مهن خلقتها الحرب في سوريا: التهريب و”التعفيش”… و”الإتجار بالإنسانية”/ علاء حلبي
يتحدث أحمد بفخر عن بطولاته وطرقه في تهريب البضائع، ومدى سطوته على المسلحين في حلب، مستذكراً مجموعة من الحكايات عن تهريب الطحين والدخان والأموال الطائلة التي جناها خلال عمله كمهرب، عند حاجز «كراج» الحجز الذي كان الطريق الوحيد الذي يصل بين شطرَي حلب الشرقي، والذي تتقاسم الفصائل المسلحة السيطرة عليه، والمنطقة الغربية التي تسيطر الحكومة عليها، قبل أن يغلق المعبر بشكل نهائي قبل نحو ستة أشهر، وتتوقف عمليات «التهريب» بين شطري حلب.
وبرغم توقف عمله كمهرب في مدينة حلب، استطاع أحمد تجاوز «محنته»، وتحوّل إلى عمل آخر متعلق بالتهريب أيضاً، حيث سافر، بصحبة مجموعة من أصدقائه، إلى المناطق الحدودية مع تركيا، وبدأ العمل كمهرب من نوع آخر، حيث يعمل على تهريب النازحين وتأمين دخولهم إلى تركيا، بالإضافة إلى تهريب البضائع، مقابل مبالغ مالية متفاوتة يتقاسمها مع مسلحين، يقول إنهم «من ذوي السلطة» في المنطقة.
ويشرح احمد أن المبالغ التي يتقاضاها تحسب وفقا للبضائع التي يتم تهريبها، بالإضافة إلى مبلغ ثابت في مقابل إدخال الأشخاص الذين يتم تهريبهم عبر معابر غير نظامية، عن طريق القرى الحدودية هرباً من «جبهة النصرة» التي باتت تتحكم بحركة العبور في منطقة اعزاز الحدودية.
ومنذ بدء الحرب في سوريا، ومع توقف الحركتين، الصناعية والتجارية، وتوقف العمل الزراعي بشكل كبير، تحوّل عدد كبير من المواطنين للعمل في مهن خلقتها ظروف الحرب وطوّرها المستفيدون منها، ليصبح المزارع تاجر أسلحة، والحلاق وسيطاً لتحرير المخطوفين، في حين تحوّل عدد كبير من المواطنين للعمل المسلح، عن طريق الانخراط في صفوف الفصائل المسلحة، أو حتى الانضمام إلى الفصائل المؤازرة للجيش السوري، والتي يعتبر أبرزها «الدفاع الوطني» و«كتائب البعث».
ناشط في مجال الإغاثة في حلب، على احتكاك مباشر مع مختلف الفصائل المسلحة، أشار، خلال حديثه إلى «السفير»، إلى أن «تجارة الأزمة»، شهدت تطوراً كبيراً وتغيرات «زئبقية»، حيث بدأ الأمر بسرقة المنازل في المناطق التي تسيطر عليها الفصائل المسلحة، وهو ما يطلق عليه اسم «التعفيش» (أي سرقة اثاث المنزل) وبيعه في أسواق خاصة، قبل أن تتطور هذه «التجارة» مع سيطرة المسلحين على المصانع، حيث قامت المجموعات المسلحة والمختصون بعملية السرقة بتفكيك عدد كبير من المعامل وبيعها في الأسواق التركية. كما قامت فصائل أخرى بقبض مبالغ مالية كبيرة من صناعيين وأصحاب معامل مقابل تأمين مصانعهم، أو نقلها إلى مناطق آمنة، وهو الحال ذاته الذي شهدته منطقة سوق المدينة الأثرية، التي تعتبر عصب حلب التجاري، حيث جنت فصائل مسلحة الملايين مقابل تأمين إخراج البضائع من السوق، أو عن طريق سرقة البضائع وبيعها.
وتأتي هذه التغيرات في ظل حرب اندلعت قبل أكثر من ثلاثة أعوام في سوريا، ودخلت مدينة حلب اتونها بعد اندلاعها بنحو عامين، وأدت بمجملها إلى تغيرات جذرية في مختلف جوانب الحياة. ويقدر «المركز السوري لبحوث السياسات»، وهو مركز مستقل، بالتعاون مع وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، في تقرير أصدره في أيار الماضي، معدل البطالة في سوريا بحوالى 54.3 في المئة، أي أن 3.39 ملايين شخص عاطل عن العمل، منهم 2.67 مليون فقدوا عملهم خلال الأزمة، الأمر الذي أدى إلى فقدان المصدر الرئيسي لدخل 11.3 مليون شخص، وهي عوامل دفعت عددا كبيراً ممن لم يقطن في مراكز إيواء المهجرين للبحث عن بدائل وفرتها الحرب.
وفي حين شهدت سوريا في بداية الأزمة، في العام 2011، انتشاراً كبيراً لظاهرة الخطف والسطو المسلح، فقد تراجعت هذه الأنواع من الجرائم لمصلحة أخرى، وأعمال أخرى مرتبطة بالحرب، منها تجارة الأعضاء البشرية التي تنتشر بشكل كبير في مناطق النزاع المسلح، وتتم عن طريق مستشفيات ميدانية، أو حتى بالتنسيق مع مستشفيات تركية. كما نشطت تجارة الحشيش الذي بدأ يزرع في المناطق الشمالية من سوريا، إضافة إلى تجارة الأسلحة، التي خلقت لها أسواقاً خاصة، وبازارات.
ويشير أحد الوجهاء في ريف حلب الشمالي إلى أن فصائل كبيرة تتحكم بمختلف أنواع التجارة الكبيرة، ويفرض مسلحون مبالغ مالية على التجار مقابل السماح لهم بممارسة التجارة، وهو ما يؤكده أيضاً تقرير المركز، الذي يفيد بأن «قوى التسلط المحلية المنخرطة في النزاع، ومن مختلف الأطراف، سارعت، وبدعم من قوى التسلط الخارجية، إلى استغلال الأزمة، وحرف المسار باتجاه النزاع المسلح»، الأمر الذي يؤمن خلق الظروف الملائمة لاستمرار أعمال هذه القوى، وضمان استقرار مصادر دخلها.
وعلى مستوى آخر، أظهرت الحرب بروز أنواع أخرى من التجارة، منها ما بات يعرف باسم «الاتجار بالإنسانية»، وهو نوع من الأعمال احترفه ناشطون يعملون كوسطاء بين الحكومة السورية والفصائل المسلحة، سواء عن طريق تحرير المخطوفين، أم عن طريق تأمين إيصال المساعدات، أم حتى عن طريق تأمين إدخال قوافل غذائية أو وقود إلى مناطق النزاع.
ويعتبر سجن حلب المركزي أحد أبرز الشواهد على هذا النوع من الأعمال، حيث كان مصدر دخل كبير للوسطاء المحليين قبل أن يتمكن الجيش السوري من فك الحصار عنه، حيث كان الوسطاء يتقاضون مبالغ مالية كبيرة جداً مقابل إدخال المواد الغذائية والأدوية الى السجناء.
وظهر بشكل جلي قيام فصائل مســلحة بالاتجــار بالخدمات، وذلك عن طريق استهداف مرافق خدمية بشكــل دوري، وقبض مبالغ مالية مقابل السماح بصيانتها، مثل محولات الكهرباء، أو مضخات المياه، حيث يتم استهداف هذه المرافق، الأمر الذي يؤدي إلى فقــدان ظروف الحياة في المناطق المدنية، ما يشكل ضغطاً كبيراً على الحكومة، التي تعمل عن طريق الوسطاء على تأمين إدخال ورش الصيانة إلى مناطق الأعطال، مقابل مبالغ مالية كبــيرة، لتعود الفصائل وتكرر الاعتداءات بشكل دوري.
وفي حين تتحكم الفصائل الكبيرة، والشخصيات التي حولتها ظروف الحرب إلى «شخصيات قيادية» بالتجارة الكبيرة، تعمل قوى أخرى أقل شأنا وسطوة في تجارة أخرى، تصب جميعها في خانة «الاستغلال»، منها عمليات الاحتكار، وبث الشائعات لرفع الأسعار، او عن طريق بيع المياه والكهرباء مقابل مبالغ مالية كبيرة، يكون ضحيتها بالمجمل المواطن.
وفي نظرة شاملة على سوريا، تظهر الدولة، التي كانت تعتمد الزراعة والصناعة كمصدر للدخل، على أنها دولة ممزقة، اندثرت فيها الصناعات، وتحولت أراضيها الزراعية إلى ساحات للمعارك، يتقاسم المتنازعون عليها «الخراب» والمعتقلات، واستغلال المواطن الذي رفض الدخول في دوامة «الاستغلال»، أو لم يحالفه الحظ في استغلال غيره.
وبرغم اقتراب تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ـ «داعش» من ريف حلب الشمالي، الأمر الذي يجعل مهنة أحمد القائمة على التهريب مهددة، فسيطرة «داعش» تعني خلق مهن أخرى، أبرزها «الصرافة» والاتجار بالعملات التي تنتشر بشكل كبير في مناطق سيطرة التنظيم الذي يضم مقاتلين من جنسيات عديدة، ما يعني توافر أموال مختلفة تحتاج إلى مراكز لتنظيم تداولها، وفق تعبير أحمد.
السفير