من يمثل الشعب السوري؟/ هيفاء بيطار
ما أكثر الأطراف التي تدّعي أنها تمثل الشعب السوري، أنها تعبّر عن تطلعاته وأحلامه في الحرية والكرامة والأمان. أسماء براقة زائفة ينضوي كل حفنة من شخوصها تحت مسميات أو لافتات كل منها يدّعي أنه يأخذ شرعيته من الداخل السوري. ولا يخجل أي منهم من هذا الكذب الفاقع.
مَن يتابــع الأحــداث مــنذ الأيــام الأولى للثــورة السورية التي سُرقت وشُوّهت ويستمع إلى هؤلاء، الذين كرّستهم الفضائيات نجوماً يرى عديدين منهم، يؤكد ومنذ الأيام الأولى للثورة، أن النظــام ساقط بشكل مؤكد خلال أسبوعين. وتمر أسابيع وأشهر ولا يسقط النظام. ولا يبالي هؤلاء من تكرار واجترار العبارات ذاتها من أن النظام سيسقط خلال أسابيع قليلة، وتمر ثلاث سنوات وهم يجترون الكــلام ذاتــه، بل يضيفون عليه عبارات مُبتكرة بأنهم سيسخَون بآخر قطرة من الدم السوري من أجل انتصار الثورة.
والكل يعرف أن كلامهم مُبطّن، فهم لا يبالون بالثورة ولا بدم الشعب السوري، الذي يدّعون أنهم يمثلونه، بل كل غايتهم الوصول إلى الكرسي. ولا يبالون بالمهازل التي تصدر عنهم حين يتبادلون الشتائم الفاحشة علناً ويصفع أحدهم الآخر، وكل فترة يستقيل بعض منهم، كما لو أن استقالتهم أو بقاءهم يعني أي شيء للشعب السوري، ويظن كل منهم أنه حين يستقيل سيخلخل العالم ويتقوّض كما لو أن جمال عبد الناصر قد استقال.
وقد كان لي أن ألتقي ببعض هؤلاء وأروع بلا مــبالغة من هول الأحقاد بينهم، ليست أحقادهم على النظام فهذا أمر يجاهرون به ويعرفه الجمــيع، بل أحقادهم وتخوينهم لبعضهم بعضاً. لا يخجل أحدهــم من القول إنه حين تنتهي الأزمة أو الثورة أو الجحيم السوري فإنه سيكون بالنسبة للمــعارض الآخــر الذي ينضــوي مــعه تحــت الإســم ذاتــه، مثـل فــريقي «8 آذار» و«14 آذار» في لبنان، وحين تسألهم لكن أنتم في فريق واحد يبتسمون ابتسامة تنضح بالسم.
لا يخجل أحدهم من احتقار معارضة الداخل الوطنية الشريفة واتهام أفرادها أو بعضهم أنهم تحت عباءة النظام، أحد أصدقائي الشرفاء من معارضة الداخل والذي سُجن 15 سنة، ولأنه يتكلم بلغة العقل والاعتدال ويهمه الحد من سفك الدم السوري قدر المستطاع يتعرض لهجوم وقح وعدواني وتخوين وشتائم فقط لأنه يتكلم باعتدال ومنطق. ويُتهم علناً أنه يتعامل سراً مع النظام، مع العلم أنه ممنوع من السفر حتى اللحظة. باختصار كل من يتكلم بلغة العقل والمنطق والوطنية غير المرتبطة بجهات خارجية هو مُحارب بل المطلوب تصفيته وقتله، فالمطلوب هو التطرف. لا خوف على المتطرفين، بل كل الخوف والخطر على المعتدلين الذين يستميتون للحد من النزيف السوري. بعد ثلاث سنوات، بلغ قرف السوريين من هؤلاء المنافقين التجار حداً لا يمكنني وصفه، أنا التي أعيش في الداخل وأرى هول معاناة السوريين، وأرى أطفالاً ينامون في الشوارع شبه عراة، فيما يدّعي شلة المنافقين أنهم يمثلونهم، ويبكون «بدموع التماسيح» على ثمانية ملايين سوري نزح وتشرد. ويمكنني أن أستشهد ببعض العبارات العفوية والصادقة التي أسمعها من الناس، كم هو محظوظ هذا النظام بمعارضة كهذه، «بحياتنا ما شفنا معارضة بهذا الشكل».
حفنة منهم مرتبطة بالسعودية وحفنة مرتبطة بقطر، وأخرى مرتبطة مع «جبهة النصرة» وغيرها من جبهات الذبح والقتل. ولا أحد مرتبط بالوطن وتعنيه عبارة معارضة وطنية مستقلة غير مرتبطة. وإذا كانت هذه المعارضة قد لقيت شيئاً من مصداقية وتأييد في بداية الثورة السورية فإنها وبعد ثلاث سنوات تحوّلت إلى عبء وكارثة على الشعب السوري. أي إجرام أن يتفصّح أحد هؤلاء المعارضين منذ أيام على شاشة إحدى الفضائيات ويقول إنه لا يهم إن طال زمن الثورة، وبأن الدم السوري المسفوح والذي سيسفح أكثر وأكثر لن يضيع هدراً، وبأنه متأكد بل يعد السوريين أن قيام دولة إسلامية أمر مُحتّم في سوريا. وحين سأله المُحاور، «لكن ألا ترى حال الشعب السوري في مخيمات النزوح وحال أطفال سوريا الجياع والمشردين والذين حُرموا من المدارس»، يرد بابتسامة: «إن ثمن الثورة لا بد أن يكون باهظاً».
