من يقود المنطقة العربية؟/ بشار عمر الجوباسي
■ عادة ما تظهر السياسة والاقتصاد وكأنهما توأمان مرتبطان بحبل سري واحد، لكن ما أن تطل المصالح الإستراتيجية حتى يتراجع الاقتصاد وتصعد السياسة إلى الصدارة، كما يحدث في الأزمة الروسية الغربية الحالية.
أما الإيديولوجيا، سواء أكانت سياسية أم دينية فتأتي دائماً قبلهما وحتى قبل المصالح الوطنية نفسها؛ وهذا ما فكك الاتحاد السوفييتي وينهك إيران حالياً ويدفعها نحو الهاوية. يظل ذلك صالحاً في كل مكان عدا تركيا التي تقود المصالح الاقتصادية علاقاتها السياسية، وإن حدث وتضاربا فأعظم ما يفعلونه التفريق بينهما، وكذلك تتوارى أيضاً الايديولوجيا خلف الاقتصاد في حساباتها، ومن هذا المنطلق قد لا يكون وراء أي تقارب تركي مصري تراجعا في مواقف حكومة أردوغان من القضية المصرية – أصبحت ترقى لهذه التسمية- وباقي قضايا المنطقة وإن كان هذا التقارب لا يزال بعيداً، فهذا ما بدا من تصريحات وزير الخارجية التركي، الذي ربط أي تقدم في العلاقة مع مصر بتطبيقها معايير الديمقراطية، وكذلك فإن استئناف شخصيات من مجلس النواب المصري المنحل عقد جلساته في اسطنبول مؤخراً – في خطوة متأخرة لعامين – قد يحافظ على الفتور في علاقاتهما، أما التقارب القطري ـ المصري، الذي يتجه ليتوج بقمة ثلاثية في الرياض، فلا يعكس فقط تغيرا في موقف قطر التي أغلقت قناة «الجزيرة مباشر مصر»، وإنما تقهقرها من صدارة ساحة الأحداث في المنطقة وعودتها إلى الحضن السعودي، لتعود السعودية وتقود المنطقة بعد المصالحة الخليجية الأخيرة.
لم يظهر للسعودية كل هذا الدور المتقدم والقيادي في المنطقة ما قبل الربيع العربي، وأصبح مما لا شك فيه الآن أنها كانت تتمتع بعلاقات عميقه جداً مع باقي الأنظمة العربية، التي لم نشهد انسجاما بينها في العلاقات الاقتصادية مثلاً، أو الظهور بموقف عربي واحد أمام الرأي العام العالمي في ما يخص القضايا العربية الجوهرية، كالقضية الفلسطينية مثلاً، وإنما اقتصرت العلاقة بين الزعماء على كيفية المحافظة على الأنظمة فقط.
هل كان من سوء حظ الثورات الشعبية في دول الربيع العربي أنها خلت من «روبسبير»، في حين وجد في الصف المقابل أشخاص يعد روبسبير نفسه ملاكاً أمام أفعالهم، فسورية محرقة العصر. أما مصر فاقترف الانقلابيون في مجزرة رابعة في يوم واحد ما لم يقترفه روبسبير في سنتين. أما تونس فاقتصر الفعل الروبسبيري فيها على السياسة حتى عاد لويس الثامن عشر التونسي من الشباك.
دائماً كانت تعقب أي ثورة شعبية ثورة مضادة؛ ففي روسيا قام الجيش الأبيض بثورة مضادة على الحكومة البلشفية عام 1917، ودخلت البلاد في حرب أهلية قبل أن ينتصر البلاشفة ويحكموا قبضتهم على السلطة، وكذلك نجح الملكيون الفرنسيون بإعادة الملكية إلى فرنسا عام 1814، قبل أن تسقط لاحقاً عام 1830، لا شك أنهم في تونس ومصر قد انتبهوا للثورات المضادة باكراً، لكنهم لم يقوموا بأي إجراءات عملية لمواجهتها، واعتمدوا فقط وبكل رومانسية على الحكم باسم الديمقراطية؛ في وقت غاب عنهم الإمساك بالوسائل العملية والضرورية للدفاع عن الثورات وحمايتها، فلو اجتمع كل سكان الأرض وأبدوا استنكارهم ورفضهم لفعل حمى تلهب جسداً ما، فلن ينجحوا بالتغلب عليها إلا إذا تناول المريض الدواء.
