتماع السوري.
المستقبل