مهارة كلامية وقفز فوق التناقضات
عناية جابر
ظاهرة صمت المثقفين عمّا يجري من حراك ثوري ليست ظاهرة عرضية. أسمعهم يتحدثون عن هذه الثورة وتلك، لكن بطريقة مبهمة، يائسة أحياناً، كما لو يستنكرون حدوثها. وأخيراً أستطيع الكتابة- قال لي احدهم ـ سأنّظم أموري بطريقة يسعني معها الكتابة كل يوم. أجل- قلت له- ولكن عن ايّ موضوع ستكتب تحديداً؟ سنرى- قال لي- ننتظر ونرى لمن تكون الغلبة.
سابقاً كان يعرف تماماً ماذا وعن أيّ أمر يكتب. أمّا الآن فهو يحاول قدر الإمكان موازنة كافة الأمور، وعلى قياسها يكتب. الحالة في البلاد العربية الثائرة شديدة التعقيد كما ترين- أردف- ويتّسم بناؤها بإرباك بالغ. كم من الأشياء والأفكار أرغب في تجسيدها عبر الكلمات، لكنها تضيع منيّ.
نظرت عبر النافذة، وقرّرت أن لا أسمح لهذه الصبيحة الرائقة أن تفسد. بدا لي كل أولئك الذين يصلون نهاراتهم بلياليهم في مثل هتافاتهم من اجل الحرية، لا يحتاجون الى مثل ترّيثه وموازناته، لايحتاجون أصلاً الى كلمات المثقفين. إنها الحرّية، وهي هزيمة الحكّام الظالمين. بداية عهد جديد. أجل، كل هذه الصباحات، كل هذه الأمسيات التي تركناها تنزلق من بين أصابعنا طيلة صمتنا عن القهر، ويحاول الناس البسطاء الآن، تعويضنا عنها.
لا يمكنك ان تقول كل شيء، هذا صحيح، لكن في إستطاعتك على الأقل أن تجعل لحياتك مذاقاً طيباً. لكل حياة جانب مذاقها الطيّب ويجب التعبير عنه. لا يريد ان يعرف، يريد فحسب أن يفرغ على الورق كيفما اتفق، سطورا من التوافقات والتوازنات التي يحتاجها في حياته البائسة، وهذا يُمتّعهُ الى اقصى حدّ، وهو لا يطلب أكثر، كما لايريد التورط في أمور تعيق هناءة حياته الأدبية. صعبٌ عليه قول كلمة حقيقية. وهو تعلّم في ظل الإستبداد الطويل، الإقتصاد في صراحته، لأن هذه الكلمات البسيطة: ‘أنا مع الشعب ضد السلطة’ قد تنّغص عليه ترتيب برنامج دعواته، ورحلاته ونجوميته ومهرجاناته وجوائزه، وتثير أسئلة لا تنتهي وتعليقات تُدينهُ، بحيث يُفضّل استبدالها بكلمات أكثر مراوغة وتأويلاً. لكن، امر محيّر فعلاً هذه الكتابة المتخفيّة خلف مراميها الكاذبة، وكيف يعتبرها بعض القراء إبداعاً.
عبثيٌّ أيضاً، هذا الحياد وهذه اللامبالاة، رغم ان هذه الأخيرة هي ايضاً موقف، وهي مهارة كلامية وقفز فوق التناقضات.
يريد المثقف العربي مع ذلك، ان يشعر بفعاليته في الأحداث، من دون ان يضحّي بفردانيته. يريد ان يظل على علاقة جيدة بالأنظمة دون أن ينضّم الى كتبتها. من غير المجدي الوقوف الى جانب المشكلة من دون الخوض فيها أو مناقشتها بشكل عاقل وملموس. الأمر الأكيد هو انه يجب عدم الإستسلام للخوف والتلهي بالسجالات الكاذبة والعقيمة بالضرورة.
حين استمع الى حديث دائر بين مثقف مع آخر، يخيّل لي أنهما يناقشان مسألة مُغالية في التجريد.
هل تعرف- قلت له- أن بعض الكتابة الصادقة كفيلة بإنعاش همّة الناس. انهم في أمسّ الحاجة الى توضيح الصور، لكي يصدّق العالم أن تحركهم البطولي يُغيّر شيئاً في مصائرهم ومصائر أوطانهم ويُعدّل في مجرى الأمور.
بخطى سريعة غادرني الصديق المثقف وقد شعر بإنقباض في قلبه. هذا الحديث عن مثل الكتابة التي تريدين وإلحاحك عليه ـ قال لي ـ يُقبض قلبي. مساكين هؤلاء المثقفون الطيبو القلب!! أيّ كلمة عن الحرية تُعادي إبداعاتهم وتثير غضبهم المتعقل. حين غادر صديقي المثقف، كانت التظاهرة على التلفزيون لاتزال تحتفظ بالبريق للنصوص الخامدة، وقد هلع الصديق من هذا البريق. غادر ليرتع في ثقافة مهمشة من الدرجة العاشرة. عاد بعد قليل وجلس أمام مكتبه مُعيداً قراءة مطلع مقالته على مسمعي ثم قال بصوت عال: لكن ما جدوى ذلك؟ سيقرأها الناس غداً ويهزون رؤوسهم قرفاً، ومن ثم يرمون الجريدة في سلة المهملات. لا يستحق الأمر عنائي في معاندتي وإصراري!! ثم هل تعتقدين أن لي دوراً ألعبه فيما لو خرجت من تأتأتي وعزلتي؟ اكتبي أنت إذا كنت على هذه الدرجة من الوضوح والشجاعة! ما الجدوى ـ قال- من الكتابة إذا كانت دواخلنا نفسها تفتقر الى الحرية.
أحسب أن على كل مبدع ان يتحمل بعض عبء حريته، وحقيقتها هي المادة التي تدور في شرايين نصوصه. ليكن الإبداع لمرّة، الإبداع العربي، هو احد هذه الإستخدامات الكثيرة للقيامة، وللخلق والإنبعاث. المبدع يمنح شخصياته، حقيقية أو خيالية، إرادة حرّة، وعزماً خاصاً، واخيراً. أود أن أؤكد للمثقفين العازفين عن الخوض في إبتلاء الناس بحكامهم، على أقصى السعادة التي تتحقق في قراءة مؤازرة في الوقت الذي يكون فيه المرء وحيداً، في مواجهة دماره وإنهيار عالمه. الكتابة الحرّة تربّت على كتفه، وتجدول عذاباته وتعد بفرج قريب، تُهيىء له وتفرش ربيعه بالأخضر البارح.
الحرية هي الهدف، تلك اللحظة من الضوء النقي، هشة وصافية كتمثال صغير من خزف خالص.