أتى الربيع العربي فجأة وكان عفوياً في وقت لم يكن الحراك الشعبي الشبابي ولا الأحزاب الإسلامية التي فازت بالانتخابات الديمقراطية بعد الربيع مستعدين له، كما كانت تنقصهم الخبرة لتدبير أمور الحكم، خاصة أنهم دائماً ما كانوا بعيدين عن دوائر الجيش والمؤسسات الأمنية التي تمسك بزمام الحكم وتنبع السلطة عملياً منها. الإخوان عادة لا يعرفون العودة من الشباك، إذا ما أخرجوا من الباب، ولا تنجح عندنا تجربة تغيير اسم الحزب التركية، ثم العودة من جديد، بل عادة ما تكون استفاقتهم بعد الصدمة متأخرة ولا تتعدى العمل السري للمحافظة على التنظيم لا أكثر.
كما استعجل الشباب نتائج ربيعهم خاصة الاقتصادية، إلا أنهم أرهقوا كثيراً من دون أن يحصلوا على شيء ملموس، فانفض الكثيرون عن الحراك مرغمين على البحث عن لقمة العيش التي يخيرون في مصر بين الركض وراءها أو ولوج غياهب السجون، ومع ذلك ما يزال يتظاهر الشبان ويرفضون التخلي عن القضية.
لم يخسر الربيع العربي الإخوان فقط، بل منيت بالخسارة كل الحركات التحررية، ولكن لا يتم التركيز إلا على الإخوان فقط، لأن خصومهم يرون فيهم المنافس الحقيقي والوحيد؛ نظراً لشعبيتهم العابرة للحدود، ولارتباطاتهم العربية والعالمية، التي يخافون أن تصدر الثورة إلى دولهم، هذا على الرغم من عدم اقتصار الإسلام السياسي عليهم، ففي مصر حصل حزب النور السلفي في انتخابات مجلس النواب 2012 على 22٪ من الأصوات، وحلوا في المركز الثاني خلف الإخوان، وقبل حزب الوفد بفارق كبير، الذي اقتصرت حصته على 7٪فقط.
يظهر الدور السعودي بانتشار الفكر السلفي، الذي يتميز بمراعاته لخصوصية كل بلد أو بما تقتضيه الحاجة فيه، ففي سورية واليمن سلفية جهادية، أما في مصر فالسلفية تؤمن بولاية المتغلب. السلفيون المصريون لم يشاركوا بثورة 25 يناير، بل أيدوا الانقلاب على الرئيس المنتخب مرسي، كما أن التزامهم بولاية المتغلب يجعلهم خارج الحسابات ويبقيهم خلف أسوار التدجين.
منذ الأيام الأولى للربيع العربي جرى الحديث على ضرورة تفعيل مجلس التعاون الخليجي أكثر وتوسيعه ليشمل الأردن والمغرب، وطبعاً كان ذلك لمواجهة المد قبل بلوغه ديارهم، لم يحدث ذلك تنظيمياً لكن لا يغيب على أحد ما ابتلي به العرب من ممارسات هابسبورغية لتلك العائلات الحاكمة، فهل يقاتل الثوار في سورية واليمن وليبيا والعراق فقط الأنظمة التي لم تسقط، أو التي تحاول العودة، أم أنهم يقاتلون معها بعض باقي أنظمة المنطقة، التي لا تريد لتلك الثورات نجاحاً، مقتفيةً سنة الملكيات الأوروبية في حروبها ضد فرنسا عقب ثورتها ما بين 1804 حتى 1814، الذين لم يملوا حربها حتى عادت الملكية إليها.
من تونس انطلق وفيها انتهت أولى جولاته، وكما جرت العادة بأن يرأس شرفياً أول جلسة للبرلمان أكبر الأعضاء المنتخبين سنا؛ رشح الحرس القديم رجلاً تسعينياً ليسعى لتحقيق أحلام الشباب التونسي، لابد أنه أهلٌ لذلك! فلا يكبرهم إلا بسبعين سنة فقط. في الجزائر في ظل هبوب الريح الثورية ونظراً للحاجة الماسة لمجاراتها؛ تمت الاستعانة برجل يحكم من المشفى وإن أسفعته الأيام بالقليل من الصحة دُفع على كرسيه المتحرك، وهو بحاجة إلى أن يؤكد أحدهم سلامة صحته الجسدية والعقلية بين فترة وأخرى! في عصور الظلام الأوروبية كانت تحترم عقول الشعوب أكثر.
الديمقراطية التي سعى إليها شباب الربيع العربي هي مثل أي منتج أمريكي تحتاج لترخيص أمريكي كي تنتجه في بلدك وهذا الذي لا يزال ينقصنا.
٭ كاتب سوري
القدس العربي