صفحات العالم

من يفجِّر الحرب الطائفية في سوريا؟


أمجد ناصر

الطائفية في العالم العربي (بما هي من تعصّب وفتنة واحتراب) ليست مجرد فزَّاعة يلوح بها بعض أنظمة الاستبداد لمقاومة رياح التغيير، ولكنها، في الوقت نفسه، ليست حقيقة خالدة وأبدية.

قد يكون لبنان، المكوَّن أساساً من طوائف، هو أول من اختبر الصراع الطائفي، وليس العراق، على ما يبدو، آخر بلد عربي تُنفخُ في كيره ريح الطائفية السوداء.

هل من مثال عربي ثالث؟

حتى الآن: كلا.

ولكن هناك من يرشح سوريا إلى مصير مماثل لما عرفه العراق بعد سقوط نظام صدام حسين.

السؤال الذي يُطرح والحال: ما هي حقيقة “المسألة الطائفية” في سوريا، وهل يقوم النظام هناك على أسس طائفية أمّنت بقاءه الطويل في الحكم؟

هذا هو موضوعي اليوم.

فقبل انطلاق الانتفاضة السورية الراهنة على نظام بشار الأسد لم يكن هناك، على مستوى الخطابات العلنية المتداولة، من يتحدث عن الطائفية في سوريا. قد يكون هناك “كلام” في الشارع السوري، أقرب إلى الهمس، عن “السيطرة العلوية” على الحكم ولكن من دون أن يتحول ذلك “الهمس” (الخطر بطبيعته) إلى خطاب سياسي معلن، أو حتى مضمر، لأي من القوى السياسية السورية بمن في ذلك، حسب معرفتي، “الإخوان المسلمون” الذين قد يغريهم خطاب سهل  واستقطابي كهذا. لا معارضو النظام السوري كانوا يجهرون بخطاب طائفي ولا مؤيدوه، بطبيعة الحال، يفعلون.

الكتابات شبه الوحيدة، التي تدأب على التذكير بـ”الأقلية العلوية” الحاكمة في سوريا سطَّرها، عموماً، كتَّاب أجانب. لكني لا أعرف كتابة سورية، ذات وزن، وصفت النظام السوري بـ”العلوي” رغم أن آخر ثلاثة رجال حكموا سوريا، مباشرة أو غير مباشرة، كانوا يتحدَّرون من الطائفة العلوية وهم: صلاح جديد (رجل انقلاب عام 1966 القوي) والرئيسان حافظ الأسد وبشار الأسد، إلى جانب شخصيات أخرى نافذة في نظامي صلاح جديد والأسدين.

كان من الصعب وصف فترة حكم صلاح جديد ورفاقه الذين قادوا انقلاب عام 1966 ضد الرئيس البعثي أمين الحافظ بأي نعت طائفي، رغم أن شخصيات قوية في ذلك الانقلاب تتحدَّر من الطائفة العلوية، فـ”عصبية” حكم صلاح جديد ورفاقه قامت، بقوة، على ما هو أيديولوجي وسياسي: القومية العربية التي راحت تقترب، أكثر فأكثر، من النظرية الماركسية.

القومية العربية بدت في ظل فترة حكم صلاح جديد – نور الدين الأتاسي أقوى من أي اعتبار آخر، وبناء النظام الاشتراكي والتصدي، في آن، للمشروع الصهيوني ظهرا على ما عداهما في خطابات ذلك العهد قصير الأجل. لكن ذلك لم يكن شأن حافظ الأسد الذي انقلب على رفاقه (جماعة صلاح جديد) لأسباب بدت، للمفارقة، أيديولوجية وسياسية أيضاً: كبح جماح التطرف اليساري لصلاح جديد وتياره وخفض نبرة العداء للغرب.

وبصرف النظر عما إذا كانت أسباب انقلاب حافظ الأسد على رفاقه أيديولوجية وسياسية فعلا أم شيئا آخر فالأمر، في حد ذاته، يدعو إلى التأمل. فعندما تنقلب على رفاقك لتلك الأسباب (كبح جماح التطرف اليساري، تليين الموقف من الغرب) لا بد من أن تؤسس “شرعة” أو “عصبية” جديدة. لا بدَّ لشيء أن يحل محل شيء آخر. لم تكن تلك “الشرعة” التي جاء بها حافظ الأسد، في نهاية المطاف، سوى دفع “التطرف” الأيديولوجي إلى الوراء، وإعادة الاعتبار، جزئياً، للشرائح الاجتماعية التي تضررت من “السياسات الاشتراكية” الراديكالية التي انتهجها حكم صلاح جديد – نور الدين الأتاسي.. والتأسيس لعبادة الفرد.

فالروابط القوية، التي سيعتمدها النظام الجديد، لن تقوم، تماماً، على ما هو أيديولوجي بل على ما هو ولائي، خصوصا في نظام تآمر على نظام سابق. الشخصي سيحل محل العام. الولائي سيحل، إلى حد كبير، محل التأدلج. وليس هناك أكثر أمناً لزعيم النظام الجديد (حافظ الأسد في هذه الحالة) من رابطة الولاء الشخصي والعائلي والقرابي.. وبالتالي الطائفي التي بدت، في أوضح صورها، في أواخر عهد الرئيس السوري الراحل.

غير أن ذلك لا يعني أن “طائفة” حلَّت، مع إحكام حافظ الأسد قبضته على سوريا، محل “طائفة” أخرى، فقد قامت دولة البعث في سوريا على روابط يصعب التحلل منها مباشرة.

وفي هذا الإطار ينافح الباحث الأميركي ستفين هايدمان صاحب كتاب “التسلطية في سوريا: صراع المجتمع والدولة” (الصادر بترجمته العربية حديثا عن دار رياض الريس) عن أطروحة تقول إن “ابتلاع” المجتمع السوري من قبل الدولة بدأ مع انقلاب البعث عام 1963، وظلت البنى التي أقامها النظام الجديد في سوريا تعمل بكفاءة متراوحة، حتى رحيل حافظ الأسد وتسلم ابنه بشار رئاسة البلاد من بعده. فما هي هذه الأطر التي “أمّنت” لسوريا أطول فترة “استقرار” سياسي في تاريخها الحديث؟

يجيب هايدمان أن حزب البعث تبنى، بحماسة، سياسة “القبضة الحديدية” وعمم العنف برعاية الدولة والصراع الطبقي كجزء من إستراتيجية بناء الدولة التسلطية الشعبوية، وبالرغم من المستوى الذي بلغته الصراعات داخل حزب البعث بين عامي 1963 – 1970 فقد نجح البعث في ترسيخ نظام حكم أثبت قدرته على الاستمرار وحتى على التكيف النسبي.

أما البنى التي أحكم حزب البعث من خلالها قبضته على المجتمع السوري فتمثلت في “إعادة ترتيب شامل للحالة المؤسساتية القائمة، فأنشأ منظومة هائلة من المؤسسات الاجتماعية والسياسية ترمي إلى احتواء قطاعات واسعة من المجتمع السوري والسيطرة عليها في الوقت نفسه”.

فالسوري تلتقطه تلك المؤسسات ما إن يدخل إلى المدرسة. فهناك اتحادات “طلائع البعث” و”شبيبة الثورة” واتحادات الطلاب والعمال والنقابات المهنية.. وكلها تابعة لحزب البعث. لكن هايدمان الذي يرى في الأطر الاجتماعية والسياسية والنقابية التي غطت كل أوجه الحياة العامة في سوريا سبباً في إدامة بقاء نظام البعث غفل عن دور المؤسسات الأمنية التي شهدت في فترة حكم حافظ الأسد المديدة تعدداً وتشعباً وتغولاً غير مسبوق.. وهذا ما سأعود إليه في مقال لاحق.

هياكل التأطير والتعبئة التي استحدثها نظام البعث لم تكن هي التي أمَّنت أطول فترة “استقرار” سياسي في سوريا الحديثة بل التغوّل غير المسبوق، عربياً ودولياً، لأجهزة الأمن. ولرجل مهجوس بالتحديات التي تواجه حكمه داخلياً وخارجياً كحافظ الأسد لم تكن “الرابطة البعثية” موضع ثقة حقيقية له، بل الولاء الشخصي التام القائم على روابط عائلية وطائفية.

ليس من قبيل التجني على الواقع، ولا من قبيل النفخ في كير الطائفية البغيضة القول إن معظم قادة هذه الأجهزة وكوادرها، إضافة إلى نخبة القوات المسلحة، ينتمي إلى الطائفة العلوية. فهذه حقيقة شائعة لا يغير من أمرها أن تكون غالبية الوزراء، بمن فيهم رئيس الحكومة، يتوزعون على “الطيف” الطائفي والإثني السوري، وهو ليس طيفاً “موازيكياً” كما يردد بعض من يتناولون الوضع السوري. فسوريا ليست موزايكاً طائفياً على غرار لبنان أو حتى العراق، فهناك كتلة سكانية كبيرة تتجاوز الثلثين تنتمي إلى لون مذهبي وإثني واحد. لكن هذه الكتلة (السنة العرب) لم تعبر عن نفسها على هذا النحو قط.

فالطائفية، سياسياً، لا جذور لها قوية في سوريا. وعندما نشب الصراع عنيفاً بين النظام وجماعة الإخوان المسلمين في ثمانينيات القرن الماضي لم يتحول صراعاً طائفياً مكشوفاً رغم المجازر التي ارتكبها النظام في حماة وغيرها من المدن والبلدات السورية، فقد فشل تمرد تلك الجماعة، آنذاك، في قلب الكتلة السنية الكبيرة على النظام، ولم تتمكن دعاواها الدينية من إحداث شرخ طائفي كبير في النسيج الاجتماعي للبلاد.

المدهش أن أول من تحدث عن الفتنة في سوريا، مع اندلاع الانتفاضة، كان النظام نفسه، بل رأس النظام تحديداً، ثم تلته أبواقه الرسمية وغير الرسمية. وها نحن الآن بعد ثمانية أشهر على الانتفاضة نجد أنفسنا أمام حديث متواتر، داخلياً وخارجياً، عن الفتنة الطائفية وأشباح الحرب الأهلية في سوريا.

فهل هذا التلويح بالحرب الأهلية، القائمة على اعتبارات طائفية، تهويل إعلامي أم حقيقة لا يجدي الأسف وحده لتداركها؟

يصعب القطع في ذلك.

فالنظام الذي يعبئ الطائفة العلوية والأقليات الدينية الأخرى، كما يردد كثير من نشطاء الانتفاضة، ويشحنها بالخوف على مصيرها لا بدَّ أن يحدث أثراً على الأرض، وهذا ما يتضح من ضعف مشاركة “الطوائف” السورية الصغيرة في الجهد الانتفاضي ضد النظام.

وهنا ينبغي على قوى المعارضة السورية، بمن فيهم “الإخوان المسلمون”، أن يبذلوا قصارى جهدهم في طمأنة عموم السوريين إلى مستقبل بلادهم، وأن يوضحوا، بقوة ومن دون لبس أو غمغمة، أن سوريا التي يعملون من أجلها هي لجميع مواطنيها انطلاقاً من برنامج مدني ديمقراطي يمثل الجميع ويتسع للجميع.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى