حسين جموصفحات سورية

من يصنع «البرواز الانفصالي» للكرد في سوريا؟


تفادياً لفخ التوظيف السياسي ولعنة الجغرافية

حسين جمو

تعاظم دور الإعلام في السنوات الأخيرة إلى حد أصبح انه أداة التشكيل الأقوى، لمسألة الهوية، ومساراتها السياسية، الحقيقية والمزيّفة. مناسبة هذا القول هو الضخ الإعلامي «المشبوه» لقضية الكرد السوريين، والتنبؤات التي يتم تقديمها إعلامياً بصورة وكأنها «حتمية» – أو على الأقل ممكنة – الحدوث.

ولدى الوقوف على الانعطافات الحادة التي مرت بها الثورة السورية، مذ كانت تظاهرات سلمية وحتى تحولها إلى جبهة حرب حقيقية، نجد أن الكرد السوريين قد حافظوا على خط الثورة الأول – السلمي -، وساهم في ذلك عدة عوامل، ومنها رغبة النظام في تشكل هذه الصورة عن الكرد: مسالمين في حراكهم، ومسلحين ليس ضده. لكن هذه الصورة بدأت تأخذ منحى آخر منذ الانسحاب الجزئي «الغامض» للنظام من بعض الدوائر الرسمية الادارية في عدة مدن وبلدات كردية. شخصياً، أنا كافر بنظرية المؤامرة المطلقة التي تتغذى على مظلوميات تاريخية، بعضها حقيقي وبعضها الآخر مختلق، لملء الفراغ التحريضي الجمعي، لكن لا يمكنني القفز على مسألة تلاقي خيوط متناقضة في نقطة لا يُفهم منها إلا كمحاولة لصنع «برواز» إعلامي لصورة الكرد في سوريا، وهي صورة معروضة على «الآخرين» وليست للذكرى. والذين يصنعون هذا البرواز هم أنفسهم يلتقطون الصور!

وتلاقت وسائل الإعلام العربية المؤيدة للثورة والمعارضة لها، مع مراكز صناعة الرأي والدراسات المرموقة (معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى مثالاً) مع وسائل الإعلام التركية مع إنطباعات الإعلام الغربي (السطحية قصداً) على الترويج لمقولة توجه الكرد السوريين نحو تشكيل إقليم كردي على غرار إقليم كردستان العراق، مستندين إلى الحركة الغامضة للنظام بإخلاء بعض المباني الادارية في المناطق الكردية. وقال وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو إنه ليس لدى تركيا مانع في إقامة حكم ذاتي للكرد السوريين، لكن بشرط ان يتم ذلك بناء على توافق دستوري بين السوريين جميعاً في مرحلة ما بعد الأسد.

وبعيداً عن الديناميات المحلية، فإن الاهتمام الدولي والاقليمي المنقطع النظير بالكرد ليس بعيداً عن المصالح الاقتصادية، والحديث المبالغ حول دور الكرد السياسي إقليمياً، ليس إلا تغطية على المصالح الاقتصادية المحتملة، فبعد سقوط النظام ستكون سوريا ضعيفة ومترنحة لفترة من الزمن، وشركات النفط في المناطق الكردية تحتاج إلى ضخ البترول وحماية الآبار، وقد تفكر تركيا في مشروع لربط أنابيب بترول سوريا بأنبوب نفط كركوك – جيهان، فضلاً عن الثروة الزراعية للمنطقة، وفي منطقة عفرين بريف حلب يتم التداول أن المنطقة تقيم على ثروة هائلة من الحديد، سيحتاج المستثمرون المستقبليون فيها إلى الحماية الأمنية، ليباشروا عملهم، حتى لو كانت الاضطرابات تهز سوريا ما بعد الأسد. وقد يرى الروس في الكرد طرفاً مناسباً للتحالف مع العلويين في مطلب سياسي غير قابل للتحقق، وهو الفيدرالية، بهدف تشتيت القوى السنية التي قد تكون مستعدة لمنع فيدرالية أو كيان ما للعلويين، على أكثر من جبهة. فالتوظيف السياسي للكرد من أي جهة دولية كانت، ستعيد إلى الذاكرة مآسي كردية مؤلمة في العراق وتركيا وإيران.

ليس لدي أي دليل على أن تلاقي المتناقضات السابقة هي محض صدفة، ومما ساهم في تسهيل صناعة «البرواز الانفصالي» هي الأشكال التي تجمعها هذه الدوائر المذكورة من رموز كردية لوضعها في البرواز الانفصالي، حيث لدينا أولاً علم كردستان الذي لم يكن ليثير مخاوف شركاء الوطن، إذا لم يدفع بعض الكرد أنفسهم إلى أن ينقلب علم كردستان على علم الاستقلال (الثورة). ولدينا حزب الاتحاد الديمقراطي – حليف حزب العمال الكردستاني-، حيث يرفع أنصاره في كل تظاهرة أو مسيرة مئات الصور للزعيم الكردي الأسير عبد الله أوجلان، وهذه الظاهرة المتضخمة بهدف إبقاء المسكوت عنه مسكوتاً، تشرح صدور صنّاع «البرواز الانفصالي». وهنالك اللافتات التي يرفعها مراهقون وتصل إلى وسائل الإعلام كصورة نقية صالحة للنشر، ومنها مثلاً لافتة : «الدولة الكردية حق مشروع للشعب الكردي» والتي رفعها مراهق لا يتجاوز عمره الـ12 عاماً، وكذلك بالنسبة للافتات التي تخدم «البرواز الانفصالي» الذي يصنعه لنا خليط من الأعداء والأصدقاء إضافة إلى الذين يفترض أن لا شأن لهم بنا!. هذه العوامل المساعدة يضاف إليها سيل من التصريحات المتناقضة لزعماء أحزاب، مثل مطالبتهم «بحق تقرير المصير ضمن وحدة سوريا!».

كل هذا تم تتويجه بخارطة جغرافية غير حقيقية لـ»كردستان سوريا» تتداولها وسائل الاعلام الكردية والعربية والأجنبية، حيث يضم اللون المتمايز لـ»كردستان سوريا» عن لون الخارطة السورية مناطقة واسعة هي في الحقيقة ضعف المناطق الكردية إن لم يكن أكثر، وتبتلع معها مناطق عربية صرفة مثل مدن وبلدات في شمال حلب والمنطقة الممتدة من راس العين (سري كانيه) إلى كوباني ثم الهجوم (بالفوتوشوب) على مدينة الحسكة لتتخطاها إلى جنوبها التي يصح وصفها بـ»عربستانّ». هكذا تحول المتخيل القومي الكردي إلى فانتازيا لها سدنتها ومريدوها، وخصوصاً عند ذلك الجيل الذي لم يزر بعد أي منطقة كردية خارج بلدته أو مدينته ليرى واقعه الجغرافي الحقيقي.

لقد دخل الكرد في حسابات قوى إقلمية ودولية، وأي خطأ في قراءة دورهم سيكون مكلفاً جداً، وقد يصبح التعايش القومي في المنطقة الأكثر تنوعاً في سوريا مجرد ذكرى يعود فيها الفضل للدكتاتور الذي يغرق سوريا في الدماء. ولتجنب ذلك، فإن على تيار الاخوان المسلمين الكف عن لعب دور مختار تركيا في سوريا والعمل بخبث على إبعاد الكرد عن معركة الشعب ضد النظام، وعلى الكرد أيضاً توسيع ورقة مطالبهم بحيث تشمل الهم السوري العام، فإلى الآن لا يوجد أي حزب كردي طرح تصوراً لسوريا تستفيد منه الأطراف السورية الأخرى عدا المطالب القومية الصرفة، بينما من الممكن أن يكونوا قادة للتيار العلماني في سوريا المستقبل ويكونوا المركز البشري للكتلة الليبرالية المتناثرة في عموم البلاد بدلاً من تغاضيهم عن شعارات قومية غير واقعية وتؤسس لحالة صِدامية غير مجدية.

إن الهدف من «البرواز» المعقّد الذي تشكل من العوامل السابقة هو صنع وهمٍ كبير ووضعه على أكتاف الكرد والقول له ذاك الحديث الذي يقوله الكبار للصغار: «أنت بطل.. لا تستسلم.. امضِ في دربك يا بني». وهذا ما سيؤدي بالكرد السوريين إلى أن يكسروا كتفيهم وظهرهم تحت وطأة حملهم لثقل أكبر من طاقتهم وواقعهم، قبل أن تتم إحالتهم إلى التقاعد من قبل صنّاع الفخ (البرواز).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى