صفحات الثقافة

مهنة الكاتب: حامي التحوّلات


إلياس كانيتي

ترجمة: حسين الموزاني

تنتمي عبارة “مفردة كلمة الكاتب إلى الكلمات الخائرة العزيمة الكاسدة منذ زمن والتي كان المرء يتجنبها ويتستّر عليها، معرّضاً نفسه للسخرية إذا ما استخدمها، فبات يفرّغها حتى انكمشت ولم تعد تصلح للإنذار بفعل قبحها. ومع ذلك فكلّ من يقدم على هذا النشاط الذي ما زال قائماً، يسمّي نفسه “أحد ما يكتب”.

كان على المرء أن يفكّر في أن هذا مرتبط بالتخلّي عن مطلب مزيّف، وإيجاد مقاييس جديدة للتعامل بصرامة مع الذات، وتجنّب كلّ ما هو خاص يؤدي إلى النجاح غير الشريف. في الحقيقة حدث عكس ذلك من قبل أولئك الذين يهجمون على مفردة “كاتب” بلا رحمة ويطوّرون أساليب الإثارة بوعي ويصعّدون منها. فالرأي التافه القائل بأن الأدّب برمته أصبح ميّتاً قد سُطّر بعبارات جنائزية مثيرة للشفقة وبمثابة بيان طُبع على ورق نفيس ونوقش باحتفاء وجدّية كما لو أن الأمر متعلّق بصرح فكّري مركّب، بالغ الصعوبة. بالتأكيد أن هذه الحالة الغريبة سرعان ما غرقت في تفاهتها نفسها، لكن الآخرين أيضاً الذي لم يكنوا مجدبين على نحو كاف إلى درجة الإسفاف في بيان ما والذي يؤلفون كتباً لاذعة شديدة الألمعية ساهموا بدورهم وعلى عجل في إعلاء شأن صيغة “أحد ما يكتب” فأخذوا يفعلون ما كان يفعله الكتّاب من قبل: أي بدلاً من الصمت صاروا يعيدون تأليف الكتاب ذاته من جديد. ومهما بدت لهم البشرية غير قابلة للإصلاح وتستحق الموت فإن ثمّة وظيفة لها لم تزل باقية: وهي أن تصفّق لهم. فمن لم يعد يشعر بالرغبة في ذلك ومن سئمَ من بنات أفكاره المجترة كان يُلعن مرّتين: مرّة بصفته إنساناً، وهذا بحدّ ذاته لا يعني الكثير، ومرّة أخرى لأنه يرفض الاعتراف بالإدمان اللانهائي على الاحتضار الذي يمارسه ذاك الذي يكتب باعتباره ذا قيمة.

إنكم ستفهمون بأنني، وبناءً على هذه الظواهر، لا أظهر إزاء من يطلقون على أنفسهم لقب كتّاب بكلّ غطرسة شكّاً أقلّ من شكّي بأولئك الذين يمارسون الكتابة وحدها. إنني لا أرى فرقاً بينهم، فهم يشبهون بعضهم مثلما تشبه البيضة بيضةً أخرى، والاعتراف الذي اكتسبوه ذات مرّة يبدو لهم حقّاً قانونياً مدوّناً.

إذ أن في الحقيقة ليس هناك من لا يشكّ اليوم بحقه بوصفه شاعراً شكّاً جدّياً. ومن لا يرى حالة العالم الذي نحيا فيه يتعذر عليه أن يقول شيئاً عنه. فالخطر الذي يتهدده كان في السابق الشغل الشاغل للديانات ثم انتقل إلى المجال الدنيوي. وزواله أمر قد جُرّب أكثر من مرّة، وثمّة البعض، من غير الكتّاب، يرصد هذا الزوال ببرود، وهناك من يحصي فرصه المتاحة، جاعلاً منها مهنة تدر عليه ربحاً ضخماً على الدوام. منذ أن أوكلنا تنبؤاتنا إلى الآلات فقدت التنبؤات نفسها كلّ قيمة، وكلّما انقسمنا على أنفسنا، مفوضين أمرنا إلى جهات خالية من الحياة، ضعفت سيطرتنا على ما يحدث. لقد استحالت سيطرتنا المتنامية على كلّ شيء، سواءً كان جامداً أم حيّاً، لاسيما على شاكلتنا، إلى سلطة مضادة، نتحكم بها نحن تحكّماً ظاهريّاً فحسب. هناك المئات و الآلاف من الأشياء التي يمكن أن تقال حول هذا الموضوع، لكنّ كلّ شيء معروف، والأشدّ غرابة في ذلك هو أنه أصبح وعلى نحو تفصيليّ خبراً صحفيّاً يوميّاً عاجلاً، أي أصبح مبتذلاً تماماً. فلا تنتظروا منّي أن أعيد كلّ شيء من جديد، بل سأتعرّض اليوم إلى موضوع آخر، ينطوي على بعض التواضع.

لعلّ من المفيد أن نجهد أنفسنا ونعمل الفكر فيما إذا كان ثمّة شيء ضمن الوضع الراهن للكرة الأرضية يستطيع من خلاله الكاتب، أو من يحسب نفسه كاتباً حتّى الآن، أن يجعل نفسه نافعاً. على أيةّ حال، وعلى الرغم من نوائب الدهر التي عانت الكلمة تحت وطأتها فإنها بقيت تحتفظ بنوع من الأحقية. وليكن الأدب مثلما يشاء، إلا أنه، شأنه شأن البشرية التي لم تزل متمسكة به، ليس ميتاً. فأين تكمن حياة ذاك الذي يمثّل الأدب اليوم، وما الذي باستطاعته أن يقدمه؟

كنت عثرت عن طريق الصدفة على ملاحظة كاتب مجهول، ولهذا السبب لا أودّ أن أذكر اسمه، لأن أحداً لا يعرفه. كانت تحمل تاريخ: 23 أغسطس\آب 1939، أي أسبوع واحد قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، ورد فيها: “لقد انتهى كلّ شيء، ولو أنني كنت كاتباً حقّاً لتمكنت من منع وقوع الحرب.”

واليوم يقول المرء أي عبث هذا، إذ أنه يعرف ما الذي حدث منذ ذلك التاريخ، أي تطاول! ما هذا الذي كان بمقدور فرد واحد أن يمنعه، ولماذا الكاتب بالذات؟ وهل يمكن التفكير في حقّ بعيد عن الواقع؟ وما الذي يميّز هذه العبارة عن الألفاظ الطنّانة لأولئك الذين أقاموا الحرب بوعي من خلال عباراتهم؟

لقد قرأت هذه الجملة بحيرة، ثم دوّنتها باضطراب متزايد. هنا فكّرت في أنني وجدت كلمة “كاتب” أشدّ ما يثير الامتعاض في نفسي، فهذا مطلب يقف على النقيض التام لما يمكن أن يفعله الكاتب في أفضل الأحوال، ومثل على الادعاء الفارغ الذي يشوّه هذه المفردة ويحمّلها قدراً من الريبة حالما يلطم أحد من أصحاب الحرفة على صدره، مفصحاً عن غاياته الكبرى.

لكن فيما بعد، خلال الأيّام التي أعقبت ذلك، شعرت، متعجباً، بأن هذه العبارة لا تريد الفكاك عنّي، وباتت تخطر في ذهني باستمرار، فصرت استحضرها، وأفككها، فأنبذها، ثم أستعيدها ثانية؛ إن الأمر متروك لي وحدي في أن أجد لها معنى. فبدا غريباً في مطلع جملته: “لقد انتهى كلّ شيء.”، وهو تعبير عن هزيمة شاملة نكراء في زمن كان يأذن ببداية الانتصارات. ولأن كلّ شيء كان موقوفاً على هذه الانتصارات جهرت سلفاً بالنهاية اليائسة، وعلى نحو كما لو أنها واقعة لا محالة. بيد أن الجملة الحقيقية القائلة: “لو أنني كنت كاتباً حقّاً لتمكنت من منع وقوع الحرب” تتضمن بعد تمعن دقيق عكس الادعاء الفارغ، وهو الاعتراف الذاتي بالعجز المطلق. لكنها تعبّر وبشكل أكثر عن الاعتراف بالمسؤولية، وبالتحديد هناك – وهذا ما يدعو إلى الدهشة – حين يكون من النادر أن يتكلم المرء عن مسؤولية بالمفهوم الشائع للمفردة.

هنا تحدّث شخص ما كان يدرك، مثلما بدا، ما عناه بقوله، لأنه قاله في صمت، موجهاً الكلام إلى نفسه. إنه لم يثبّت مطلبه، إنما تخلّى عنه، وقام باتهام نفسه بفعل يأسه مما سيأتي، بدلاً من المسببين الحقيقيين الذين يعرفهم بدقة معرفة أكيدة، فلو أنه لم يكن يعرفهم لفكّر فيما هو قادم بطريقة مختلفة. وهكذا لم يبق ما يشكّل مصدراً للحيرة التي شعر بها المرء في البدء إلا أمر واحد: هو التصوّر الذي كان يحمله عمّا يجب أن يكون عليه الكاتب، وأنه كان يحسب نفسه كاتباً إلى لحظة نشوب الحرب عندما انهار أمامه كلّ شيء.

نعم إنه هذا الادعاء غير العقلاني بالمسؤولية الذي أغراني وجعلني أمعن في التفكير. هنا يمكن القول أيضاً بأنه من خلال الكلمات المستخدمة دائماً بصورة واعية، الكلمات المُساء استخدمها، وصل الوضع إلى الحدّ الذي باتت فيه الحرب واقعة بشكل محتّم. وإذا كانت الكلمات قادرة على خلق هذه الأشياء كلّها، فلماذا لا تستطيع منع وقوع الحرب؟ إذ ليس من العجب أن يتوقع أحد ما يجيد التعامل مع الكلمات أكثر من غيره أن تترك تأثيراً أكثر مما تتركه كلمات الآخر.

بهذا المعنى فإن الكاتب، وربما تسرعنا في العثور عليه هنا، هو من ينتظر الكثير من الكلمات التي يتعامل معها عن طيب خاطر، ربما أكثر من تعامله من الناس، مستسلماً لهما معاً، لكن بثقة أكبر إزاء الكلمات التي يستلها من مواقعها لكي يعيدها إلى أماكنها من جديد بقوّة وفعّالية كبيرتين، بعد أن يكون قد استنطقها وتلمسها ومسّدها وخدشها وسحجها ونقشها، بل أنه يكون أكثر استعداداً أن يزحف أمامها بخشوع بعد كلّ وقاحاته الحميمة الطابع. حتّى لو بدا مذنباً في كلماته فهو مع ذلك مذنب بفعل الحبّ.

ثمّة أمر يختفي وراء هذه الأفعال جميعها، لا يدركه الكاتب دائماً، شيء غالباً ما يبدو ضعيفاً، غير أنه ينطوي أحياناً على نوع من العنف يمزقه تمزيقاً، ألا وهو الإرادة، أي إرادته في تحمّل مسؤوليته عن كلّ ما هو مصاغ صياغة مفهومة في مفردات، وتحمّل نتائج فشله.

فأي قيمة ينطوي عليها الأخذ بهذه المسؤولية الافتراضية من قبل الآخرين؟ ألا يفقدها طابعها اللاعقلاني أيّ قدرة على التأثير؟ أعتقد أن ما يفرضه الإنسان على نفسه يتم التعامل معه بأهمية، حتى من قبل الأشخاص المحدودي المعرفة، أكبر من التعامل مع الشيء الذي يفرض عليه قسراً وإكراهاً.ثم إن ليس هناك ما هو أشدّ قرباً من الأحداث وأعمق علاقة متشابكة معها أكثر ممن يشعر التقصير إزاءها. وإذا كانت كلمة كاتب تبدو منخوبةً بالنسبة للكثيرين فإن ذلك يعود إلى أنهم يقرنون بها تصوراً عن الشكل الظاهريّ وانعدام الجديّة، شيئاً ما ينسحب لكي لا يجعل الأمر بالنسبة له ثقيلاً. إن ربط السلوك المترفّع بما هو جماليّ، على اختلاف أطيافه ومشاربه، قبل الدخول مباشرة في حقبة مظلمة من تاريخ البشرية، قد لا يدركها هؤلاء بأنفسهم، إنما تجثم عليهم، جعل من غير اللائق إبداء الاحترام؛ إن ثقتهم المزيفة وتجاهلهم للحقيقة التي يتفادونها بفعل الاحتقار ليس إلا، وإنكارهم لكلّ صلة بها، وابتعادهم النفسي عن كل يقع عمليّاً – إذ أن هذه الأمور لم يطلعوا عليها في لغتهم التي يستخدمونها – ويفهم من ذلك بأن العيون التي كانت ترى بنفاذ وصلابة تعرض برعب عن هذا الكمّ الهائل من العمى.

ومقابل ذلك هناك عبارات مثل تلك التي استهللت بها رؤيتي هذه. طالما هناك من يتحمل مسؤولية الكلمات، يوجد بالطبع أكثر من واحد، مدركاً الإخفاق التام بحساسية عالية؛ فإن لنا الحقّ في التمسّك بكلمة استخدمها دائماً مؤلفو الأعمال الرئيسية للبشرية، تلك الأعمال التي بدونها لا يمكن أن نمتلك الوعي بما تعنيه البشرية أصلاً. إزاء هذه الأعمال التي نحتاجها ليس أقلّ من حاجنا لخبزنا اليومي، وإن بطريقة أخرى، والتي تسندنا، حتّى لو لم يبق لنا غيرها، وحتى لو نكن نعلم كيف أنها تسندنا، باحثين سدى في الوقت نفسه عمّا يضاهيها في عصرنا، لم يبق أمامنا سوى موقف واحد: وهو أن بمقدورنا، إذا ما أبدينا تشدداً أمام الزمن، وأمام أنفسنا بصورة خاصة، الوصول إلى نتيجة مفادها أن ليس هناك كتّاب اليومَ، بيد أننا نتمنى بعاطفة صادقة أن نحظى ببعض منهم.

لعلّ هذا القول يوحي بالإيجاز ولا يتضمن أي قيمة إذا لم نحاول توضيح ما الذي يجب أن يتمتع به الكاتب لكي يستحق هذا الادعاء.

أودّ أن أقول هنا إن أوّل الأشياء وأهمها هو أن الكاتب حامي التحوّلات، حاميها بمعنيين مزدوجين، أولهما هو أنه يجعل الإرث الأدبي للإنسانية الغنيّ بالتحوّلات ملكاً له. وكم يبدو هذا الإرث غنيّاً، فذلك أمر نعرفه الآن فقط، لأن كتابات الثقافات القديمة فُكت رموزها كلّها تقريباً اليوم. إلى حدّ القرن التاسع عشر كان يمكن لأي أحد معنيّ بجوانب الإنسان الشديدة الأصالة والغموض، أي موهبة التحوّل، الاستناد إلى كتابين أساسين من الكتب القديمة، أحدهما متأخر وهو:كتاب المسوخ Metamorphosis لأوفيد Ovid وهو تجميع منتظم لجميع التحوّلات الأسطورية “الراقية” المعروفة آنذاك، وثانيهما متقدم وهو الأوديسة التي تعالج على نحو خاص التحوّلات المليئة بالمخاطر

لإنسان هو عوليس بالطبع. وتشكّل ذروتها عودةُ عوليس إلى وطنه بصفته متسوّلاً، وهو أذلّ ما يكمن تخيّله، وأشدّ التحوّلات كمالاً، وقد نجح فيها نجاحاً لم يستطع الوصول إليه أيٌ شاعر من بعده، ناهيك عن تجاوزه. ومن المثير للسخرية ربما أن نسهب في الحديث عن تأثير هذين الكتابين على الثقافة الأوربيّة الحديثة، قبل عصر التنوير، ولاسيما من بعده. فلدى أريوستو ARIOSTO مثلما الحال لدى شكسبير وعدد لا يحصى من الكتّاب الآخرين تظهر مسوخ أوفيد بارزة؛ ومن الخطأ تماماً الاعتقاد بأن تأثيرها على الحداثة قد اضمحل. لكنّ عوليس مازال يصادفنا إلى يومنا هذا: إنه أوّل شخص في الأدب العالمي يدخل في المخزون الرئيسي لهذا الأدب، ومن الصعب تعداد خمسة أو ستة أشخاص آخرين يتمتعون بقوّة تأثير مشابهة.

إن أوّل أثرّ أدبي كان موجوداً دائماً بالنسبة لنا هو الأوّل حقّاً، لكنه ليس الأقدم، لأن هناك ما هو أقدم منه قد أفصح عن وجوده؛ إذ لم تمض مائة عام على اكتشاف ملحمة جلجامش العراقية القديمة وإدراك أهميتها. تبتدأ هذه الملحمة بتحوّل الإنسان الطبيعي إنكيدو الذي كان يعيش مع الحيوانات في الغابات إلى إنسان مدينيّ-ثقافيّ، وهذا موضوع يمسّنا اليوم مباشرة، لأننا اطلعنا وبشكل مجسّد ودقيق على حياة الأطفال الذين عاشوا بين الذئاب. ثم تتخذ الملحمة منحى الصراع الرهيب مع الموت إثر وفاة إنكيدو رفيق جلجامش، الصراع الوحيد الذي لا يُخلي سبيل الإنسان الحديث وطعمُ مرارة الخداع الذاتي عالق في فمه. هنا يجب أن أعرض نفسي شاهداً على واقعة غير جديدة بالتصديق إلى حدّ ما: لا يوجد هناك أيّ عمل أدبي، وأعني ذلك بالحرف الواحد، حدد حياتي تحديداً حاسماً مثلما فعلت هذه الملحمة ذات الأربعة آلاف عام، والتي لم يعرفها أحد حتى قبل قرن من الزمان. لقد تعرّفت عليها وأنا في السابعة عشرة من السنّ، ومنذ ذلك الوقت لم تتخل عنّي ، فكنت أرجع إليها كما لو أنني كنت أرجع إلى الكتاب المقدّس، وقد ملأتني بالرغبة في انتظار المجهول أمامنا، فضلاً عن تأثيرها النوعيّ المتميّز. فمن المستحيل بالنسبة لي أن أنظر إلى دليل الأشياء الموروثة التي نستفيد منها كما نستفيد من الغذاء باعتباره أمراً منتهياً، فحتّى لو تأكد بأن ليس هناك أعمال خطيّة مثبتة ذات أهمية ستأتي، فثمة مخزون هائل من التراث الشفهي التي تتناقله الشعوب الطبيعية، وفيه من التحوّلات ما لا ينتهي، وهذا ما يعنينا الآن. فيمكن للمرء أن يقضي حياته لاستيعاب هذه التحوّلات وتحسسها، وستكون هذه ليست حياةً سيئة. قبائل لا يتعدى قوامها أحياناً بضعة مئات من الأفراد تركت لنا ثروةً نحن لا نستحقها بالتأكيد، لأننا نحن من أذنب في انقراضهم، أو أنهم يتعرضون للانقراض أمام أعيننا التي بالكاد تبصر شيئاً. لقد حافظوا على تجاربهم الأسطورية إلى النهاية، والعجيب في الأمر هو أن ليس هناك من ملأ قلوبنا أملاً ونفعنا مثلما فعلت الأشعار القديمة غير القابلة للمقارنة والتي قالها أناس طاردناهم نحن وعاملناهم بغبن وسلبناهم حتى هلكوا بمرارة وبؤس. أولئك الذين كنّا نكنّ لهم الاحتقار بسبب ثقافتهم المادية المتواضعة، فأبدناهم دون تردد وبلا رحمة قد خلّفوا لنا إرثاً فكريّاً لا ينضب. وسيعجز المرء عن تقديم الشكر والعرفان للعلم إذا ما استطاع إنقاذ هذا الإرث، ثم إن مهمة الحفاظ عليه وانبعاثه من أجل حياتنا تقع على عاتق الكتّاب.

كنت قد وصفتهم بحماة التحوّلات، وهم فعلاً هكذا، لكن أيضاً بمعنى آخر. ففي عالم قائم على الإنجاز والتخصص وحدهما، لا يرى إلا الأطراف التي يسعى إليها المرء بأفق محدود مستقيم، مسخّراً قوته كلّها لبلوغ أطراف العزلة الباردة، غير أنه يطمس ويتنكّر لما هو ملقى جانباً، للكثير المضاعف، الأصيل الذي لا يعرّض نفسه مساعداً لبلوغ الأطرف؛ في عالم يحرّم التحوّل أكثر فأكثر، لأنه يتعارض مع الإنتاج الملبّي لجميع الرغبات. عالم يضاعف من وسائل تدميره الذاتي بلا واعز، وينـزع في الوقت نفسه إلى الاختناق بما هو موجود من النوعيات البشرية المكتسبة قديماً والمتعارضة معه، في عالم كهذا الذي يمكن وصفة بأنه من أكثر العوالم غروراً وعمى، يتراءى بأن من الضروري بشكل حاسم أن يكون هناك من يتمتع بموهبة التحوّل هذه ويمارسها على الرغم من كلّ ذلك.

هذه هي المهمّة الحقيقة للكتّاب حسبما أعتقد. وعليهم أن يجعلوا المنافذ مفتوحة بين الناس بفضل الموهبة التي كانت ذات طابع عمومي، ومحكوم عليها الآن بالضمور، لكنهم يجب أن يتمسكوا بها بكلّ السبل. يجب أن يكونوا قادرين على أن يصبحوا أيَّ أحد، بما فيه الفرد الصغير والساذج والعاجز. يجب أن لا تقرّر رغبتهم في التعرّف على تجربة الآخرين داخليّاً من قبل المصالح والأغراض القائمة عليها حياتنا العاديّة، الرسمية إن شئنا القول، بل يجب أن تكون طليقة حرّة من النيّة في النجاح ونيل الاعتراف، إنها الولع بحدّ ذاته، نعم الولع بالتحوّل. لعلّ الأمر يحتاج دوماً إلى أذن مفتوحة، لكنّ ذلك وحدة ليس بكاف، لأن أغلب الناس لم يعدوا نوعاً ما قادرين على الكلام، فيعربون عن أنفسهم في الصحف ووسائل الإعلام بعبارات حسنة الصياغة، مرددين الشيء نفسه دون أن يكونوا هم أنفسهم شيئاً واحداً. وعبر التحوّل وحده بالمعنى المتطّرف الذي تستخدم فيه المفردة يصبح ممكناً تلمّس الإنسان الذي يقف خلف كلماته، فالاستمرارية الحقيقية لما هو حيّ لا يمكن الإحاطة بها إلا عبر هذا الأسلوب. إنها عملية غامضة لم تُحلل بعد طبيعتها، إلا أنها تشكّل المدخل الحقيقي الوحيد للناس الآخرين. لقد حاول المرء تعريف هذه العملية بطرق مختلفة، فتم الحديث عن الانفعال والتعاطف مع الآخر أو التقمّص العاطفي Empathy، لكنني أفضّل كلمة “التحوّل” الدقيقة المعنى، وذلك لأسباب لا أستطيع عرضها الآن. وبغضّ النظر عن التسمية فإن الأمر يتعلّق بشيء حقيقيّ نفيس جدّاً، من الصعب أن يشكّ به أحد. إنني أرى المهنة الأصيلة للكاتب في تمرينه المتواصل وفي تجربته الضرورية مع بشر من جميع الأنماط، لاسيما، وقبل كلّ شيء، مع أولئك الذين نادراً ما يلتفت إليهم أحد. إنني أرى مهنة الكاتب في هذه الطريقة القلقة التي لم يحطمها أيّ نظام أو يشلها. من الممكن، بل من المحتمل بأن جزءاً واحداً من التجربة ينتقل إلى عمله الأدبيّ. أمّا كيف يقيّم المرء ذلك – فذلك متروك مرّة أخرى إلى عالم الإنجازات والأطراف، الذي لا يعنينا أمره في الوقت الراهن، لأننا مشغولون بما سيكون عليه الكاتب، إن وجد، وليس بما سيخلّفه.

عندما أحجم هنا كليّاً عن الحديث حول ما يعدّ نجاحاً، بل أنظر إليه بريبة حتّى، فإن ذلك يرتبط بخطر يعرفه كلّ أحد بنفسه. فالتطلع إلى النجاح، والنجاح ذاته، ينطويان على تأثير تضييقيّ. إن من يعي هدفه يشعر بكلّ ما لا يخدم الوصول إليه باعتباره عبئاً. فيتحرر منه لكي يزداد خفّةً، غير مهتم به، بيد أن ما يلقي به جانباً ربما يكون أفضل مما يعثر عليه؛ المهم بالنسبة هو النقطة التي يصل إليها، قافزاً إلى الأعلى من نقطة إلى نقطة، ويقيس بالأمتار. الموقع بالنسبة كلّ شيء، فهو معيّن من الخارج، ولم يخلقه بنفسه ولم يسهم في تكوينه. إنه يلمحه فيسعى إليه، ومهما كان هذا الجهد مفيداً وضروريّاً في مجالات كثيرة من مجالات الحياة، إلا أنه سيكون مدمّراً بالنسبة للكاتب الذي نريد أن نراه نحن.

على هذا الكاتب أن يخلق باستمرار مكاناً في داخله قبل كلّ شيء، مكاناً لعلم لا يظفر به بغية تحقيق أغراض مجزية، بل للناس الذين يتعرّف عليهم أثناء تحوّله فيستوعبهم. ومادام الأمر متعلّقاً بالعلم فإنه يستطيع الحصول عليه فقط من خلال العمليات النـزيهة القويمة التي تشكّل البناء الداخلي لكلّ فرع من فروع العلم. ولا يرشده إلى اختيار فروع المعرفة الشديدة التباعد عن بعضها الأخذُ بقاعدة واعية، إنما الجوع الذي لا يدرى كنهه. وبما أنه يفتح نفسه كذلك للناس المختلفيّ الأطياف ويفهمهم بالطريقة القديمة ما قبل العلمية، أي طريقة التحوّل، لأنه يعيش حركة داخلية متواصلة، لا يجوز له أن يضُعفها أو ينهيها – فهو لا يجمّع الناس، ولا يلقي بهم إلى الجانب بصورة منتظمة، إنما يلتقي بهم فحسب ويستوعبهم أحياءً -، وبما أنه يتلقى منهم صدمات عنيفة فإن من الجائز تماماً أن يكون التوجه المفاجئ إلى فرع جديد من فروع المعرفة محدداً أيضاً من قبل تلك اللقاءات.

إنني مدرك بأن غرابة هذا المطلب سوف لا تثير سوى الاعتراض، ويشي هذا الكلام كما لو أن الكاتب مشغول بفوضى من المحتويات المتناقضة المتصارعة، ثم إن اعتراضاً وجيهاً جدّاً كهذا لم أكن استطع ردّه إلى حين.

إن الشاعر سيكون أقرب الناس إلى العالم إذا ما حمل الفوضى في داخله، غير أنه، ونحن ننطلق من ذلك، يتحمّل المسؤولية إزاء هذه الفوضى. إنه لا يرضى بها ولم يكن مرتاحاً لها، ولا يتخيّل نفسه عظيماً لأنه يحتفظ بمكان لمتّسع من التناقض والانفلات، إنما يكره الفوضى ولم يقطع الأمل في التغلّب عليها من أجل الآخرين ومن أجل نفسه أيضاً.

لكي يقول شيئاً ذا قيمة عن العالم فعليه أن لا ينحّيه جانباً أو يتفاداه. وبما أن العالم عبارة عن فوضى، على الرغم من جميع الخطط والمقاصد، أكثر فوضى مما كان عليه في السابق؛ لأنه يتحّرك بسرعة متزايدة نحو دماره الذاتي، هكذا، وليس على غرار حذف المحظور* لكي يقدّم للقارئ نظيفاً مهذباً ناعماً، فعلى الكاتب أن يحمل العالم، لكن لا يجوز له أن يستسلم للفوضى، بل عليه التعارض معها ومقاومتها بعنفوان أمله.

فما الذي يمكن أن يعنيه هذا الأمل، ولماذا هو ذو قيمة فقط عندما يتغذّى من التحوّلات التي يكتسبها الكاتب بالانفعالات التي تولدها قراءاته الآنية ثم يقدمها بصراحة لمحيطه الاجتماعي الراهن؟

ad usum Delphini عبارة تعني حذف الكلمات السياسية والأخلاقية “النابية” من الأعمال الكلاسيكية لغرض تقديمها إلى تلاميذ المدارس

هناك إذن قوّة الشخصيات المتمكنة منه والتي لا تريد إخلاء المكان الذي شغلته في أعماقه، فهي تتفاعل من خلاله كما لو أنه مكوّن منها. إنها أغلبيته المنطوقة الواعية، وبما أنها تعيش في داخله فهي تمثّل مقاومته للموت. ومن جملة السمات التي تتحلّى بها الأساطير المتواترة شفاهيّاً هي أن البعض منها لابد أن يتصارع مع نفسه. فحيويتها تضاهي حزمها، ومن معطياتها هي أنها لا تتغير. فقط في بعض الحالات المنفردة يمكن العثور على ما يشكّل هذه الحيوية، وربما نادراً ما تساءل المرء لماذا يتوجب عليها أن تتناقل. إن من السهل وصف ما الذي سيحدث للمرء الذي يواجه واحدةً منها للمرّة الأولى. أعتقد أنكم لا تتوقعون منّي أن أقدم لكم اليوم وصفاً شاملاً، بدونه سيكون الموضوع بلا قيمة. أودّ أن أشير فقط إلى قضية واحدة: وهي الشعور بالثقة والتأكيد القاطع، هكذا كان الأمر، ولابد أن يكون على تلك الشاكلة. وبغض النظر عمّا يلمسه المرء في الأسطورة، حتّى لو بدت هذه الأسطورة غير جديدة بالتصديق ضمن سياق آخر، ستبقى مترفعة عن كلّ شكّ إليها، فهنا ثمّة شخص متفرّد غير قابل للتزييف.

لقد أساء المرء استخدام هذا الخزين الاحتياطي من الثقة الذي وصل الكثير منه حتّى إلينا نحن، معتبراً إيّاه إعارات غريبة شاذة. نحن نعرف معرفة جيّدة سوء الاستخدام السيّاسي الذي مورس مع الأساطير، فحرّفت وخُففت وشُوّهت، فمن طبيعة هذه الإعارات الضئيلة القيمة أن تدوم بضعة أعوام ثمّ تنفجر. – هناك إعارات من النوع المختلف تماماً أقدم عليها العلم، سأذكر منها فقط مثلاً صارخاً: كيفما يفكّر المرء في المحتوى الحقيقي للتحليل النفسي فإن جزءاً كبيراً من قوّتها مستمدّ من مفردة “أوديب”، حتّى النقد الرصين الموجه إليها، والذي ابتدأ منذ فترة، يحاول أن يتعرّض إليها من خلال هذه المفردة.

ويفسّر سوء الاستخدام المختلف الأنواع الذي مورس مع الأساطير قضية الإعراض عنها التي تميّز بها عصرنا. إن المرء يشعر بها باعتبارها أكاذيب، لأنه لا يعرف سوى الإعارات المأخوذة منها، فيلقى بها مع الإعارات جانباً، لأن ما تعرضه من تحوّلات يبدو مجرد شيء غير جدير بالتصديق. ولا يدرك المرء من معجزاتها إلا تلك التي تكشّفت حقيقتها عبر الاختلاقات، غير ملتفت إلى أننا ندين إلى النماذج الأصلية للأساطير التي خلقت هذه المعجزات واحدةً بعد الأخرى.

إلى جانب كلّ هذه المحتويات الاستثنائية النوعية التي تشكّل خصوصية الأساطير هناك سمة التحوّل الذي يمارَس ضمن إطارها. فعبر هذا التحوّل بالذات خلّق الإنسان نفسه، ومن خلاله صار يتبنّى العالمَ ويساهم فيه، وهو مدين بسلطته للتحوّل. وعلينا أن نقرّ بأنه مدين له بما هو أفضل من ذلك ، إنه مدين له برحمته. إنني لا أرتدد هنا من استعمال مفردة تبدو في نظر المطبقين الفكريين غري موضوعية: لأنها نفيت إلى مناطق الديانات، وهذا أيضاً يتعلّق بموضوع التخصص، فصارت تدار هناك ويرد ذكرها. إلا أنها كانت تُبعد عن القرارات النـزيهة المتعلقة بحياتنا اليومية المهيمن عليها تقنّياً شيئاً فشيئاً.

لقد قلت إن من يشعر بالمسؤولية هو وحده يمكن أن يكون كاتباً، مع أنه ربما يفعل أقلّ مما يفعله الآخرون في الذود عنها بأعمال فردية. إنها مسؤولية من أجل الحياة التي تدمّر نفسها، وعلى المرء أن لا يخجل من القول بأن هذه المسؤولية تتغذّى من الرحمة؛ والمناداة بالرحمة باعتبارها شعوراً عاماً غير محدد ستكون عديمة القيمة، إنما هي تتطلب التحوّل الملموس من كلّ فرد موجود ويعيش. وبالأسطورة والآداب الموروثة يتعلّم الفرد التحوّل ويمارسه، وسيكون هذا التحوّل عدماً إذا لم يطبّقه بلا انقطاع على بيئته الاجتماعية. فالحياة الغنية التنوّع السارية فيه والتي تبقى منفصلة حسّيّاً في جميع أشكال تجلّياتها، لا تتلاطم في أعماقه على هيئة مصطلح مجرّد، لكنها تمنحه القدرة على مواجهة الموت، فيستحيل حينئذ إلى شيء ذي طابع عام.

ليس مهمة الكاتب أن يسلّم البشرية إلى الهلاك، فهو الذي لا ينغلق نفسه أمام أحد سيتعرّف بفزع على السلطة المتنامية للموت من خلال الكثيرين. وحتّى لو بدا ذلك للجميع عملاً مغامراً وبلا طائل فإنه سيظلّ يهزّ أركان الموت، لا يستسلم أبداً ولا تحت أيّ ظرف من الظروف. إن كبرياءه هي التي ستجعله يتصدّى لرسل العدم المتكاثرة على الدوام في الأدب، ويقارعهم بوسائل أخرى غير وسائلهم؛ سيعيش حسب قانون، هو قانونه نفسه، لكنه لم يصغ له وحده، قانون يقول:

إن على المرء أن لا يدفع أحداً إلى العدم حتى لو أراده هذا عن طيب خاطر، وعليه أن لا يبحث عن العدم إلا لكي يعثر على طريق الخلاص منه حتّى يرسم الطريق للآخرين. إن على المرء أن يصبر على الحزن واليأس، لكي يتعلم كيف يستطيع إنقاذ الآخرين منهما، لكن ليس بمعنى احتقار السعادة التي تستحقها المخلوقات، حتىّ لو شوّه بعضها البعض ومزّقه تمزيقاً.

تنشر بالاتفاق مع مجلة “فكر وفن” الألمانية.

عن مجلة كيكا

ترجمة جديدة لأصوات مراكش كتاب الياس كانيتي الشاهد السماعي حين يقطع أذنيه السريتين

اسكندر حبش

في العام 1953، قام الياس كانيتي، برفقة أصدقاء انكليز كانوا يصورون فيلماً في المغرب، بزيارة مدينة مراكش. رحلة، جاءت بمثابة «إلهام» لهذا الرجل، الذي سرعان ما حملته أعاصير الألوان المتفردة التي شاهدها في تلك المدينة، كما تنشق روائحها وسمع أصواتها، التي كانت تختلف عن كلّ ما خبره في لندن حيث كان يعيش.

عوالم بقيت عالقة في ذهنه، ليقرر في العام 1958، تأليف كتاب، يعتمد على الانطباعات التي وسمته هناك. فجاء كتاب «أصوات مراكش» ليحمل لنا عبق تلك الرحلة، عبر فصول صغيرة تستعيد الملاحظات والعواطف والنبرات وبالطبع تأملاته الفلسفية. كتاب مدهش، لكاتب، بقي يقف طوعياً على هامش المشهد الأدبي، ولولا جائزة نوبل للآداب التي أدركته عام 1981 لبقي اسمه «مجهولا» من قبل الشريحة الواسعة للقراء. لكن ذلك لا يعني مطلقاً أننا أمام كاتب عادي، بل نحن أمام كاتب متفرد له صوته الخاص والساحر.

تعيد «المؤسسة العربية للدراسات والنشر»، تذكيرنا بهذا الكتاب، عبر ترجمة جديدة له، قام بها كامل يوسف حسين، صدرت حديثاً. سبق أن عرفنا الكتاب، في بداية الثمانينيات بترجمة ممتازة للكاتب حسونة المصباحي (منشورات «توبقال»). يومها كان الكتاب الأول الذي صدر لكانيتي بالعربية، والذي عرّف بصاحب نوبل. لكن لم يستمر هذا التعريف، إذ لم يصدر لكانيتي بالعربية، سوى كتاب آخر (على حدّ علمي) في العام 2009، وهو «شذرات» الذي قام بنقله إلى العربية رشيد بو طيب (منشورات «كلمة»، في الإمارات العربية المتحدة)، وإذا استثنينا بالطبع مقالته «وظيفة الكاتب» ترجمة حسين الموزاني في مجلة «فكر وفن» العدد 54).

بمعنى آخر، لم نر لا روايته الهائلة «الإعدام حرقا» ولا بحثه المهيب «الحشد والسلطة» بالعربية (وأرددّ على حدّ علمي). من هنا، أول سؤال يطرأ على بالي، مع هذه الترجمة الجديدة، ألم يكن من الأفضل ترجمة كتاب آخر لكانيتي، بدلاً من استعادة كتاب موجود وبترجمة جيدة؟ في أي حال، كتاب، يجعلنا نتذكر مجدداً هذا الكاتب المتفرد فعلا، في تاريخ الأدب في القرن العشرين.

القدر

«يمكنكم أن تعيشوا طويلا كي تحصلوا على كلّ ما لم يكتبه لكم القدر». هكذا يختم الياس كانيتي كتابه «قلب الساعة السريّة»، وهو أحد كتبه الأخيرة. كتاب ينتمي إلى ما يسمى «الأفوريسم» (الشذرات) وهي كتابة مارسها بشكل كبير في نهاية حياته مؤكداً من خلال «اصطياده التناقضات» بأنه كان «صاقل الشكوك». لكن ما الذي لم يكتبه القدر لكانيتي؟ المجد؟ جائزة نوبل للآداب عام 1981. اجتياز طويل لعصره في رحلة استغرقت 89 عاماً. لقاء مع جمهوره الواسع حيث عرف الشهرة، وإنّ متأخرة، حين أصدر مذكراته «قصة شباب» و«قصة حياة» بين 1977 و1985 مبتعدا بشكل طوعي عن «كتابة المتخيل» منذ ثلاثينيات القرن العشرين. وحتى قبل أن يموت، اختار كانيتي مقبرته بنفسه، في مدافن «فلوترن» بالقرب من جيمس جويس في زيوريخ، إذ كما كان يقول، إنه اختار أن يكون طيلة حياته صامتاً كمقبرة رافضاً خلال مشواره الأدبي الطويل إجراء أي مقابلة صحافية (سوى واحدة). كان يعتبر هذا النوع من «تقديم النفس» بأنه لا يزيد عن «أمر فاسد» مصرحاً عام 1979 ومستعيداً جملة فوكنر «لن أقول الحقيقة للصحافيين أبداً». كان كانيتي قد صرح قبل ذلك «إن أتعس الأمور أن تكون على الموضة قبل أن تموت».

لم يخاطر كانيتي للحظة في حياته، في أن يكون على الموضة، فهو لم يكن أكثر موتاً كما كان حين كان لا يزال بعدُ على قيد الحياة. ناثر من طراز فريد، مسرحي، روائي (له رواية واحدة بعنوان «الإعدام حرقاً» صدرت له عام 1935)، لم يتوقف أبداً عن أن يكون «تقي اللغة»، لكنه لم يعجب أبداً بأولئك الذين يرغبون في تفجيرها. باحث وفيلسوف له كتاب «الحشد والسلطة» (الكتاب المنارة في الستينيات). جرب الانتروبولوجيا المعاصرة، لكنه لم يرتكز أبداً على ماركس وفرويد. يقع كانيتي في مقدمة نجوم وكواكب الذين يكتبون بالألمانية، لكنه بالتأكيد لم يكن الأكثر ألفة وشهرة بينهم. فمؤلفاته وحياته، تشهدان على هذا الحشد وهذه القوة، لكن لم تكن لساعته إلا «الضربات الخطرة»، كانت تدق «بإيقاع غير معقول للنوع البشري» وهي إن كانت تعلن عن ساعات الكارثة، عن دقائق المشاريع القاتلة، فإنها كانت في الوقت عينه حساسة تجاه السخرية الأكثر حدة، تجاه الكوميديا والعبث، وإن كانت أحياناً، تتلون بأفكار ميتافيزيقية غير مهادنة. ففي رواية «الإعدام حرقاً»، على سبيل المثال، يجد القارئ نفسه أمام عالم مجانين، بينما يجد في آخر أعماله، «قلب الساعة السرية» بأنه أمام حفل صراعات فردية. بالتأكيد هي صراعات أقل اتساعاً ولكنها الأكثر إدراكاً.

جوهر الحياة

«يشغلني جوهر الحياة كلياً». بهذا الشكل يلخص كانيتي أفكاره في السبعينيات، لكننا نعود لنجد في كتب تأملاته الأخرى («حقل الإنسان على سبيل المثال، عام 1973) مئات التحديدات الأخرى لعمله ككاتب ولمفهوم مهمته التي دفعته إلى أن يتبدل ويتجدد باستمرار، متنقلا من المسرح إلى كتب الرحلات «أصوات مراكش» (1953)، ومن النظريات إلى السيرة الذاتية «اللغة الناجية» (أو «اللسان الناجي») ثم «المشعل في الأذن» و«لعبة النظرات». عناوين كتب سيرته المتتابعة. مذكرات تشير إلى أراضيه التي أكملها عام 1974 بكتاب «الشاهد السماعي» و«خمسون صفة صوتية وأخلاقية». عن هذا الشاهد، يقول كانيتي: «يثابر الشاهد السماعي على أن لا يرى، لكنه يسمع بشكل أفضل، يصل، لا يتحرك يتسمر في الزاوية، متوارياً، ينظر إلى كتاب أو إلى رف كتب بشرود، يسمع ما عليه أن يسمعه ويبتعد. غائب وليس معنياً بما يجري، يقال إنه لم يكن هنا أبداً ما إن يختفي… وما أن يصل إلى الخارج حتى يصيخ السمع. يعرف كل الأمكنة حيث هناك أمور عليه أن يسمعها. إنه يجمع كل شيء ولا ينسى شيئاًَ. وحين يقطع أذنيه السريتين، يصبح رجلا لطيفاً، يثق به الجميع، ينادمه الجميع ويبادلونه الأحاديث التافهة. لا يشك أحد في كون ذلك ممكناً، كم أن الناس أبرياء حين لا يترصدونه…».

فمع هذه الطفولة التي شهدها، لم يكن كانيتي يستطيع أن يكون مهووساً باللغة وبرهاناتها، بسحر كلماتها. إنه كاتب نمساوي (الصفة التي أعطتها له لجنة نوبل حين منحته الجائزة)، لكنه أيضاً كان مواطناً بريطانياً (هرب من النازية عام 1938 وعاش في لندن في منفى مستمر) مثلما عاش في زيوريخ وسويسرا منذ 1971، أي في جنته التي سلخ عنها رغماً عنه وهو في السادسة عشرة من عمره. كل هذه التنقلات المفروضة عليه، تقبلها بالقول: «لم آسف أبداً، حين كنت طفلا، في أن أكون منذوراً إلى انطباعات قوية وغنية بالتناقضات. كل مكان جديد كان يسحرني لأنه كان يترك عليّ خاصيته من خلال تشعباته اللامرئية».

الدانوب

ولد الياس كانيتي في 25 تموز عام 1905، في روستوك بلغاريا على الدانوب السفلي. يقول في «قصة شباب» إن صفة بلغاري هي صفة محددة بوضوح «هناك أناس من أصول متعددة كانوا يعيشون هنا، كنا نستطيع سماع 7 أو 8 لغات مختلفة في اليوم الواحد». ذكرياته الأولى كانت «مغمسة بالأحمر»، كان في الثانية من عمره، حين مرّ مجهول بقربه وطلب منه أن يمد لسانه كي يقطعه له. لكن اللسان الأمومي كان لغة «اللادينو» أي إسبانية القرن الخامس عشر. والداه يهوديان شرقيان، جداه جاءا من تركيا (كان لكانيتي جواز سفر تركي يسمح له بالبقاء في فيينا بعد «الأنشلوس»). يتخاطب والداه بالألمانية وبالطبع كانت هذه اللغة، لغة الذاكرة: «كل مشاهد الحياة كانت إما بالإسبانية وإما بالبلغارية، خلال هذه السنوات الأولى، وهي بذاتها كانت تعبر عن نفسها بالألمانية فيما بعد. فقط، كانت هناك بعض الوقائع التراجيدية بخاصة… بقيت محفورة بالإسبانية في رأسي، لكن من خلال تفاصيلها الصغيرة».

كانت الأم تلعب الدور المركزي في حياته، فهي تنتمي إلى عائلة غنية، لكن علاقتها بأهلها لم تكن جيدة. كانت تخشى الموت، وبعد ستين سنة، حلل كانيتي موقف والدته بالقول: «حللت وشرحت السلطة التي زرعتها أمي فيَّ وسط العائلة وبشكل شرس. ليس لديََّ سوى الشر لأصف به الإنسان والإنسانية لكنني لست أقل اعتداداً بنفسي منها مع أنني لا أكره إلا شيئاً واحداً حقيقياً، عدوها: الموت».

هذا الموت حاربه طيلة حياته، معتبراً إياه بأنه مسألة غير ميتافيزيقية: «نكره موت أي كائن كموتنا الخاص، أن نهادن كل شيء، لكن ليس الموت أبداً». التقى هذا الموت بداية مع موت والده الذي أصيب بنوبة قلبية وهو في الثلاثين من عمره. بقي موته هاجس كانيتي إلى أن كشفت له والدته قبيل وفاتها السبب: «كانت خانت زوجها وتباهت بالأمر أمامه».

في العام 1911، هربت عائلة كانيتي مع أطفالها الثلاثة لتعيش في مانشستر في انكلترا. كان والده يتكلم الانكليزية مع أطفاله. كان في السابعة حين مات والده، فرحلت أمه إلى فيينا، إلى «حلمه» وخلال الصيف كان يعيش في لوزان، حين انهمكت الوالدة بتعليم ولدها الألمانية كي يتمكن الطفل من الذهاب إلى المدرسة في وطنه الجديد «فيما بعد، فهمت جيداً أن ليس لحالي فقط، حين زرعت الألمانية داخلي بشدة وعذاب. كانت هي أيضا بحاجة كبيرة إلى أن تحادثني بالألمانية، لأنها كانت لغتها الحميمة». وبين الأم والابن، أصبحت الألمانية «لغة حبنا»، وبعد أن تعلمها بصعوبة «أصبحت ذلك التعلق الصعب الذي من الصعب فكاكه».

الانشداه الميتافيزيقي

بعد فيينا جاء دور زيوريخ من 1916 و1919 ثم فرانكفورت في العام 1922. تلقى المراهق تجربته الأولى من خلال الحشد، كان العمال يتظاهرون ضد مقتل رايثنو، وزير الخارجية، الذي قتله «المتعاملون مع الألمان». «إن ذكرى هذه التظاهرة الأولى التي شهدتها بطريقة واعية، بقيت حاضرة أبداً. إنها المشعل في الأذن. كانت انشداهاً ميتافيزيقياً بحيث لا أستطيع أن أنسى ما دفعني إلى أن أكون جزءاً من هذا الحشد. فيما بعد، وحين وجدت نفسي داخله، انتابني إحساس بأن الأمر يتعلق بأمر جسدي يدعي المركز. بالطبع ليس الأمر شرحاً لهذا الأمر المدهش. لأن ليس لدينا شيء جامد، لا قبل، حين كنّا معزولين ولا بعد حين صرنا في الحشد. ما يحصل لك، حين تكون داخل ذلك، وهو تحميل وعيك بالكامل وهو تحول جذري أكثر منه تحولا سحريا».

تحليل هذا التبدل الذي يكتنفه الغموض، سيكون حاضرا في كتاب «الحشد والسلطة» وسترفده تجربة أخرى في فيينا حيث ذهب لدراسة الكيمياء. 25 تموز 1927: «إنه النهار الأكثر تأثيرا في حياتي منذ موت والدي: حريق قصر العدل. تسعون قتيلا من بين المتظاهرين، الذين رفضوا الخضوع أمام مسؤولي الحزب الاشتراكي الديموقراطي وأصروا على المطالبة بالثأر للعمال الموتى، حيث أخلي سبيل القتلة». يلاحظ كانيتي «القوة المفتوحة» لهذه الكينونة التي ليست في حاجة إلى الفوهرر كي تتشكل لديها قوانينها الخاصة: عنف الرغبة في العيش وخلفية الرعب في المنطقة: إنها أساس هذه الظاهرة.

جاء كتاب «الحشد والقوة» كجواب على حربين عالميتين، على الفاشية وبعض الثورات، وهو ينتهي بهذه الكلمات: «الموت بصفته تهديداً هو عملة القوة. من السهل وضعها فوق بعضها البعض لتجمع رأسمالاً عارماً. لكن الذي يرغب في أن يكون مأخوذاً بالقوة، عليه أن ينظر إلى الأمر رأساً. في عينيه، بدون خوف وفي أن يجد الوسيلة كي يسحر عقربه». في العام 1979 وفي مقابلته الصحافية الوحيدة التي وافق على إجرائها، ونشرت في مجلة «أوسترايكا» الجامعية وقد خصص العدد عن حياته وأدبه، قال كانيتي عن هذا الكتاب: «في الأساس، إنه كتاب تحليل للاشتراكية الوطنية (النازية»).

في عام 1924 التقى كانيتي في فيينا، بكل من كارل كراوس وفيزا كالديرون، أي من الشخصين أثر فيه أكثر من غيره؟ يبدو كراوس من أكثر الكتاب الذين لعبوا دوراً مهماً في حياته مع سويفت وأريستوفان وثربانتس وستاندال وغوغول وليشنبرغ وبوخنر وكافكا. لقد جلب له كراوس «التكوين والثقة الداخلية». لكن الصحيح أيضاً أن فيزا أوحت إليه «بالايمان بنفسه»، تركها مؤقتا اعام 1928 و1929 في فيينا، كي يعيش قليلا في برلين، حيث تردد على بريشت وبابل وغروز. تزوجها عام 1934 واستمر في إهدائها كتبه لفترة طويلة بعد موتها عام 1963.

«الإعدام حرقاً» رواية مجاز كبير عن هذا العالم، حيث الافراد يناجون أنفسهم ولا يتحاورون أبداً. وفيها نجد كل مستويات اللغة التي تؤلف أيضاً مادة جميع مسرحياته «عرس» (1932)، «كوميديا الغرور» (1950)، وهي تروي قصة شخص يبدد ثروته في شراء 25 ألف مخطوط نادر، فيغلق الباب على نفسه ليبدأ بالقراءة وليبتعد عن الواقع، وينتهي به الأمر إلى أن يحرق مكتبته بنفسه وكأن الكتب هنا، كناية عن الانفصال عن الواقع، والدافع إلى الموت. هل كانت الوسيلة كي يبقى حياً وطويلاً من خلال كلماته على الرغم من قوله: «يأتي الموت وينسلُّ في ساعاتنا الأشد عزلة، الخاصة إلى أقصى الحدود. كيف يمكن ألا نستسلم له في النهاية؟».

لتنزيل الكتاب: أصوات مراكش

http://www.4shared.com/file/137847486/2a0116cb/__online.html

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى