مهام القوى الديمقراطية في سوريا
عمر كوش
توجه إلى المثقفين المستقلين والنشطاء السياسيين الفاعلين على الأرض في سوريا انتقادات، تطاول أسباب عزوفهم عن الانخراط في التشكيلات السياسية الناشئة. وتمتد لتصل إلى أسباب عدم تشكيلهم جسماً سياسياً مختلفاً، قادراً على جمع القوى المدنية والديمقراطية، ويضرب مثلاً في خدمة أهداف الثورة، ولا يتغاضى عن نقد أخطائها، بل يسعى إلى تخليصها قدر المستطاع من منزلقات التعثر، وإلى تقويم مساراتها وإبعادها عن مندرجات التطرف والتعصب، التي باتت مؤثرة في بعض المواضع، خاصة وأن المجتمع السوري بحاجة إلى عودة السياسة المسلوبة منه، في هذه المرحلة الصعبة والحساسة من تاريخ سوريا، التي تشهد ازدياد خطر ارتداد المزيد من الناس إلى مختلف الولاءات ما قبل المدنية، من اثنية وعشائرية وطائفية ومذهبية، وتزايد خطر التطرف والتعصب.
وخلال الفترة السابقة، حافظ أغلب النشطاء السوريين والمثقفين النقديين على مسافات معينة من التكوينات السياسية التي نشأت على هامش الثورة السورية، واكتفوا بمراقبة أدائها بشكل نقدي، وقدموا اقتراحات عديدة للارتقاء بعملها. وما كان يقلقهم هو مبدأ التوافق الذي قامت عليها هذه التشكيلات، بوصفه توافقاً بين كتل سياسية مختلفة في قوتها ونشأتها وتوجهاتها، انقلب في معظم الأحيان إلى محاصصات ومساومات بغيضة بين أطراف وشخصيات، تدعي تمثيل الثورة، إلى جانب ارتفاع منسوب الشخصنة وتضخم الذات، لدى العديد من ممثلي تشكيلات المعارضة، وخاصة لدى بعض من تحولوا إلى نجوم شاشات تلفزيونية، الأمر الذي يتناقض بشكل صارخ مع تضحيات شباب الثورة، الذين برهنوا على إصرارهم في المضي حتى تتحقق أهداف الثورة، وعلى امتلاكهم قدرة كبيرة في التضحية وخدمة الثورة.
ولعل تعقيدات الوضع السوري تفترض تشكيل جسم سياسي جديد، سواء أكان تياراً أم حزباً، أم تجمعاً، ديمقراطياً، قادر على جمع السوريين، بمختلف انتماءاتهم الدينية والاثنية، حول مبادئ المواطنة وحقوق الإنسان، ويسعى إلى تحقيق أهداف الثورة في الحرية والكرامة والعدالة، وبناء سوريا الجديدة، بوصفها دولة مدنية دستورية، تعددية وحديثة، وفق نهج لا يستبعد فرداً أو جماعة، ولا يقصي أو يهمش أحداً، بل يشكل قطباً جاذباً لمختلف المكونات والشرائح الاجتماعية، وعابراً لمختلف الانتماءات والولاءات ما قبل المدنية، دون القفز فوقها. وينطلق من الواقع المعاش والمتعين في مختلف مناطق سوريا، بما يعني الابتعاد عن التشخيص الجاهز أو الإسقاطي، وعن مقولات الإيديولوجيا الضيقة، والمفاهيم الحزبية القديمة، الطاردة للاختلاف والتنوع.
ومن المهم على أية نخبة سياسية ديمقراطية، تسعى إلى تشكيل سياسي جديد، أن تجد رافعة له، تقود عملاً جماعياً، يرسخ سبل الوصول إلى تنظيم وسطي، يضم رجال الأعمال والفئات الوسطى والعمال والمزارعون، فضلاً عن المثقفين المستقلين، الحريصين على تشكيل مظلة سياسية اجتماعية في الداخل السوري، تكون بمثابة المؤسسة المعبرة عن نبض ومكنونات الإنسان السوري، بكل مركباته وتفاصيل حياته اليومية، وترتقي بالوعي الجمعي، كي يصبح الانتماء الوطني قائماً على المواطنية والمشاركة الجماعية.
وقد وضعت الثورة السورية حملة الأفكار الطانة، من يساريين وقوميين وإسلاميين، على المحك في خيارهم الديمقراطي، وفي مدى اقترابهم والتزامهم بمصالح الناس وحقوقهم، وأعادت فرزهم بطريقة لا لبس فيها. وتبيّن أن الأحزاب اليسارية والقومية والدينية، عاجزة عن إحداث قطيعة معرفية وسياسية مع ماضيها، القائم على الإقصاء والأحادية، وعلى التعبئة الأيديولوجية ذات الاتجاه الوحيد، حيث لا يزال قادتها وممثليها أسرى نفس العقلية القديمة ونفس النهج القديم.
وأظهرت التجربة أن الحياة السياسية في سوريا لم تعرف غير أنماط انقلابية، أفضت إلى نظم تسلطية وشمولية، وظلت مشدودة إلى مفهوم الحزب التوتوليتاري، العسكري الانضباطي، في أغلب لحظاتها التاريخية الحديثة، حيث لم تخرج إلا في لحظات نادرة عن نطاقه الضيق، وبالتالي، لم تتمكن من السير باتجاه تشكيل تيار وطني، لا اثني ولا طائفي، أي خلق تشكيلة اجتماعية واسعة، تنهض على فعل تواصلي قائم على الحوار الفكري بين أفراد أحرار، بل الذي حصل هو أن الأحزاب والتنظيمات التي عرفتها سوريا، منذ خمسينات القرن العشرين المنصرم، وخصوصاً تلك التي وصلت إلى الحكم، لم تعمل إلا على إدامة الانتماءات ما قبل المدنية، وعلى تعميق التفاوت الطبقي والاجتماعي، وعلى تأبيد حاضر الركود والفوات، ولم تبذل الجهد المطلوب من أجل صون وتقوية الوحدة الوطنية، وابتعدت في ممارساتها السلطوية عن أقلمات المفهوم الحديث للمواطنة والانتماء للوطن، فحلت الانتماءات الطائفية والاثنية والجهوية والعشائرية، لتفعل فعلها في مختلف الانتماءات ما قبل المدنية.
وأفرز الحزب الحاكم مفهوماً جديداً للسلطة، هو مفهوم السلطة المتسلطة، على الأفراد وعلى المجتمع، مع تراجع مفهوم الحزب الممثل للمجتمع، مع أن أقلمات مفهوم السلطة أفضت في عالم اليوم إلى مفهوم السلطة المنظمة للمجتمع، ذلك أن دورها، في المفهوم الحديث، يتجسد في تنظيم القوى الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، ووضع هذه القوى في طريقة تناغمية قادرة على تحقيق الهدف الاجتماعي الأسمى، من خلال وضع نظم ومؤسسات قادرة على إيجاد تفاعل إيجابي سلمي بين هذه القوى عبر سلسلة من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، ينهض هدفها على تحقيق الأهداف الاجتماعية عبر الوسائل التكافلية والاحتضان، وليس عبر الإقصاء والإبعاد والتخوين.
واليوم، تقع على عاتق القوى الديمقراطية السورية مهام عديدة، أهمها هو عدم ترك الساحة للقوى التي تستغل الدين أو الطائفة أو الاثنية أو العشيرة لتحقيق مآرب سياسية، وذلك من خلال العمل على تشكيل أحزاب وتيارات سياسية، إلى جانب تشكيل جمعيات مدنية، وتشكيل تحالفات سياسية، بغية وضع مقدمات بناء دولة لجميع مواطنيها، والاحتكام إلى السياسة، والوقوف بوجه التطرف الديني والنزعات والولاءات والعصبويات الطائفية والمذهبية ولاعشائرية والاثنية، والعمل على جعل الانتماء للوطن، والاختيار للبرامج السياسية، وترجمة مشاعر الوحدة إلى عقد وطني، يراعي التعدد ويقبل الآخر، وقادر على التعبير عن مصالح جميع أفراد المجتمع، والبحث عن مخارج هادئة لآثار وإرهاصات الاستبداد
صحيفة عمان