من يصنع الثورة؟
طريف الخياط.
يبتكر النظام السوري أساليبا للموت، و يبتكر الشباب السوري أساليبا لصنع الحياة، يتعثر النظام و يتعثرون…
يشكل الشباب مادة رئيسية و حاملا بشريا للثورات، و تقاس قابلية أي بلد للثورة بجملة من الظروف السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية المتردية، لكن تضافر تلك العوامل لا يشعل ثورة بغياب العنصر الشبابي. المفارقة أن الثورة السورية بدأها طفل، فكانت حادثة أطفال درعا الشهيرة و كتاباتهم على الجدران، و رد فعل النظام تجاهها، ما أيقظ في النفوس ثورة، فحملها شباب، و شارك فيها رجال و كهول، أرادوا أن ينفضوا عن كاهلهم ظل عقود من الخنوع و الخوف.
الملفت في الثورة السورية، أنها ثورة جيل كان يلقن مع فطوره كل صباح، عبارات التحذير من الحديث في السياسة و الاعتراض على السلطة و ممارساتها. لم يقتل ذلك الجيل أباه حسب التعبير النفسي الفرويدي أو ربما قتل الأب الذي استطاع أن يقتله، فبدا و كأنه قد قبل بحياة رتيبة، تمخضت عنها رغبة ملحة و عارمة بالهجرة خارج الوطن، الذي بدت الآفاق الاقتصادية فيه مسدودة و احترام المواطن فيه غائبا مغيبا. و لعل من أهم دوافع السفر التي يجتمع فيها العاملين السابقين معا، هو التهرب من الخدمة العسكرية الإلزامية، و لعل لهذا التهرب مصحوبا بالرغبة في الهروب خارج البلاد، رمزية تشير إلى خلل في الانتماء إلى الوطن، سببه خلل في تعامل أجهزة الدولة مع المواطنين، إذ كانوا رعايا تفرض عليهم طقوس الطاعة و الولاء، عدا عن كون خدمة العلم بحد ذاتها، حسب النظرة الشعبية، فعالية لتحطيم الشخصية و إذلال النفوس و امتهان الكرامة الإنسانية، أي بمعنى أنها كانت قد فرغت من غرضها الرئيس في تأهيل جيش يدافع عن وطن.
بدا الجيل الشاب في نظر الآباء جيلا مفرغا من أي وعي ثقافي و سياسي،عبثيا و فاقدا للطموح، و هو ما نفته و أكدته الثورة في آن معا. فمن جهة، استطاعت الثورة أن تحفز كما من الطاقات و المواهب، لم تكن لتظهر في ظل نظام الفكر الواحد و الرأي الواحد و القرار الواحد، فلمع من الشباب، كتاب الثورة و شعراء الثورة و رسامو الثورة و مطربو الثورة، و ظهرت نشاطات تحتاج عملا جماعيا منظما، كصحف الثورة و إذاعات الثورة و الأفلام الكرتونية الخاصة بالثورة، عدا عن مبدعين تميزوا بحسهم النقدي الساخر عبر صفحات فيسبوكية معارضة للنظام، و مشاريع شهداء و شهداء ممن قرروا حمل كاميراتهم لنقل ما يحدث في سوريا إلى العالم. و من جهة أخرى، كشفت الثورة افتقار شريحة من جيل الشباب، لوعي كاف بقيم المواطنة و الحريات و الحقوق، فكان من السهل أن يتلاعب بهم النظام و يسخرهم كأدوات قتل في حالة المؤيدين، و مشاريع متطرفين في حالة الثوار، و ذلك دون أن يغيب عنا دور عنف النظام وممارساته الوحشية ذات الصيغة الطائفية التي تعمد إظهارها، في دفع الأخيرة إلى أحضان التطرف، و في دفع الأولى نحو أجندته. و هنا يبرز دور الطموح الغائب، و الذي تحول بعد سني القمع ثم التحرر من القمع، إلى طموح عارم للسيطرة و استعراض للقوة مع تقدم مراحل الثورة، و في ظل غياب هوية وطنية جامعة، وجد المؤيدون أنفسهم في دفاع عن السيطرة و المعارضون في محاولة لاكتسابها، فتشكل مفهوم جديد إقصائي، قد يدفع أكثر نحو الابتعاد عن قيم الدولة المدنية.
من ناحية إيجابية، فإن الثورة منحت شريحة كبيرة من الشباب فرصة لاستعادة الانتماء للوطن، فانخرطوا في الثورة كليا أو جزئيا، مقيمين في الداخل أو مغتربين، إلا أن الاستعادة المفاجئة لذلك المعنى، و ضعف الوعي، و فوضى السلاح، و الانقسام بين مؤيد و معارض الذي أخذ منحى طائفيا، جعل من الانتماء بحد ذاته غير محدد المعالم و الأهداف، بما يبقيه عرضة لارتكاسات منشأها رصيد من القمع و الاضطهاد، سواء لمن مارسه أو لمن مورس عليه.
في أجواء العنف و العنف المضاد يصعب على الشعوب الاحتكام لصوت العقل، الذي يحذر من تكرار تجربتي العراق و لبنان و ربما تجارب أخرى أكثر سوءا، و يضع الحالة العامة رهن إنهاك الطرفين أو أحدهما. و مع التوقعات، التي تشير إلى أن الاحتراب الحالي لن ينتهي بمجرد سقوط النظام، إذ أن الشرخ الاجتماعي الحاصل سيبقى حاضرا لأمد غير معروف، و بأبعاد و مآلات غير معروفة، تستثار مزيد من المخاوف، حول كيفية التطور الذي سينحو باتجاهه بعض من جيل الثورة، الثائر و المؤيد معا، و إلى أي مصير سيقودون البلاد.
لعل ذلك هو المشهد الأسوأ في تصور المستقبل، و من غير العقلاني أن يكون التوصيف السابق حالة عمومية لجيل بأكمله، إلا أن استمرار الصراع يتطلب انخراطا جزئيا فقط في ملحمة الموت. و يبقى السؤال، هل سنسمع مرة أخرى صوت الشباب الأوائل، الذي صرخ عاليا “واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد”؟… لقد هزت تلك الصرخة عرش الأسد و صدعت جدران قصره، الذي ما لبثت أن رممته دعوات و عبارات أخرى.
خاص بصفحات سورية.