ولكن إذا انتقلنا إلى الضفة الأخرى، التي تدّعي أنها تمثل الشعب السوري أي ضفة النظام، فما هو المشهد من الداخل؟ آلاف الشبان ماتوا وتحوّلوا إلى أوراق نعي، ووطن تحوّل إلى كفن، يكفي أن تدخل الحدود السورية حتى تستقبلك كوكبة من صور شبان ماتوا، وحتى يكون قهرك في ذروته فإن صور هؤلاء المساكين وهم يتأبطون البارودة ويرفعون علامة النصر. أي نصر هذا! نصر الموت على الحياة؟ كم من عائلات في سوريا هربت أولادها خارج سوريا كي لا يطلبوا إلى خدمة العلم أو للاحتياط لأنهم يعلمون أن أولادهم سيعودون إليهم بعد أيام أو أسابيع جثثاً. لا أحد ينتبه إلى أن الشعب السوري يريد الحياة، إن كل من يحاول إضفاء قداسة وقيمة وهدفاً سامياً للموت هو منافق.
ماذا قدّم النظام للناس طوال ثلاث سنوات من الوعود بالإصلاحات؟ لماذا لا يزال الناس يرتعشون من الخوف كلما أرادوا الخروج أو الدخول إلى سوريا ذعراً من احتمال الاعتقال بأية تهمة، بسبب تقرير كتبه أحد المخبرين وقدّمه إلى جهة أمنية ما.
أعرف العديد امتنعوا عن السفر خوفاً من أن يتم اعتقالهم على الحدود! وحين تسألهم: لماذا تتوقعون الاعتقال، أي ذنب ارتكبتموه؟ يقولون: لم نرتكب أي ذنب، لكن لا نعرف كيف تهبط التُهم علينا؟ كيف يمكن للنظام الذي وعد الناس بإصلاحات وبحرية التعبير أن يمنع معارضين وطنيين عديدين من السفر وأن يعتقل المئات منهم؟ كيف يمكن للإعلام السوري أن يكتب باللغة ذاتها منذ نصف قرن بأن أهالي الشهداء جميعهم يرددون العبارة ذاتها من دون أن يزيد أو ينقص حرف جر في كلام الأهالي المفجوعين باستشهاد أبنائهم: نحن فخورون وسعداء لأن ابننا استشهد في سبيل الوطن. هل تحوّلت الحياة في سوريا إلى مسرح اللامعقول أو الجنون. ترى صفحة في جريدة رسمية للنظام تضمّ صوراً لأكثر من ثلاثين شهيداً، وتحت كل صورة العبارة ذاتها للأهالي بأنهم في قمة السعادة والفخر أن ابنهم استشهد. أي تخاطر لا يحدث حتى في جنون الهذيان هذا، أن يتشارك كل هؤلاء المفجوعين والمنكوبين بالعبارة ذاتها؟ أليس هذا قمة الاستخفاف بالشعب السوري؟
وسأتجرأ ولن أبالي بنصائح المحبين على القول إن كل عمليات الخطف التي شهدها مجتمع اللاذقية، خصوصاً خطف رجال أعمال من الطائفة المسيحية وطلب فدية بالملايين من أهاليهم، كل تلك العمليات يعرف الناس مَن يقوم بها. وقد زرت إحدى العائلات التي خطف ابنها، وهو تاجر مسيحي دفع أهله 50 مليون ليرة ليعود لهم سالماً. وطوال زيارتي لم يتفوّه أحد من أسرته: بأيه عبارة، وكلما سألت سؤالاً يكون الجواب: «كثر خير الله رجع لنا بالسلامة». حتى اضطررت أن أصرخ أخيراً: «يا جماعة طالما أنتم تعرفون الخاطفين فلم لا تقيمون الدنيا ولا تُقعدوها؟ لم لا تقدّمون شكوى؟». ويكون الجواب نظرة ذعر وصمت من رصاص. لماذا لا يعاقب النظام هؤلاء الذين يتجاوزون القانون ويستغلون الناس ويروّعونهم ويخطفون أبناءهم؟ لماذا لم نجد أياً منهم في السجن، أو على شاشة الإخبارية السورية يعترفون أنهم خطفوا فلاناً وعلاناً وقبضوا الملايين؟ لماذا لا يهتم الإعلام السوري باستضافة أهالي المخطوفين وسؤالهم عن ظروف اختطاف ابنهم ولمَن دفعوا تلك الملايين؟
ألا تعني هذه الحوادث أن الشعب السوري يشعر بالخيبة والقهر والظلم وبأنه أعزل، فلا معارضة كهذه تمثله ولا نظام يقدّم له دلائل ملموسة على إصلاحات حقيقية وجدية تقنعه أن مطالبه المُحقة بالعدالة والأمان والحرية قابلة للتحقيق. طوال ثلاث سنوات لم يجد الشعب السوري محاسبة جدية وفعلية لمسؤول فاسد ولعصابة تخطف. الكل مشغول بمعركة الحسم والكل يتحدث عن انتصارات عظيمة، أي انتصار هذا والمئات يموتون كل يوم.
الشعب السوري أعزل ووحيد في مواجهة مصيره، ولا أحد يمثله. وربما العبارة الأكثر صدقاً وتعبيراً عن حاله حين هتف الملايين: «يا الله ما إلنا غيرك يا الله».
السفير